الفصل الثالث والثلاثون

تفسير إيجناتيوس

كان المطر يهطل بغزارة عندما عاد الرجلان من «سباوت مانور»، وبدت غرفة المكتب خالية من مظاهر البهجة، فشرع القسيس يُشعل المدفأة بأعواد الثقاب. وكاد يشعل المصباح لولا أن أوقفه إيجناتيوس.

قال: «لا. أريد أن أحكي لك حكاية. والحكايات الشيقة ينبغي روايتها حول النيران.»

انتفش الرجل الضئيل زهوًا وفرحًا، مما جعله ينتبِه إلى جميع المؤثرات الدرامية من حوله. جلس إيجناتيوس مُنحنِيَ الظهر في مقعده الضخم، يُعانق ركبتَيه اللتين أسند عليهما ذقنه البارز، فبدا مثل قزم خرافي يسترِق النظر من بين جذور شجرة بلوط جوفاء.

خفق وهج النيران على وجه إيجناتيوس المُجعَّد، فأبرز أجزاءه الغائرة، وضخَّم المكر الذي في ابتسامته. لوَّح إيجناتيوس بأصابعه في الهواء كي يلتزم القسيس الصمت.

قال: «لا أريد أسئلة، من فضلك، إلا إذا كانت ضرورة حتمية للفهم.»

وسكت إيجناتيوس، كي يخلُق جوَّ الإثارة اللازم، قبل أن يشرع في الحديث.

قال: «تتذكَّر مرَض العمدة، وكيف أن السمَّ سرى في جسده لاختلاطه بالجيلاتين بطريق المصادفة. آنذاك، فكَّرتُ باحتمالية وجود تشابُهٍ بين حالته المرضية وبين مشكلتك البسيطة. وقد كنت محقًّا.

كانت الآنسة ماك هي السُّمُّ في مشكلتنا؛ فقد مكثت في القرية لما يقرُب من العامَين ومع ذلك كانت إضافةً سلبية. فهي بطبيعتها قاسية، منعدمة الضمير، ناكرة الجميل، خائنة للأمانة، وليس لديها وازع أخلاقي، وقلبها مُغلق لا يعرف الخِزي إليه سبيلًا.

لكنها غبية لحُسن الحظ؛ لذا لم تعرف كيفية تحرير — أو دعنا نقول تسويق — الشر الذي بداخلها.» ثم توقف إيجناتيوس عن سرد قصته، للاستطراد.

قال: «لهذا غرقت الآنسة ماك في الابتزاز العشوائي لاحقًا. كان لينجم عن هذه السياسة أمور خطيرة، بكل تأكيد، وكنت أتوقَّع أن تتبنَّاها الآنسة بروك لو أنها اختارت أن تحيد عن جادة الصواب بدلًا من أن تكون فتاةً في غاية اللطف. لكن الآنسة بروك لديها الطباع التي لا تمتلكها الآنسة ماك.

واستكمالًا لقصتي، ظلَّت الآنسة ماك مثل سُمٍّ خامل في جسد القرية؛ ولكن حتى وهي في طورها المُحتقن ذاك، أظهرت قوتها الشريرة. فالآنسة ماك لديها إرادة لا تعمل بالضغط بل بالسحب وجذب الناس إليها دون وعيٍ منهم. وأعتقد أن البعض منكم قد اختبر قوتها الاستنزافية، التي نُسبت إلى الآنسة أسبري بطبيعة الحال؛ بوصفها سيدة «سباوت مانور». فمَن قد يخطر بباله أن يُخمن أن تلك المرافقة الضئيلة المُتواضعة التي تجلس بخنوع في زاويتها يمكن أن يكون لها مثل هذا التأثير المُخدِّر الذي يستنزف الآخرين، كما في حالتنا تلك؟

لكن طوال الفترة التي عاشتها الآنسة ماك مع الآنسة أسبري، كانت إرادتها القوية تفرض سيطرتها على مخدومتها شيئًا فشيئًا، رغم أنها لم تستغلَّها إلا في طلَب خدمات بسيطة، مثل وجبات الطعام الخاصة، والرفاهيات، وتقليل مهامِّ عملِها إلى الحد الأدنى، بسبب افتقارها للذكاء. وبعد ذلك، ذهبت الآنسة ماك إلى مدًى أبعد، حين أجبرت الآنسة أسبري على الإذعان لرغبتها وإغلاق النوافذ بسبب كراهيتها للهواء المُنعش. لكني أعتقد أن الآنسة أسبري لم تُدرك الوضع الحقيقي في البداية.

