الفصل الثاني والثلاثون

زيارتان

مرَّ الوقت ببطء شديد على القسيس حتى عاد إيجناتيوس إلى القرية. كان ذهنه يدور في حلقات مفرغة من الترقُّب والرجاء والخوف. وعندما أسرع لاستقبال سيارة صديقه، أنبأته النظرة الأولى إلى وجهه أنه قد عاد مُنتصرًا.

تحدث إيجناتيوس إلى سائقه ثم قفز على الأرض.

قال: «نريد، أنا وبيرجِس، شطيرة سريعة وكوبًا كبيرًا من الشراب قبل أن ننطلِق في طريقنا مرةً أخرى. اتركها هنا يا بيرجِس. ستُحضر لك مُدبرة المنزل بعض الطعام.»

تقدَّم الرجل الضئيل الطريق إلى غرفة الطعام حيث استرخى في أحد المقاعد.

قال مُحدثًا القسيس: «قُدتُ السيارة في طريق العودة إلى هنا. أشعر بالإنهاك. حسنًا، أيها القسيس، في القريب العاجل سأُخلِّص القرية من غريبٍ غير مرغوب فيه.»

كرر القسيس بفتور: «غريب؟ إذن … فالطبيب بريء.»

قال إيجناتيوس: «ليس الطبيب، حمدًا للرب. إنها امرأة بالطبع … متى جئتَ إلى هنا يا تيجر؟»

أجاب القسيس: «منذ نحو ثلاث سنوات.»

قال إيجناتيوس: «حسنًا. أعتقد أنكَ إذا كتبت رسالةً إلى إحدى بنات مارتنز، ستضع اسمها الأول على الظرف تجنُّبًا لأي خلط، أليس كذلك؟»

أجاب: «بالطبع. فالجميع هنا يُنادونهنَّ بأسمائهن الأولى. فهنَّ فتيات لطيفات ويتعاملنَ بلا رسميَّات.»

هبَّ إيجناتيوس واقفًا وقال: «هذا كل ما في الأمر»، ثم خرج من غرفة الطعام وهو يتناول شطيرةً بشهية. سأل: «أتريد أن تعلَم أين كنتُ؟»

«أجل.»

«حسنًا، ستعلم قريبًا.»

ظل القسيس صامتًا، لخوفه مما قد يسمعه من ناحية، ومن ناحية أخرى لرغبةٍ مشوشة لدَيه في اختبار قوة شخصيته. وحدَّث نفسه بأنه إذا عجز عن تحمُّل الترقُّب وعذابه، لفترة محددة من الزمن، فما هو إلا جبان ضعيف.

علاوة على ذلك، لاحظ القسيس الحالة المِزاجية غير البشرية التي تلبَّست إيجناتيوس، حيث بدا أشبهَ بأحدِ عناصر الكون الأسطورية، وأقدم من التلال نفسها.

أراد إيجناتيوس عرض ما سوف يقوم به، لاهيًا عن أي شيءٍ حوله في الطبيعة، على غرار مُخرج استعراضٍ مسرحي. قاد إيجناتيوس الطريق، وهو يحشر شطيرة أخرى في فمِه، إلى السيارة المنتظرة حيث أملى أوامره على السائق.

قال: «إلى «ذا كورت».»

جلس القسيس صامتًا يتفصَّد عرقًا، في أثناء الجولة القصيرة بالسيارة. وعندما بلغا المنزل، طلب إيجناتيوس من الخدم رؤية الآنسة بروك. وانتظر هو والقسيس في غرفة الاستقبال، حيث نظرا من نوافذها الضخمة إلى حديقةٍ مُنسَّقة، تزدهر فيها زهور سيف الغراب بدلًا من السوسن. بعد برهة من الزمن، ركضت جوان إلى الغرفة ووجهها يشعُّ ترقبًا ولهفة.

سألت، وهي تنظر إلى القسيس، في لهفة: «هل أردتَ مقابلتي؟»

قال إيجناتيوس: «أنا مَن طلبتُ مقابلتك. ألديك آلة كاتبة محمولة؟»

أجابت: «هاه … أجل.»

