المَخرج
أدى القسيس أمانته على أكمل وجه رغم الاضطراب الذي عصف بذهنه. فأوصلت مدبرة منزله الرسالة إلى يد الطبيب في غضون عشر دقائق من رحيل إيجناتيوس إلى لندن.
نظر الطبيب، الذي كان في عيادته، إلى كلمة «عاجل» المكتوبة على الظرف في ضجَر. فلم يكن ثمة شيء ذو أهمية له في ذلك اليوم، وبالأخص الشئون العاجلة للآخرين.
خلال الأسبوع الماضي، فقدَ الطبيب حُبَّه للاستطلاع، أو بالأحرى انصبَّ فضوله على أمرٍ واحدٍ بعينه. كان يُفكر في الطريقة الأكثر فاعليةً للانتحار، لكن من منظورٍ أكاديمي بحت.
بالطبع لم يكن ينوي إنهاء حياته على الإطلاق. هكذا ظلَّ يُطمئن نفسه مرارًا وتكرارًا. كان حاضره مليئًا بالمشكلات التي على رأسها الموازنة بين دخلِه والنفقات.
كان من المُفترض أن يكون الأمر هينًا؛ إذ تجمع كل العائلات الراقية، حسبما صرحت جوان ذات مرة، بين أصالة النسَب والدخل الخاص. وقالت أيضًا إن الجميع متزوِّجون، وهنا تكمُن المشكلة.
لو أن الطبيب ظلَّ أعزب، لكان من المُمكن الآن أن يعيش في أحضان منزل «سانت جيمس» الدافئة، دون الحاجة إلى أي دخلٍ جانبي مع دخله الأساسي القادم من حِصته من أرباح أسهُمه. لكن منذ زواجه بماريان، اضطرَّ إلى بيع أسهُمه مرارًا، للوفاء بمُتطلباتها التي لا تتوقَّف.
رغم كل ذلك، كانت الحياة مليئةً بالأحداث الصاخبة المُمتعة، حتى وصول الخطاب الأول. راح الطبيب يتذكَّر في حُزن وشوق ذلك الماضي البائد الذي انتهى وانتهت معه عائلة سكودامور وجوليا كورنر.
ربما لم تكنِ القرية الحياة نفسها، وإنما مجرد صورة منعكسة لها في المرآة السحرية لبِركة بلورية. لم يكن بهذه الصورة قُبح أو اضطرابات لكي تجعلها انعكاسًا واقعيًّا للحياة؛ إذ لم يكن بها سوى جمال الأحلام وأوهامها.
لكن هبَّت ريح على الماء، ولوَّثت سطحها، فأصبح كمرآةٍ كدرة. ولم يبقَ شيء على عهده منذ ذلك الحين.
تدفَّق ضوء الشمس عبر سقف العيادة الزجاجي، وراح يخترِق صفوف القناني ويصبغ الجدران والسقف بألوان قوس قزح. وكانت هذه البُقَع المضيئة تتمايل مثل الجنيَّات كلما هزَّت الرياح الأشجار بالخارج. تأمَّل الطبيب المشهد، شِبه مسحور بتراقُص الألوان على الجدران والسقف، وهو يتنهَّد حسرة على ذلك الهدوء الذي تلاشى، عندما كانت أيام راحته مليئة بالزيارات المِهنية التي تختلف عن الزيارات الاجتماعية، وكان الاختلاف الجوهري بينهما أنه كان في الأخيرة يتقاضى المال من أجل احتساء كوبٍ من الشاي.
لقد ذهبت مع الريح العوانس الأثرياء والأرامل الميسورات الحال اللائي حرصنَ كل الحرص على تجنُّب الأمراض، وعلى دفع فواتيرهنَّ في مواعيدها. لا تزال تلك النسوة يسكنَّ في القرية، إلا أنهنَّ كنَّ يعشنَ في كوكبٍ آخر، في حقيقة الأمر.
لم يخطُر ببال الطبيب الانتحار قط. كانت هذه الفكرة أبعدَ ما تكون عن ذهنه. كان يرى الموقف في المُجمَل مُسليًا إلى حدٍّ ما. فلا يزال هؤلاء الأشخاص الطيبون أصدقاءه. ولو اطلع أحدُهم على ظروفه المادية الحالية، لتكالبوا على خدماته الطبية.
لولا همهمات سرَت إلى العلَن، تُلمِح إلى وجود صلةٍ غير مُحددة بينه وبين الخطابات السامة. لم يُصدِّق أحد تلك الشائعة، لكن ظلَّ كل جارٍ ينتظر جاره، كي يتَّخذ زمام المبادرة ضدَّ هذه الخطابات. كانت غريزة القطيع وراء اندفاع الناس للخوف جماعات، ليتفرَّقوا بعدَها مباشرة إلى أحزاب متشكِّكة.