والآن يجب أن أزوِّدك ببعض المعلومات عن شخصية الآنسة أسبري الحقيقية. الجميع يعتقد أنها قديسة. هي في الحقيقة تكاد تكون كذلك؛ لما تتَّسِم به من إيثار وعطاء وتديُّن وخلو من الخطايا إلى حدٍّ استثنائي … لكنها لديها عيب بشري واحد وهو الغرور. فهي تُحب احتفاء الناس بها. ولا تطيق أبدًا أن تتعرَّض للفضيحة أو السخرية.

لقد عانت الآنسة أسبري، منذ طفولتها، من إعاقة أخفتها تحت ستارٍ من التقشف الصارم وضبط النفس المُتقن. إنها ضحية العاطفية الحادة. فقد تعرضت لانهيارٍ عصبي في المدرسة مرَّة، وعندما أُجبرت على التخلِّي عن عملِها الإغاثي مرة أخرى.

واصلت الآنسة أسبري جهودها في مساعدة الآخرين رغم إجبارها على الانسحاب من العمل الإغاثي. فقدمت المأوى كرمًا منها إلى جيرترود ماك التي أمضت للتوِّ فترة عقوبة في السجن بتهمة السطو على المتاجر. كانت في غاية اللطف مع الآنسة ماك، لكنها كانت رسميةً جدًّا في تعاملها على ما يبدو. هذا استنتاج منِّي. فقد كانت الآنسة أسبري تتعامل مع شخصياتٍ منحرفة للغاية. ولا شك أن الآنسة ماك نفرت من مُعاملتها. لكنها، طوال ذلك الوقت، بينما كانت تبدو خانعة بلا إرادة، كانت تستنزف قوى الآنسة أسبري العقلية حتى حوَّلتها إلى كتلةٍ رخوة ضعيفة.

لكن … ظلَّ السُّمُّ خاملًا.

وسرعان ما بدأت الآنسة ماك تعود إلى عادتها القديمة. فكانت تسرق أشياء عديمة القيمة من الخادمات، وفي إحدى المناسبات، سرقت دبوس زينة من الآنسة بروك. ولم تكن الآنسة أسبري لتقدم على تسليمها للعدالة؛ لأنها خشِيَت بالطبع أن تدمر الفضيحة أي فرصة للآنسة في حياة جديدة. لذا، من أجل حماية أصدقائها من سرقاتها، اضطرَّت إلى تقييد حُريتها. وهكذا بدأت الآنسة ماك تكرَه مخدومتها … وفي تلك المرحلة أتيتَ أنتَ يا صديقي.»

هتف القسيس: «أنا؟»

ردَّ إيجناتيوس: «لقد طلبتُ منكَ ألا تقاطعني … أجل، أنت يا صديقي الضخم، بما لديك من جسد قوي، وتأثيرٍ سحري مثل التنويم المغناطيسي، وصوت جهوري مثل الرعد. لا ألومك بالطبع. فلو لم تُمهد الآنسة ماك الطريق لكَ وتركت الآنسة أسبري ضعيفةً مثل جوزة فارغة، لوجدت الآنسة أسبري متعةً روحيةً ومنافع شتَّى في مواعظك الدينية الحماسية.

لكن، في ظل الظروف الراهنة، سقطت كلماتك على أرضيةٍ من الهستيريا المُشتعلة بداخلها. لقد دفعتَ تلك الروح المسكينة المُنهكة لاتهام نفسها بذنبٍ لم تقترفه. ربما كانت تُعاني أيضًا من القلق بسبب الكبت؛ أو ربما أثرت بعض الرواسب المُتبقية من عملها الإغاثي.

على أي حال، صارت الآنسة أسبري مذنبةً بائسة ملعونة، لا تجد وسيلةً لتطهير نفسها من الذنب. كانت ترغب في بديلٍ لكرسي الاعتراف … فسلكت مسلكًا استثنائيًّا بأن كتبت لنفسها خطابًا مجهولًا، تتَّهِم فيه نفسها بخطيئةٍ وهمية؛ ذاك الخطاب الذي أطلعتْكَ عليه. وعندما منحتها الغفران — إن جاز التعبير — مرَّت الأزمة. هكذا أخرجت الآنسة السُّمَّ من جسدها؛ ولهذا نجحت خطتها في نهاية المطاف.

لكن لسوء الحظ، روَّج أحدهم شائعاتٍ وانتشر موضوع الخطاب. حامت الشبهات حول الآنسة كورنر، فكتبت لنفسها خطابًا بدَورها، كي تُثبت أنها الضحية لا المُجرم. وللأسف الشديد، قضت الآنسة كورنر نحبَها؛ إذ كانت شاهدة مُهمة على الحدَث. وبعد وفاتها بدأت المتاعب؛ إذ سيطر شعورٌ بغيض على الأجواء، وانتشرت شائعة الانتحار.