قال: «إذن هلا أحضرتِها إلى بيت القسيس في صباح الغد للقيام ببعض أعمال السكرتارية الخاصة والسرية؟» فحدقت جوان إليه في دهشة.

أجابت: «لا أجرؤ على طلب الإذن بذلك من ليدي دارسي.»

قال إيجناتيوس: «ستوافق إذا علِمَت بالظروف الحالية. أريدكِ — بمساعدة القسيس — أن تنسخي عدة نُسَخ من اعتراف الشخص الذي كان يكتب الخطابات المجهولة، وتُرسلي نسخةً لكلِّ شخصٍ في القرية.»

فغرت جوان فاها، واتسعت عيناها في ذهول. وشهقت وهي تقول: «أتعرِفه؟ مَن هو؟»

نظر إليها إيجناتيوس وعلى مُحيَّاه ابتسامته العريضة القديمة المُتغضِّنة.

قال: «ستعلمين بالغد. ليكن عزاؤك أنك ستحصُلين على الطبعة الأولى من الخبر قبل أي شخصٍ آخر في القرية.»

أبدت جوان إيماءة تبرُّم وسخط.

وقالت: «ولكن لا أُطيق الانتظار.» وأومأت ناحية القسيس وسألت: «أيعلم هو؟»

أجاب إيجناتيوس: «لا، لذا لا تحلمي بالحصول على تلك المعلومة منه. لكن، في القريب العاجل، سيأتي معي للقاء السيدة المُتهمة في القضية.»

نظرت جوان إلى إيجناتيوس في انتباهٍ وبدأ يلوح في عينَيها نظرة فزع، وقالت: «سيدة؟ يا إلهي! أستطيع تخمين وجهتِك المقصودة.»

ردَّ إيجناتيوس: «أجل، أعرف ذلك.»

«هذا مُرعب … لكن يبدو وكأنني كنتُ أعرف الحقيقة منذ البداية.»

قال إيجناتيوس: «أجل، لقد كنتِ تقِفين في الكواليس. أتذكُرين الليلة التي تجوَّلنا فيها في القرية؟ بالمناسبة، لقد أعطيتِني تلميحًا مفيدًا.»

سألت: «أنا؟ متى ذلك؟»

أجاب: «عندما أشرتِ إلى أهمية الانطباع الأول.»

تهلَّل وجه جوان وهي تنظر إلى القسيس وقالت: «أنا مسرورة لأنني كان لي ولو بعض النفع. لكن لا أصدق أن القرية ستعود إلى سابق عهدها حقًّا.»

أعلن إيجناتيوس: «في غضون أسبوع ستنجبِر حلقتُك الاجتماعية المكسورة مرة أخرى.»

هتفت جوان: «رائع جدًّا! ستعود الأيام الخوالي. وندين لك بالفضل والشكر في ذلك.»

كان القسيس يعلم ماذا تعني بكلامها. فقد انخفض الحاجز الذي كان يقف حائلًا بينهما. ولم تكن ابتسامة جوان سعيدة فحسب بل مُسيطرة وتملُّكية أيضًا. فشعر بالحيرة والارتباك أمام هذه الدفقة المفاجئة من الحظِّ السعيد.

أعاد صوت إيجناتيوس الحادُّ العاشقَين إلى أرض الواقع.

قال: «ليس هناك ما أشكرك عليه، على أي حال، يا آنسة بروك. لقد ضلَّلتِ الآنسة كورنر التحقيق في المرَّة الأولى، وأنتِ في الثانية. كانت كذبتك غبيةً وخطيرة في آنٍ واحد. كان من المُمكن أن تُوقعكِ في ورطةٍ خطيرة. لا شكَّ أنك كنتِ خائفةً من خسارة وظيفتك. أليس كذلك؟»

عضَّت جوان على شفتَيها في تردُّد، فحاول إيجناتيوس طمأنتها.

قال: «لقد زال الخطر الآن؛ فلن يخرُج شيء من باب هذه الغرفة. بالإضافة إلى أن جدَّتُكِ رحلت عن الحياة منذ أمدٍ بعيد … لماذا كتبتِ الخطاب المجهول للسيدة بومفرت؟»

اصطبغت ابتسامة جوان بجرأة مفاجئة.

