الفصل الثلاثون

الظرف

بعد مرور أسبوع، حين تلقَّت فيفيان ثالث خطاب مجهول، لجأتْ لرفيقها المألوف، الخوف، طلبًا للنصح.

كان الخوف قد أصبح ملازمًا لها، ربما بدافع من الإخلاص؛ لأنها من أدخلته بنفسها إلى القرية، حيث حقَّق نجاحًا مُبهرًا على المستوى الاجتماعي.

سيطرت روح، هي مزيج من المرح والثقة، على حفل الشاي الذي أقيم بمنزل الآنسة كورنر، فكانت أشبه بمكنسةٍ جديدة تطرُد كل أشباح الخوف من ثنايا النفس مثلما تزيل الغبار من الزوايا. ولم يخترق ذلك الوميض الأسود الغرفة المضاءة بنور الشمس إلا بعدما خشِيَت فيفيان انكشاف حماقةٍ ارتكبتها في الماضي، فحاولت عقد معاهدة مع الخوف لحماية نفسها.

جلست فيفيان إلى مائدة الإفطار، تعضُّ على شفتيها في أثناء قراءة الخطاب، ونظرت إليها زوجة الشريف في قلق. لاحظت السيدة أن وجه ابنتها صار شاحبًا، وأن هالات سوداء تشكَّلت تحت عينَيها.

ربما كانت الإثارة وراء شحوب وجه فيفيان، إلا أنه لم يكن ثمَّة شكٌّ في أنها فقدت حيويتها. كانت خطبتها هي أقصى ما تطمَح إليه، غير أنها لم تجد مُتعة في الردِّ على رسائل التهنئة التي انهالت عليها منذ إذاعة نبأ خطبتها في الصحافة رسميًّا.

في واقع الأمر، كانت فيفيان في غاية القلق. فقد أصبح الخوف هو المُحرك الرئيس لأنشطتها اليومية. لم تكن فيفيان تخشى على مُستقبلها؛ إذ رفض حسُّها المنطقي أن يتركها فريسة للهلع. لكن طغى عليها إحساس بالمسئولية.

ورغم ما اتسمت به شخصيتها من سطحية، فقد كانت يقِظة الضمير، وتتَّسم بالرصانة والجدية. وقد كانت وفاة السيدة سكودامور ضربة قاسية لها؛ لأنها كانت تفضل صحبة النساء الأكبر سنًّا دائمًا، لغياب المنافسة، ولتزمُّتها على عكس الفتيات الأخرى.

كانت زوجة المحامي قدوتها ومصدر إلهامها؛ لذا بعدما تبدَّدت الصدمة الأولى للفضيحة، شعرت أنها فقدت شخصًا عزيزًا عليها.

كانت فيفيان بريئة من إخفاء أي أدلةٍ محورية في ذلك الوقت، إلا أن موقفها اختلف بوصول أول خطابٍ لها. فقد شعرت فيفيان أنها وحدَها من يملك خيطًا يقود إلى كاتب الخطابات. ورغم أنها لا تتردَّد في أخذ حمَّام شمسي، شِبه عارية على الملأ، فقد خشيت أيما خشية أن تنكشف شئونها الخاصة على الملأ.

جلس الخوف بجوار فيفيان، وهي تقرأ التحذير المطبوع، ونظر من فوق كتفِها.

قال: «ربما استلم شخصٌ آخر في القرية خطابًا اليوم. إذا لم تتحدَّثي فقد يُقدِم أحدهم على الانتحار.»

وإحقاقًا للحق، لقد أقدم على عملٍ طيب في ذلك اليوم؛ ففي الوقت الذي حقَّق فيه هدفه وجعل قلب فيفيان مضطربًا وشفتَيها شاحبتَين، دفع فيفيان للوقوف على قدميها فجأة، وعيناها الزرقاوان مُتقدتان بالقرار الذي اتَّخذَته من رحِم اليأس.

نظرت إليها أُمها خائفة بعض الشيء؛ فقد كان الخوف يُولِي اهتمامًا شاملًا بجميع السيدات، إلى جانب أنه أمضى بعض الوقت في صُحبة زوجة العمدة. لم تنسَ السيدة ذلك الكبت الرهيب الذي ألمحت إليه الآنسة كورنر.

سألت زوجة العمدة: «إلى أين تذهبين يا فيفيان؟»

أجابت فيفيان: «لزيارة القسيس يا أمي.»

قالت السيدة: «انتبِهي لما ستقولينه للقسيس.»

حدَّقت فيفيان إليها في دهشة، في حين حاولت تقديم تفسيرٍ غير مُتناسق.