كان هذا بمثابة الضوء الأخضر لعقل الآنسة ماك البليد كي ينهض من سُباته. وفور أن كتبت الآنسة أسبري خطابها، وجدت مُسوَّدة أولية له في سلة النفايات. آثرت الآنسة ماك الاحتفاظ بالمسوَّدة وإن لم تُدرك قيمتها. وبعد وفاة الآنسة كورنر، أدركت قيمتها. كانت تلك المسودة الدليل على أن الآنسة أسبري هي مَن كتبت الخطاب الأول؛ وهكذا ستتَّجه إليها أصابع الاتهام حال كتابة خطابات أخرى.

في الحقيقة، لا أفهم كيف لأي شخصٍ عاقل أن يُصدق أن الآنسة أسبري بريئة، في ظلِّ هذا الدليل الدامغ. فمَن ذا الذي سيُصدِّق — سواي — تلك الرواية الخيالية عن «رغبتها» في إطلاع كاهن أبرشيتها على انحلالها الأخلاقي الذي تزعُمه عن نفسها؟

هنا فعَّلت الآنسة ماك قواها الاستنزافية. فقد أدركت أن الآنسة أسبري ستُضطر إلى مواجهة عارِ دفْعِ الآنسة كورنر للانتحار؛ إذ كانت هذه هي الفكرة الغامضة التي تسيطر على الأجواء. ولهذا نشرت شائعات كاذبة بمهارة، وبدأت حملتَها للخطابات المجهولة.

عزمت الآنسة ماك على خلق جوٍّ عام من الخوف والريبة، سيُنسب إلى الآنسة أسبري بطبيعة الحال. ولا شك أنها كانت تُوجِّه ضربات عشوائية في الظلام. كانت تكرَه كل مَن يمتلك المال والأمان، لكنها كانت أشبهَ بطفلٍ شرس يضرب شخصًا بالغًا تحت الحزام. واعتقدت أن هؤلاء الوجهاء مُحصَّنون ضد هجماتها.

لذا أتخيَّل ردة فعل الآنسة ماك على انتحار عائلة سكودامور. فلقد رأيتُ النظرة التي لاحت في عينَيها عندما سمعت بالخبر. أظنُّ أنها شعرت بالقوة حتى الثمالة. بعد ذلك، لا بد أنها حصلت على بعض المعلومات السرية؛ إذ بدأت في مُضايقة الطبيب بيري بقسوةٍ بالغة، وهو ما ألحق به ضررًا كبيرًا.

طوال الوقت، كانت الآنسة ماك في مأمنٍ من أي مخاطر، مثل قنَّاص محترف يحتمي من الرصاص خلف جسد شخصٍ آخر. كانت الآنسة أسبري ستتلقى اللوم على كل ما فعلته الآنسة ماك. وبدأت الآنسة ماك في استنزافها ثمنًا لسكوتها. وفي وقتٍ لاحق، وسَّعت نطاق شبكتها، كي تشمل الآنسة مارتن. وأنتَ تعلم النتيجة.»

سكت إيجناتيوس عن الكلام. وفي ضوء اللهيب المُتصاعد، غارت عيناه في مِحجرَيهما، فبدت مثل حفرتَين مجوفتَين فوق ابتسامته البدائية.

سأل إيجناتيوس: «هل فهمتَ الآن كيف أن الخطاب الأول البريء، الذي كتبته الآنسة أسبري المسكينة، كان مِثل الجيلاتين النافع الذي حفَّز عمل السُّم؟»

انتظر إيجناتيوس التصفيق لكن بلا جدوى. فقد تثاءب تشارلز، وسار قاصدًا وعاء البسكويت. وتنهَّد القسيس تنهيدةً عميقة وأشعل المصباح.

قال القسيس في ضجر: «من الأفضل أن نحظى ببعض الضوء. وأرى أن كِلَينا بحاجةٍ إلى بعض الشراب. تستحقُّ كأسًا من الويسكي عن جدارة يا إيجناتيوس. منذ متى وأنت تتحدَّث؟ … لكنها حكاية شنيعة.»

ابتسم إيجناتيوس وأجاب: «آه! اعتدتُ أن أتلمَّس طريقي في متاهات العقول الحائرة المُضطربة. وأُسَرُّ أيما سرور باقتفاء الأثر كي أثبت أنني على حق. قبل أن أنام ليلةً واحدة في القرية، كنتُ قد خمنتُ الحقيقة.»