وقالت: «خلتُ ذاكرتك ستُمدُّك بالإجابة. ألا تذكُر المرة الأولى التي الْتقَينا فيها عندما قصصت عليَّ قصة عن كلب؟»

أجاب: «أجل. كانت من تلفيقي.»

علقت جوان: «حقًّا؟ هذا مُسلٍّ، لأنها أعطتني نصيحةً مفيدة. كانت السيدة بومفرت تُجوِّع خادمتها الشابة. أخبرتُك بذلك عندما التقَينا بها، في مساء ذلك اليوم.»

أخفى إيجناتيوس انزعاجَه.

وقال: «هذا صحيح. لقد تحدَّثَت السيدة بومفرت عن اتهامٍ بغيض لا أساس له من الصحة. أكان خطابك جارحًا؟»

أجابت جوان: «بالطبع لا. كتبتُه مثل سيدة تخاطب سيدة أخرى. تظاهرتُ أنني إحدى صديقاتها. قلت إنني شعرت بالاستياء من الشائعات المُشينة والكاذبة المتداولة في القرية حول شحوب إيدي ونحولها. أخبرتها أنني لم أُصدِّق أيًّا منها، شخصيًّا، لكني فكرت أن من واجبي أن أخبرها بالأمر.»

قاطعها القسيس قائلًا: «لكنكِ تتَّهمينها اتِّهامًا شنيعًا يا جوان. السيدة بومفرت آخِرُ شخصٍ يمكن أن يُعامل فتاة بقسوة.»

نظرت جوان إلى إيجناتيوس نظرة عابسة ذات مغزًى.

وسألته: «ماذا قلتُ لك؟ لن يُصدِّق أحد الأمر. لكن الأمور على ما يُرام الآن. ما حدث كان خطأً وصُحِّح. وهي أيضًا فزعت من الاتهام … كانت كذبتك موفقةً يا سيد براون.»

قال إيجناتيوس: «وكذبتكِ أيضًا. فقد منحتني فرصةً لإدراك معدنك الحقيقي. عمتِ مساءً يا آنسة بروك.»

غادر إيجناتيوس الغرفة كي يمنح القسيس الفرصة لوداع جوان على انفراد. وعندما نزل القسيس درج الرواق المُعمَّد — بوجهٍ وقلبٍ مُتَّقدَين كالجمر — سرَت في جسده قشعريرة عندما سمع الوجهة التي أمر إيجناتيوس السائق بالتوجُّه إليها.

«إلى سباوت مانور.»

بدت الرحلة إلى هناك للقسيس كابوسًا خياليًّا، وكانت دلالة العنوان صادمة وبعيدة عن التصديق. عادت إلى ذاكرته تلميحات قديمة سمِعها في السابق، لكنها صارت مُحمَّلة بمعانٍ قبيحة. وما كانت عينا جوان المُتسعتان وشفتاها الفاغرتان إلا دلالة على معرفتها بما يعرفه إيجناتيوس، أمرِّ هذه الذكريات وأقساها.

فكَّر القسيس أنه فقد الكثير من مُثله العُليا، وعانى أشدَّ المعاناة من خيبة الأمل. لذلك لن يُطيق أن يشهد سقوط قديسةٍ من عليائها.

بدأ الليل يرخي سدوله والنهار ينقضي بزخةٍ خفيفة من المطر. وصل القسيس وإيجناتيوس إلى قصر «سباوت» وسط شفَقٍ رطب. وبدا المنزل القديم خاويًا بلا أي بصيصِ ضوء؛ وبينما كانا ينتظِران أن يُفتح لهما الباب، سمِعا خرخرة الماء الحبيس في كل مكانٍ من حولهما.

بدا المكان مسكونًا بالخطيئة والمعاناة. وعندما فتحت خادمة الاستقبال النحيفة الباب، تراجع القسيس، الذي كان قد وصل إلى أقصى درجات الجلد، إلى الخلف كأن هناك ما يلوث الأجواء داخل القصر.

أحسَّ القسيس أن القصر القديم تعيس ومريض مرَض الموت. لقد ذهبت عنه سكينتُه، ولم يعُد يحلم بأيام الماضي مِثله تمامًا.