حدث الطبيب نفسه: «هم ليسوا قساة. إنهم خائفون فحسب.»
وقعت عينا الطبيب على الرسالة القابعة في يدِه المُرتخية. كان على وشك أن يفتحها رغم عدم اكتراثه بها، لولا أن سمع خطوات زوجته في الردهة، تعلو حينًا على الأرضية الخشبية وتخبو فوق السجادة أحيانًا أخرى.
لم يكن يرغب في رؤيتها في تلك اللحظة. فقد كانت في حالةٍ مزاجية حادة للغاية على مائدة الفطور، ولم تدَعْه وشأنه بل ظلَّت تلسع ذهنه مثل بعوضة، حتى إنه ما زال يشعر بأنه متورِّم وعاجز عن التفكير بترابُط منطقي.
اندفعت زوجته إلى العيادة بحيوية نابضة تُناقض خموله وفتوره أشدَّ التناقُض.
سألت على الفور: «ممَّن جاءت الرسالة؟»
وضع الطبيب الرسالة في جيبه بدافع الغريزة.
وأجاب: «لا أحد بعينِه. إنها من بيت القسيس.»
نظرت إليه ماريان نظرةً بها مسحة سخرية، وقالت: «إجابة واضحة جدًّا! هل استيقظتَ هذا الصباح يا هوريشيو؟»
«لا أعرف. أشعر بالخمول إلى حدٍّ ما.»
«إذن لِمَ لا تفعل شيئًا بحقِّ السماء؟»
«لا يُوجَد شيء أفعله.»
قالت ماريان بسرعة: «سأُخبرك إذن بما أريدك أن تفعله. تقول المُمرضة إنه إذا لم يذهب الطفلان إلى البحر، فإن أفضل شيءٍ نفعله أن نضع ستارًا واقيًا من الشمس على السطح ليكونا بمعزِل عن البعوض.»
علق الطبيب: «كم هي امرأة عبقرية! لقد استنتجت مباشرة أن الناموس لا يُمكنه السير للأعلى.»
اشتعلت ماريان غضبًا عندما انتبهت إلى لمحة الاستهزاء في نبرة الطبيب الهادئة.
وهتفت بغضب: «على الأقل تهتمُّ بمصلحة طفليَّ أكثر مما يفعل أبوهما. تبًّا، لا تنظر إليَّ هذه النظرة البلهاء … استيقِظ.»
قال: «هذا آخر ما أودُّ فعله.»
قالت: «حسنًا، عُد إلى النوم إذن، وخُذ كفايتك منه.»
قال بصوتٍ يكاد لا يُسمع: «غريب أنكِ تقولين هذا. ولكن للأسف لا بدَّ للنائم أن يستيقظ في نهاية المطاف.» استدارت ماريان واتجهت ناحية الباب.
وقالت: «لا نفعَ منكَ وأنتَ في هذه الحالة. لو كنتُ مكانك لأخذتُ حمامًا باردًا.»
قال: «فعلت ذلك.»
قالت: «خُذ حمامًا ساخنًا إذن. فقد يبثُّ فيك النشاط للقيام بشيءٍ ذي نفع.»
كانت نبرة صوتها تقطُر ازدراءً، لكنها ذابت في التغيُّر المفاجئ الذي طرأ على مزاجها. وفي لمح البصر، انحنت ماريان راكعةً بجوار زوجها، وعانقته بقوة.
قالت وهي تُقبِّل زوجها بحرارة: «فكِّر بي يا حبيبي.»
تمتم الطبيب: «غريبٌ تصرفكِ هذا.»
كانت صفعة الباب قوية، فأعادته إلى وعيِه قليلًا، حتى إنه بدأ يفكر في اقتراح ماريان. حمَّام ساخن؟ كان من اللافت للنظر حقًّا أنها أعطته نصيحةً مناسبة للموقف كهذه.
بينما كان الطبيب شاردًا في التفكير في طُرِق الانتحار المختلفة، استحوذت على عقله طريقة واحدة بعينِها، وهي قطع وريد. لقد شهد بنفسه الرحيل الصادم والصاخب للمُحامي، في حين أنهت السيدة سكودامور حياتها بشكلٍ مُذلٍّ ومُخزٍ. كانت السيدة سكودامور، في نظره، سيدة راقية ذات هيبة، وما كان يليق بها أن تُنهي حياتها في غرفة غسيل الأطباق.
أكد الطبيب على نفسه مرةً أخرى أنه لا ينوي الإقدام على الانتحار. كانت فكرة مُثيرة للاهتمام لا أكثر. وبدأت أُذناه تشتعِلان حرارة، وتذكَّر تلك الخرافة القديمة.