أضافت السيدة: «ظننتُك تحتاجِين بعض النصائح الروحية فيما يخصُّ الزواج. وأرى أنه يجِب عدم إغفال ذلك الجانب. لكن عندما يتحدَّث المرء إلى رجل دين، يجد نفسه يميل إلى الكشف عن أكثر مما كان ينتوي كشفه.»

ابتسمت فيفيان وقالت: «أشكرك على النصيحة. كل ما سأفعله هو أنني سأصعقه بماضيَّ المُخجِل.»

بعد أن طمأنت فيفيان والدتها بكلامها، قادت سيارتها تحت ظلال الممرِّ الضيق المُشجر الذي تتخلَّله أشعة الشمس، حتى وصلت إلى فتحة النفق الذي تُحيط به أشجار الكستناء من الجانبَين، واتخذتها مرأبًا لسيارتها. وتمكَّنت بفضل هذا الإجراء الاحتياطي من مباغتة القسيس وإيجناتيوس، اللذَين كانا يجلسان ويُدخنان أول غليونٍ لهما في الصباح تحت أشجار الأرز.

ذهب القسيس لاستقبالها، فنظرت إليه نظرةً فاضت توسُّلًا ويأسًا.

قالت: «جئتُك في وقتٍ مبكر من الصباح. لكن لم أستطِع التحمُّل. أنا …»

حاول القسيس تشجيعها على الكلام بابتسامته.

سأل: «هل قدمتِ لمسألة الإعلان عن الزواج؟ أم تُريدين الحصول على تصريحٍ خاص؟»

أجابت فيفيان: «لا، لا، لا شيء من هذا. جئتُك في مسألةٍ خاصة.»

تغيَّر لون القسيس.

وسأل وهو ينظر ناحية إيجناتيوس: «هل نذهب إلى مكتبي؟»

أجابت فيفيان: «لا. أريد أن يسمع السيد براون ما سأقوله.»

أُعجِب إيجناتيوس، الذي كان يتفحَّصها بعينَيه، برَباطة جأشها. كان جسدها الأبيض الصغير يبدو وكأنه غرِق في أعماق مقعد الفارستي الضخم؛ وهي وإن كانت مثل نبات اللبلاب المُتسلِّق في هشاشتها، إلا أن وجهها كان هادئًا ويداها ساكنتَين.

قالت فيفيان: «ليس من السهل عليَّ تفسير ما سأقوله. لكني تلقيتُ ثلاثة خطابات مجهولة.»

قاطعها إيجناتيوس في غيظ: «وبالطبع أحرقتِها كلها، أليس كذلك؟»

أجابت: «بالتأكيد … أسوأ ما في الأمر أنني أعرِف كاتب الخطابات للأسف. وبطبيعة الحال لا أودُّ حتى مجرد التفكير في الأمر، فما بالك بإخبار أحدٍ عنه.»

قال القسيس بجدية: «لكن هذا واجبك. لقد وقعت مأساة بالفعل. ولا بد أن نَحُول دون وقوع أخرى مهما كان الثمن.»

ردَّت فيفيان: «أعرف. وهذا ما يُخيفني. أن تقع جريمة أخرى إذا لم أتحدَّث.»

ضمَّت فيفيان يدَيها بإحكام، وبدا أنها انحرفت عن الموضوع.

قالت: «أتذكُران وقت الحرب؟ عندما لم يكن الوقت يتَّسع للزواج في بعض الأحيان، فيترك المرء العنان لشهوته … حسنًا، لم يحدُث ذلك لي. أريدكما ألا تنسيا ذلك. بعد أن قُتل حبيبي، حزنتُ لأنني لم أحظَ بمِثل شجاعة الفتيات الأخرى. كانت الفكرة شنيعة، لكن هذا كان شعوري … أما الآن، فقد اختلفت الأمور تمامًا. لنفترِض أنني فعلتُ مثل بقية الفتيات. لكما أن تتخيَّلا شعوري حينها. كان الخوف من الفضيحة سيقودني إلى الجنون. ولأنني كدتُ أقع في هذا الأمر، أتفهَّم سبب إقدام السيدة سكودامور على الانتحار … لذا أعرفُ ما قد تَعنيه هذه الخطابات لشخصٍ أقدم على هذه الفعلة.»

قاطعها إيجناتيوس: «لحظة يا آنسة فيفيان. هل نفهم من ذلك أنكِ تعرضتِ للتهديد بالفضيحة من أجل هفوةٍ صغيرة؟»

أجابت فيفيان: «أجل. هفوة صغيرة.» تشبَّثت فيفيان بالكلمة. وأضافت: «سأُخبرك بكلِّ شيء.»

استفاضت فيفيان في الحديث عن زيارات الكوخ وما تلاها؛ إذ أرادت التأكيد على أنها لم تأتِ والشابُّ بيلسون بما لا يليق، وأنهما كانا يتعاملان برسمية.