قادتهما روز إلى غرفة الاستقبال المكسوَّة بالألواح الخشبية، والتي كانت خانقةً بسبب غياب التهوية إلى جانب أنها كانت دافئةً ورطبة. كانت جميع المصاريع مُوصدة بإحكام، وراحت نار خافتة تحترق ببطءٍ في موقد البيت المعدني المنخفِض.

كانت السيدتان تجلسان في مكانيهما المُعتادين، حيث جلست الآنسة أسبري في بقعة من الضوء، والآنسة ماك في الظلام. رفعت كلتا السيدتَين رأسها عندما دخل الرجلان، لكن قبل أن تتفوَّه الآنسة أسبري بكلمةٍ واحدة، اتَّجه إيجناتيوس نحو الآنسة ماك وناولها الظرف الذي أعطته له فيفيان.

قال: «هذا لكِ.»

نظرت إليه الآنسة ماك بابتسامتها الهادئة المُعتادة. كان لوجهها اللامع وعينَيها الزرقاوَين الصافيتَين الهادئتَين أثرهما على القسيس؛ إذ ذكَّرته بالدُّمى الخزفية. بعد ذلك، ألقى القسيس نظرة سريعة على الآنسة أسبري، ولاحظ كيف برزت عروق يدَيها مثل الحبال المُنتفخة وهي تقبض على ذراعي مقعدِها.

كانت وضعية الآنسة أسبري المتوترة وتعبير وجهها الجامد يشهدان بوضوح على شدة خوفِها. بدت كأنها تترقَّب نزول صاعقة عليها ستُدمِّرها.

أخذت الآنسة ماك الظرف وتفقَّدته بسرعة، ثم اتجهت صوب مقعد الآنسة أسبري.

قالت: «هذا لكِ.»

سرَت رجفة عنيفة في جسد الآنسة أسبري، تركتها جامدة مُتخشِّبة، كأنها صُعقت بتيارٍ كهربائي سلبها حياتها.

كسر صوت إيجناتيوس الحاد حاجز الصمت.

قال: «كنتُ أنتظر أن تخطي الخطوة الخاطئة يا آنسة ماك. وقد فعلتِ عندما وجهتِ ذلك الخطاب إلى «الآنسة كيه مارتن». أي ساكن في القرية لم يكن ليقع في مِثل هذه الزلَّة؛ لأن أسماء الشقيقات الأربع تبدأ بالحرف نفسه.»

ظلَّ وجه الآنسة ماك خاليًا من أي تعبير، في حين واصل إيجناتيوس تفسيره. قال: «كانت عائلة مارتنز بالخارج عامَين؛ لذا فإن الشخص الذي أرسل الخطاب لا بدَّ أنه قد مضى على إقامته بالقرية أقلَّ من عامَين. وبطبيعة الحال كان هذا الشخص سيفترِض أن السيدتَين الموجودتَين في منزل «تاورز» في الوقت الحاضر هما «الآنسة مارتن» و«الآنسة كيه مارتن» على التوالي، لا سيما وأنه لم يتعرَّف عليهما بشكل رسمي.»

ردَّت الآنسة ماك بلا اكتراث: «ربما كان الخطاب مُرسلًا لأي واحدة منهن. فجميعهنَّ يتفاخرنَ بصفقاتهنَّ الرابحة.»

علَّق إيجناتيوس: «ملحوظة ذكية. لكن … مِن أين عرفتِ بمحتوى خطابهنَّ المجهول؟»

لم تحاول الآنسة ماك تبرئة نفسها؛ إذ ظلت سيدة الموقف بفعل ابتسامتها الهادئة.

سألت الآنسة ماك: «لماذا جئتَ إليَّ تحديدًا؟ فالآنسة بروك حديثة العهد بالقرية مقارنة بي.»

ردَّ إيجناتيوس: «ملحوظة ذكية أخرى. لولا أنني أمتلِك نموذجًا لخطِّ يد الآنسة بروك. عُدت للتوِّ من لندن، حيث سلَّمت ظرف الآنسة بروك، والذي بين يديَّ الآن، لأحد المُختصِّين في خطوط اليد. وقد جزم المُختصُّ بأن الآنسة بروك لم ترسِل هذا الظرف.»