في تلك اللحظة، كان الطبيب محور حديث شخصَين، في مكانٍ آخر في القرية. ففي حديقة جميلة تقليدية، انشغلت سيدتان ترتديان أحذيةً مسطحة تتناسب مع مشط القدم، بتفقُّد أحواض الأزهار المُحيطة بحدود الحديقة والحديث عن الآلام الأولية التي تُنذر بقدوم الشيخوخة.
أعلنت الأخت الصغرى في تحدٍّ: «لا يُهمني. لن أرسل في طلَب طبيبٍ غريب. سأظلُّ وفيةً لطبيبي العزيز الدكتور بيري.»
كان أنف السيدة ذا شكلٍ مميز؛ إذ كان سمةً موروثة من عائلتها، غير أن فمَها كان رقيقًا. ارتفعت زوايا فمِها لتتشكَّل على شفتَيها ابتسامة بسيطة عندما طرحت شقيقتها الكبرى اقتراحًا.
«إذن لِمَ لا تُرسلين في طلبه؟»
سألت الصغرى: «أيُمكننا ذلك؟ لا يستدعيه العمدة أبدًا في الوقت الحالي. لم أسأل عن السبب على الإطلاق؛ لأنني أرفض الخوض في شرَف طبيبي العزيز. لكن الرجال يفهمون هذه المسائل أفضل من النساء.»
ردَّت أختها بحدة: «العمدة مسئول عن نفسه، لا عنك. لا بدَّ أن تقومي بذلك بنفسك. تعلمين أن حمَّى القش التي تُصيبك في نهاية الصيف على الأبواب. من الأفضل أن تطلُبي من ماركام استدعاء الدكتور بيري.»
واستمر الجدل … في غضون ذلك، أجبر الطبيب نفسه على صعود السلالم العريضة المنخفضة والذهاب إلى غرفة النوم، ولم يزل لم يقرَبِ الرسالة.
توقف الطبيب عند بسطة الدرج المربعة، يتأمل الردهة من أعلى كأنه يشاهد مشهدًا من مسرحية. تسلَّل إليه، من الباب الأمامي المفتوح، قبسٌ من العشب المُشمس والأزهار المتلألئة، والظلال المنهمِرة بفعل الرياح مثل حبَّات المطر. وتناهى إلى أُذنَيه هديل الحمام، وضحكات طفلَيه وصيحاتهما. كما انصبَّ انعكاس أحمر من النافذة الزجاجية المصبوغة، على الأرضية البلوطية، فبدا مثل وردة قرمزية.
دلف الطبيب إلى الحمَّام، وثقل العالم لم يبرَح كاهله بعد، وفتح صنبور الماء الساخن. كانت أرضية الحمام مُتسخة لكنها لم تلفت انتباهه. لقد عجزت الفوضى، التي كانت نتيجةً منطقية لاغتسال طفلَيه، عن إعادته إلى وعيِه وإثارة نفوره.
خلع الطبيب معطفه، وطرحه على أحد المقاعد، فانقلب رأسًا على عقب وانزلقت الرسالة من الجيب إلى أرضية الحمام. نظر الطبيب إلى الرسالة، دون أن يتكبَّد عناء الْتقاطها من فوق الأرض؛ إذ انشغل تفكيره بالقرية مرة أخرى.
قال: «حلم جميل هي القرية. كل سكانها لا يعيشون حياةً حقيقية، باستثناء القسيس وجوان بروك اللذَين لا يشعران بالانتماء. العمدة نفسه ليس إلا فضلةً من فضلات الماضي البائدة رغم كل ما يُثيره من صخَب وضجيج. السكان في معظمهم امتداد لأسلافهم لا أكثر. نحن نبدو كشخصياتٍ من رواية ذات حبكةٍ درامية مُمتعة.»
حتى جوليا كورنر، بعدما خفتت ألوانها البراقة وانحسر صوتها في صمتٍ أبدي، بدت للطبيب نتاجًا لخيالها الأدبي. بعد ذلك، خطر بباله استثناء واحد لكل هذا وهو زوجته بشغفِها بالحياة الذي قادها إلى المُستقبل، مثل مُذنَّب ملتهب.
لم تكن زوجته ترضى بالتنازُلات وتأخذ الحياة بقوة، وتتحمَّل عذاباتها ومشاقَّها؛ تستلذُّ بالرياح، وتفرح بالاستيقاظ على يومٍ جديد؛ إذ ينتظرها انتزاع صفحة جديدة من صفحات التقويم الحياتي. كانت حياتها مُفعمةً بالشغف، والألَم والاضطرابات؛ ويداها مُشرعتَين، تتشبَّثان بالحياة بحلوها ومُرِّها.
رقَّ قلب الطبيب لماريان فجأة. وبينما انشغل تفكيره بها، ترك الخوف جانب ماريان — وكان لا يزال الفارس المُخلِّص لها — ليؤدي دور الخادم لزوجها.