قالت: «لم نكن حتى صديقَين حميمَين إذا كنتما تفهمان ما أعنِيه. كنا صديقَين فحسب. لذلك من الظُّلم البيِّن … بل من المُشين، أنه أساء الظن فيما حدث.»

سأل إيجناتيوس: «كيف عرفتِ أنه أساء الظن؟»

قالت: «لأنه تغيَّر تمامًا. لم يعُد يُعاملني كالسابق منذ تلك الواقعة.»

أمدَّ إيجناتيوس القسيس بالمعلومات بحذق؛ إذ كانت أمارات الحيرة باديةً عليه.

سأل إيجناتيوس: «أنتِ تتحدَّثين عن الرجل الذي قرع الجرس، ثم نظر من نافذة الكوخ، أليس كذلك؟ أتشُكِّين أنه من كتب هذه الخطابات؟»

قالت: «هل هناك غيره؟ هو الوحيد الذي يعلَم بهذه الواقعة. ولا بد أنه يعلَم الكثير من أسرار مرضاه.» رفع القسيس حاجبَيه الكثَّين بصورة ملحوظة. وسأل: «هل تتَّهمين الطبيب بيري؟» ولكن لم تُجِب فيفيان على السؤال.

قالت: «لقد أخبرتكما بكلِّ ما أعرفه. يجب أن أرحل الآن. إلى اللقاء.»

اكفهرَّ وجه القسيس لكنه أجبر نفسه على الابتسام.

قال: «كان هذا مؤلِمًا جدًّا بالنسبة إليكِ. أشكركِ من كل قلبي. لقد كنتِ في غاية الشجاعة.»

قالت: «لم أفعل سوى ما يُمليه عليَّ الواجب.»

نظرت فيفيان إلى إيجناتيوس نظرةً خاطفة، لكنه لم يُقدِّم لها أي مجاملات؛ إذ كان يفكر بالأدلة المحروقة.

قالت: «لا تصحبني إلى البوابة من فضلك. لن ألفتَ إليَّ الأنظار إذا خرجتُ بمفردي. ولا أريد أن يعلم الطبيب بقدومي إلى هنا. فقد تساوره الشكوك.»

سارت فيفيان عبر ممر السيارات، بخفة مثل فراشة بيضاء، لكن سرعان ما عادت حاملة شيئًا قدَّمته للقسيس.

قالت: «كدتُ أنسى. ها هو الظرف الذي طلبتَه … ولا تنسَ من فضلك. لم أفعل ذلك أبدًا.»

لم يُدرك القس أن الشكَّ كان واضحًا على وجهه، حتى تكلَّم إيجناتيوس، كأنه يُجيب عن سؤال مسكوت عنه.

قال: «لا لَمْ تفعلها يا تيجر. فليس لديها الجرأة. لكن إن روت لك الآنسة بروك هذه الحكاية في يومٍ من الأيام، فالأفضل أن تتحقَّق من صِحة روايتها.» وتناغُمًا مع التغيُّر المفاجئ الذي طرأ على مزاج إيجناتيوس، أرسل بيدِه قبلةً للفتاة البيضاء، التي كانت تنسلُّ من البوابة في خفة.

قال: «نحن مَدينان بكل الفضل لهذه السيدة الرقيقة المناضلة. هلا تُعطيني الظرف من فضلك؟ يجب أن أتصل بالمرأب لإحضار سيارتي. سأذهب إلى لندن على الفور. وسأعود الليلة.»

سأل القسيس: «ماذا ستفعل؟»

«في لندن؟ سأُخبرك لاحقًا. أما الآن فسأدخل إلى غرفة المكتب، وأكتُب رسالة للدكتور بيري. قد يكون هذا سابقًا لأوانه، لكنه قد يكون مُهمًّا. هلا تتولَّى إرسال الرسالة إلى دكتور بيري يدًا بيد، ودون تأخير؟»

حدَّق القس إلى وجه إيجناتيوس القاسي بعينَين مُضطربتَين. وتمتم: «أيجب أن تفعل ذلك؟ أنا أحب الرجل رغم كل شيء.»

اكتفى إيجناتيوس بالابتسام. لقد كوَتْه فيفيان بنار الشك، عن غير قصدٍ منها، عندما أخفت الظرف المُهمَّ حتى آخر لحظة. وقلَّدها دون قصدٍ منه، إذ ظل صامتًا حتى اللحظة التي تحركت فيها سيارته.

علَّق: «لقد حالفنا الحظ عندما تناولنا الغداء في «تاورز». فحينها أخبرتني الآنسة مارتن أن صديقنا المجهول قد ارتكب ذلك الخطأ المتوقَّع.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