قالت الآنسة ماك وهي تحاول بصعوبة الإفلات من المصيدة من جديد: «بالطبع لا. هي من كتبته.»

وأشارت إلى الآنسة أسبري، التي جلست في مقعدها، شاحبة ومُتخشبة مثل امرأة ميتة.

سأل إيجناتيوس بهدوء: «هل يمكن إثبات ذلك؟»

أجابت الآنسة ماك: «يُمكنني إثبات أنها من كتبت الخطاب الأول، الخطاب المرسَل إليها. لقد بدأت الآنسة اللعبة مع نفسها، حتى لا تُثير شكوك أحد. لكني أملك نسخةً من الخطاب مكتوبة بخطِّ يدِها. وعندما يراه الناس هنا، سيعلمون مَن كان يرسل هذه الخطابات، وساق عائلة سكودامور والآنسة كورنر إلى حتفِهم.»

تقلَّصت عضلات الآنسة أسبري مرة أخرى فصارت هادئةً حدَّ التجمُّد. نظرت الآنسة ماك إلى مخدومتها، في حين واصلت الحديث.

قالت: «ستُجبَر على الرحيل من القرية. الجميع يعلم أن لا أحد يكتب خطابًا لنفسه، يقول فيه إن حقيقته تُخالف ظاهره، إلا إذا كان لدَيه سِرٌّ يُخفيه.»

نظر القسيس إلى الآنسة أسبري، وانتظر أن تُنكر التهمة. لكنه شعر بخيبة الأمل من منظرها المُثير للشفقة؛ إذ انعكس على وجهها شعورها بالخِزي والذنب. كان وجه الآنسة الشاحب قرمزيًّا، وعيناها مطرقتَين، وارتجفت أصابعها وهي تُحاول أن تُمسك بذراعي مقعدها.

نظر إيجناتيوس إليها أيضًا، وهو يتحدَّث بصوتٍ لم يخلُ من مسحة احترام.

قال: «أجل، لا أحد يُمكنه أن يكتب مِثل هذا الخطاب إلا الآنسة أسبري، مثلما قلتِ يا آنسة. ولا جدوى من أن أحاول أن أشرح لكِ مدى طُهر نفسٍ لا تحمل من طبائع الدنيا مثقال ذرة، وكأنها تنتمي إلى دُنيا الملائكة وكبرائهم. والآنسة أسبري لا تقنع بما هو أدنى من الكمال، وهذا مما تعجز عنه الطبيعة البشرية. وليس لها مثالب في شخصِها؛ لذا أثقلت نفسها بالتفكُّر في آثام الآخرين.»

وبينما كان القسيس يُنصت إلى الحديث الدائر، خشِيَ أن يكون إيجناتيوس قد تعدَّى حدود السذاجة؛ إذ لا يمكن لأحدٍ أن يتقبَّل مِثل هذا المدح المبالَغ فيه.

لكن أصابته استجابة الآنسة أسبري بالدهشة؛ إذ سرعان ما تفاعلتْ مع هذه الجرعة المُفرطة من الثناء. ففي غضون جُملتَين اثنتَين، اختفى شعورها بالخزي والذنب، واستعادت هدوءها ومهابتها.

اتضح للقسيس أن إيجناتيوس يعرف بالضبط كيفية التعامُل مع الموقف الحسَّاس، لذا لم يعد قلقًا بشأن مآل الأمور، وراح يتابع المبارزة الكلامية بينه وبين الآنسة ماك باهتمامٍ شديد. لم يكن ثمة شك في أن محاولة الإيقاع بالآنسة ماك ستكون في غاية الصعوبة؛ إذ كان عدم اكتراثها البادي في ابتسامتها الهادئة يُخرجها من أي مصيدة مثل الشعر من العجين. ولم تحاول الآنسة ماك تبرئة نفسها، واكتفت بتحدِّي إيجناتيوس بأن يُثبت جرمها؛ إذ كانت تثِق في قدرتها على الإفلات من أي فخ.