همس الخوف: «أنتَ تُحب زوجتك وطفليك. تريد تأمين مُستقبلهما، أليس كذلك؟ اسمع. لم تُنفق من رأس مالك سوى جزءٍ صغير. ولا يزال يتبقى الكثير الذي يمكن زيادته من خلال وثائق التأمين على الحياة الخاصة بك. إذا اضطرَّت زوجتك إلى الاعتماد على نفسها، فستُجبَر على ترشيد نفقاتها من أجل طفلَيها. وسيكفيها دخلها ولو كان صغيرًا. ولن تموت جوعًا.»
سرَت رجفةٌ خفيفة في جسد الطبيب؛ إذ أقرَّ بأن الكلام منطقي تمامًا. ولم يرَ به أي خللٍ يَعيبه.
كان حوض الاستحمام مليئًا عن آخره، فاختبر حرارة الماء بمرفقه. وجد الطبيب الماء ساخنًا مهدئًا، فتخيل المُتعة التي سيحظى بها عندما يستلقي في أعماقه، كأنه في أحضانٍ دافئة يمكن أن ينام فيها للأبد.
همس الخوف: «أنتَ تُعاني من مسمار القدم. ألم يكن من الأفضل أن تُحضر حقيبة الأدوات؟»
ارتدى الطبيب روب الحمَّام بسرعة، لكنه كان في غاية الإنهاك فلم يربط الحزام حول خصره. وعندما وصل إلى الردهة، شعر بدفء الأرضية الخشبية تحت قدمَيه؛ إذ كانت أشعة الشمس تسقط عليها. وكانت هناك هرَّة صغيرة، توقَّفت عن اللعب بالكرة، كي تركض خلف أذيال روبه المُتدلية على الأرض. فاتَّبعته الهرة إلى العيادة، ثم صعدت الدرج وراءه.
لكنها عندما وصلت إلى الحمام، أبصرت الرسالة القابعة على الأرض، وبدأت في افتراسها. كانت القطة تستلقي على ظهرها، وهي تُمسك بالرسالة بمخلبَيها الأمامِيَّين وترفسها بساقَيها الخلفيتَين بقوة، مما دفع بشبَح ابتسامة إلى شفتي الطبيب. دفعت الغريزة الفطرية، لإنقاذ الأشياء من التدمير، الطبيبَ لالْتقاط الرسالة بفتورٍ وتراخٍ من فم الهرة.
سأل الطبيب: «أُتريدين أن تعلمي ما بداخلها؟ حسنًا، سأقرؤها عليك يا قطتي.»
فتح الطبيب الرسالة فحلَّت دهشةٌ عارمة على وجهه. كانت الرسالة من إيجناتيوس.
كان نصُّ الرسالة كالآتي: «ربما يُهمك أن تعلم أنني توصَّلت إلى الشخص الذي كان ينشُر الخطابات المجهولة بالدليل الدامغ. قبل حلول الليل، ستكونُ قد غادرَتِ القرية، وبحلول الغد، سيعلم الجميع اسمَها. هذا إعلان سابق لأوانه؛ لذا لا بد أن تعتبِرهَ سرًّا. لكن لديَّ دافعًا للاعتقاد بأنك تأذَّيتَ من هذه المسألة بشكلٍ شخصي؛ لذا أردتُ أن تكون أولَّ من يسمع بالخبر. خلاصة القول، أُحب أن أقتبس مقولتك العربية الشهيرة: «انقضى الليل أيها الحمَّال».»
بينما كان الطبيب يقرأ الرسالة، تدفَّقت الدماء إلى عقله، ودبَّت فيه الحياة من جديد. هبَّت نفحة أمَلٍ في الجو، تهمس إليه بأن القرية ستعود إلى سابق عهدِها في القريب العاجل. ونسي الطبيب مسمار القدَم، وهو يُدندن فرحًا في أثناء اغتساله.
خرج الطبيب من الحمام، والهرة جاثمة على كتفِه، وإذا بماريان تلتقِي به على بسطة الدرج.
سألت ماريان: «هل استمتعتَ بحمَّام منعش؟ تبدو وقد استفقتَ أخيرًا.»
ردَّ الطبيب: «أشعر ببعض البهجة. لقد تملَّك منَّا البؤس حتى نسِينا أن الوقت يمضي دائمًا.»
وفي أثناء حديث الطبيب، دق جرس الهاتف عاليًا. أسرعت ماريان تُجيب الهاتف، وأشارت بيدِها إلى زوجها، وهي تُنصت إلى الرسالة.
«هنا منزل لوريلز. معكِ خادمة الاستقبال الآنسة فيذرستون. هل الطبيب في المنزل؟»