قال إيجناتيوس: «أنا سعيد لأنكِ ذكرتِ مسودة الخطاب الأول. كنتُ سأفتح هذا الموضوع بنفسي. أعلم أن لديك المسوَّدة بكل تأكيد … وأنا أريدها من فضلك.»

ابتسمت الآنسة ماك وقالت: «وأنا أيضًا. هل لدَيك لي عرض؟»

«أجل.»

«وما السعر الذي ستدفعه لي في مقابل ذلك؟»

«وعْد من الآنسة أسبري بألَّا تُقاضيك.»

سألت الآنسة ماك وهي ترفع حاجبَيها الأشقرَين: «تُقاضيني؟»

«بأي داعٍ؟»

«بداعي الابتزاز.»

«كيف علمتَ بذلك؟ فالآنسة أسبري لا تكتب لي أي شيكاتٍ باستثناء شيك راتبي.»

خشي القسيس أن يكون إيجناتيوس هو الذي تلقَّى ضربةً قاضية. لقد كان في مواجهة عدوٍّ غير ملموس لا يقوى على قتاله؛ وهو روح القرية التي كانت تكرَه الكشف عن أي مسائل شخصية. كان الرجل الضئيل يُدرك هذه الحقيقة، وبدت ثِقته بنفسه مبالغًا فيها نوعًا ما، وهو يستميل الآنسة أسبري.

قال: «سأحصل على شهادة الآنسة أسبري بأنها دفعت لك مبالِغ مالية، من وقتٍ لآخر، كي تشتري صمتك. وستكون كلمتُها في مقابل كلمتك.»

هزَّت الآنسة أسبري في كبرياء باردة.

وقالت: «أنا آسفة، لكنني أفضل ألا أفعل شيئًا من هذا القبيل.»

سكت إيجناتيوس هنيهة، قبل أن يلتفت إلى الآنسة ماك، وهو يشعر بالثقة من جديد.

قال: «في هذه الحالة، يا آنسة ماك، فأنت مسئولة عن تبرئة نفسك. يُمكنكِ أن تُطلعينا على دفتر التوفير البريدي، لنرى هل تتوافق المَبالغ التي تُودعينها في حسابك مع راتبك الشهري.»

فهمت الآنسة مقصده، إذ هزَّت رأسها بدورها.

وقالت: «لا. كما أنه لا جدوى من ذلك. فلديَّ مسودة الخطاب. وهي لا تُريد أن يعرف أصدقاؤها أنها من كتبته.»

سرت تلك القشعريرة العنيفة في جسد الآنسة أسبري مرةً أخرى، لتُمزِّق هدوءها الخارجي. فتحدث إيجناتيوس بنبرة ثقةٍ هادئة لطمأنتها.

قال: «لن يعلم أحد على الإطلاق. فقد لجأت الآنسة أسبري إلى كرسي الاعتراف. ولن يخذلها.»

والتفت إلى الآنسة ماك.

وقال: «هذا عرضي لكِ. لقد اعترفتِ ضمنيًّا أنكِ تتعاملين مع مكتب البريد في معاملاتك المالية، مما يعني أن الأموال التي دفعَتْها لك الآنسة أسبري لا يمكن أن تتخطَّى رقمًا بعينِه. وأعتقد أن الآنسة أسبري ستُفضِّل تجاهل خسارتها المادية عن التعرُّض للمُضايقة.»

أحنت الآنسة أسبري رأسها المهيب علامة الموافقة.

واصل إيجناتيوس كلامه: «لذا لن تُقاضيك. ستنقلكِ سيارتي إلى لندن الليلة، وستتركك في نُزل سانتا مونيكا للسيدات حيث سيكونون في انتظارك. هناك سيوفرنَ لكِ وظيفةً مجزية وسهلة. فنحن نأخذ في الاعتبار الظروف الغريبة المُحيطة بوضعك. وستواصل الآنسة أسبري عنايتها بك، لكن من بعيدٍ وبشكلٍ غير مباشر. وأُحذرك من أن أفعالك ستكون خاضعة للمراقبة؛ لذا من الأفضل أن تكوني أكثر حيطةً في المستقبل. أليس هذا العرض جيدًا وسخيًّا؟»

أجابت الآنسة ماك: «أجل.»

قال إيجناتيوس: «فكري في السيناريو البديل. سيَنفَد مالك في القريب العاجل. كيف سيكون مُستقبلك بلا أصدقاء ولا وظيفة ولا توصية حينئذٍ؟ كما أنكِ لستِ جذَّابة بما يكفي لحياة الليل، ولا بارعة بما يكفي لحياة الجريمة. ستعودين إلى حيث كنتِ قبل أن تُصاحبكِ الآنسة أسبري … امرأة فقيرة مُعدمة.»

وافقته الآنسة ماك: «أجل.»

واصل إيجناتيوس: «يسعدني أنكِ تتصرَّفين بعقلانية. في المقابل، سأطلب منكِ شيئًا واحدًا فقط، وهو مسوَّدة خطاب الآنسة أسبري، مع توقيعك على هذا الاعتراف … هل تودِّين قراءته أولًا؟»

ردَّت الآنسة ماك: «أجل، إذا سمحت.»

تناولت الآنسة ماك الورقة المطبوعة، وتفحَّصتها بتأنٍّ، قبل أن تُعيدها إلى إيجناتيوس.

قالت: «أنت تريد شيئًا مقابل لا شيء. أشكرك. لن أرحل. يُمكنني إطلاع العمدة على المسوَّدة. أجزم أن الآنسة أسبري ستُفضل بقائي معها على أن أفعل ذلك. أليس كذلك يا آنسة أسبري؟»

أجابت الآنسة أسبري بنبرة مُنخفضة: «أجل.»

ظنَّ القسيس الذي كان لا يعرف الأوراق الرابحة التي في جعبة إيجناتيوس أنه قد هُزم. لكن كان الرجل الضئيل قد احتفظ بالأوراق الرابحة إلى نهاية اللعبة.

قال إيجناتيوس: «لا، سترحلين الليلة. هناك أمر آخَر لم أذكُره بعْدُ. لقد أخفت الآنسة أسبري مِهنتك الماضية، في تصرُّفٍ نبيل في غير محلِّه. لذا ستكونين شاهدة غير جديرة بالثقة، وهدفًا للنقد والتقريع. وحينئذٍ لن يُصدِّق أحد كلامك في مقابل كلام الآنسة أسبري.»

أبدت الآنسة أسبري معارضةً حادة لذلك.

قالت: «لا يا سيد براون. لن أسمح بحدوث ذلك. فليس من مبادئي إذلال الساقطات. هذا سرِّي … وسرُّها.»

ذكَّرها إيجناتيوس: «يُمكنكِ التصرُّف كما يحلو لك فقط لو كنتِ تملكين السرَّ وحدكِ. لكني أخذت على عاتقي مهمة التفتيش عن ماضي هذه السيدة المُثيرة للاهتمام. وسأكشف عن ماضيها من أجل الصالح الأخلاقي العام، إذا رفضت الآنسة ماك أن تُصغي لصوت العقل.»

حافظت عينا الآنسة ماك الزرقاوان الصافيتان على هدوئهما في حين جلست تُفكر في كلامه. وسرعان ما ابتسمت لإيجناتيوس.

قالت: «لقد عرضتَ عليَّ السفر إلى الخارج. وأرغب في قبول عرضك والانضمام إلى تلك النسوة.»

كانت غطرستها الشديدة مُسلِّية للغاية لإيجناتيوس، حتى ظنَّ القسيس للوهلة الأولى أنه سيرضخ لطلبها. لكن مِثل هذه الاستجابات المُتسرعة لم تكن من شِيَمه.

قال إيجناتيوس، وهو يدير السكين على رقبتها بقسوة مُتعمَّدة: «دعيني أتذكَّر. تقصدين التنقل المريح السهل والطعام الفاخر. مَعذرة يا آنسة ماك، لكن الفرصة لا تطرُق الباب إلا مرةً واحدة … ليكن في ذلك تحذير لك من رفض عرضي الثاني.»

قالت الآنسة ماك بهدوء: «سأوقِّع.»

أخرج إيجناتيوس قلَمَ الحبر السائل من جيبه، ووقف فوق الآنسة ماك، يُراقبها وهي تجرُّ القلم على الورقة بثباتٍ وتأنٍّ، موقعةً على الاعتراف باسمِها.

قال: «أشكركِ. كم ستستغرقين من الوقت في حزم أغراضك؟»

أجابت: «عشرين دقيقة.»

قال: «سأمنحك نصف ساعة لحين وصول السيارة.»

قالت: «حسنًا … هل سائقك متزوِّج؟»

تسللت ابتسامة ساخرة إلى شفتَي إيجناتيوس، مرة أخرى، لهذا الاحترام الزائد.

أجاب: «لا، لكنه في غاية الاحترام. يُمكنك الوثوق به … أحضري المسوَّدة عند نزولك إذا سمحتِ.»

تفقد إيجناتيوس ساعة معصمه، في حين خرجت الآنسة ماك من الغرفة بخطواتٍ خفيفة في خضوع.

قال إيجناتيوس: «إذا سمحتِ لي يا آنسة، أرغب في مرافقة الآنسة ماك إلى حدود القرية. أخشى أن مبادئ العدالة الصارمة والأخلاق لا ترضى بالتسوية التي أجريتُها، لكن هذا أفضل ما يُمكنني فعله في ظلِّ الظروف الراهنة.»

ردَّت الآنسة أسبري: «أشكركَ على ما أظهرته من كياسة وصبر.»

قال إيجناتيوس: «اتفقنا. أيُمكنني فتح النوافذ؟»

أجابت: «أرجوك أن تفتحها. وعلى مصراعَيها.»

انتظر إيجناتيوس القسيس كي يفتح المصاريع. وتنفَّست الآنسة أسبري الصعداء عندما اجتاح هواء الليل الغرفة في صورة هبَّةِ ريح ماطرة.

سأل إيجناتيوس ليكسر جوَّ الصمت المُربك: «هل سافرتِ إلى فلسطين من قبل يا آنسة؟»

أخبرته الآنسة أسبري أنها قد سافرت إلى الأرض المقدسة في شبابها، وانقضت فترة الانتظار في تبادل خبرات السفر والمُقارنات. وبعد برهةٍ من الزمن، عادت الآنسة ماك، ترتدي معطفًا من التويد مُزرَّرًا، في مظهرٍ جذَّاب متواضع.

قالت الآنسة ماك وهي تناول إيجناتيوس ظرفًا مُغلقًا: «تفضل. إلى اللقاء يا آنسة أسبري. وأشكركِ على حُسن معاملتك.»

وقبل أن تصِل إلى الباب، ناداها إيجناتيوس.

قال بسلاسة وهو يمدُّ يدَه بالورقة التي انتزعها من الظرف: «دقيقة واحدة، من فضلك، يا آنسة ماك. يبدو أن هناك خطأً صغيرًا. هذه ليست النسخة الأصلية من المسوَّدة. أعترف أنها نُسخة تُشبه الأصل تمامًا، لكن بها بعض السِّمات الدقيقة التي لاحظتُها في توقيعك منذ قليل … أريد المسودة الأصلية إذا سمحتِ.»

فتحت الآنسة ماك حقيبة يدِها الكبيرة، بابتسامةٍ لم تفارق شفتَيها، وسلَّمته ورقة ثانية — مُتسخة ومتغضِّنة — وقبِلَها بعدما تفحصها بعناية.

قال إيجناتيوس وهو يُسلم الورقة إلى الآنسة أسبري: «هذه ملككِ.» ثم التفتَ إلى الآنسة ماك.

وقال وهو يفتح لها الباب ويتبعها إلى خارج الغرفة: «اسمحي لي بمُرافقتكِ إلى السيارة.»

تحدث القسيس إلى الآنسة أسبري بعدما صارا بمُفردهما في الغرفة. وسألها بلهفة: «أتسمحين لي بحرق المسودة؟»

أجابت: «أجل، من فضلك.»

لقَّم القسيس النار المُحتضرة بالورقة بأصابع مرتعشة. وبينما كان يراقب اشتعال الورقة واستحالتها إلى رماد، تردَّدت أصداء تنهيدةٍ في جنبات الغرفة.

كانت تنهيدة قديسة صارت آمنةً مطمئنة في عليائها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