تبادل القسيس وتشارلز نظراتٍ مُتشكِّكة، لكن إيجناتيوس واصل الحديث في زهو.

قال: «كان ذلك في أول أمسيةٍ لي بالقرية، حين خرجنا للتمشية، والتقَينا بامرأتَين في حديقة «سباوت مانور». على الفور، استنتجتُ أن الآنسة ماك هي الآمِرة الناهية؛ إذ أظهرت مسحةً طفيفة من السيطرة لا تُحيط العبارة بوصفها. بالمناسبة، لا يُخطئ انطباعي الأول أبدًا. بعد أن صحَّحت لي خطئي، ظللتُ أفكر في احتمالية وجود روابط غريبة بين المرأتَين المحبوستَين معًا في ذلك القصر القديم … بالإضافة إلى أنك حذَّرتني مسبقًا ألَّا أرتاب في هالة القدسية التي تُحيط بالآنسة أسبري.»

ردَّ القسيس: «كلا لم أفعل.»

قال إيجناتيوس: «لم تقُل ذلك مباشرة. لكنك اندهشتَ بلا شكٍّ عندما أصرَّت عليك الآنسة أسبري أن تقرأ الهجوم المزعوم على أخلاقها الفاضلة، أليس كذلك؟ كيف يتَّفق ذلك مع شخصيتها التي تتَّسِم بالإباء والتحفظ الشديد؟»

اعترف القسيس: «أظن ذلك.»

واصل إيجناتيوس: «لهذا ذهبت إلى الكنيسة لحضور القداس، ولديَّ معرفة مسبقة بهيستريا الآنسة أسبري. درستُ تفاعلها مع خطبتكَ، في حين تظاهرتُ بالإعجاب بخادمتها. ومرة أخرى، أثبتُّ أنني على صواب؛ إذ تكشفت لي كل الأعراض التي تُشير إلى أنها تُعاني من مرض العُصاب. وبعد ذلك كان من المنطقي استنتاج أن الآنسة أسبري ربما كانت هي الضحية. وبدأت في التركيز على الآنسة ماك.»

سأل القسيس: «كيف؟»

قال إيجناتيوس موضحًا: «لم أضيِّع الوقت. بعد ظهر ذلك اليوم، اصطحبتُ أدا في جولة، وحاولت استخراج معلوماتٍ منها. كانت الفتاة حادة الذهن، وارتابت في أنني أحاول معرفة ما إذا كانت الآنسة أسبري تقسو على الآنسة ماك، وهو تصرُّف ما كانت الخادمات ستُعارضه إذا لاحظنَه.»

وسكت إيجناتيوس وضحك بهدوء.

قال: «أدا المسكينة. علمت أولًا أن الآنسة ماك كانت تتفاخر بأنها سيدة المنزل؛ وعلمتُ ثانيًا أن المرأتَين محبوستان في المنزل معًا طوال الوقت؛ وأخيرًا عرفتُ أن أدا كانت تفقد أغراضًا شخصية تافهة.

في مساء ذلك اليوم، أطلعتني على الظرف، الذي كان يحتوي على خطاب الآنسة أسبري. وبينما كنتُ أتفحصه بحثًا عن أي خيطٍ بسيط قد يُفيدنا في الوصول إلى كاتبه، لاحظت وجود حرفَين. كان الطبيعي استخدام اسم «الآنسة أسبري» في مخاطبتها، إلا إذا كانت تستخدِم عادة الحروف الأولى من اسمها في التوقيع، أو أن الخطاب كتبه شخصٌ يعرف الآنسة أسبري جيدًا.

وفي صباح اليوم التالي، استجوبتُ مديرة مكتب البريد بحرص، وفي غضون عدة ساعات تأكدتُ من حقيقة أن سكان القرية كانوا ينادون السيدة ﺑ «الآنسة أسبري»، رغم معرفتهم جميعًا باسمها الأول «ديسيما». لكن لم يستطع أحد إخباري باسمها الأوسط …»

سأل القسيس: «ألهذا زُرتَها؟»

أجاب إيجناتيوس: «أجل، وذهبت إلى قصرها مبكرًا عن عمدٍ، كي ألقي نظرة على كُتبها القديمة. أردتُ أن أعرف متى توقفت عن استخدام اسمها الأوسط. وفشلت في خُطتي، لكنها أكدت تخميني بشأن تخلِّيها عن اسمها الأوسط. وكشفتْ لي أيضًا أنها قُدِّر لها أن تقع ضحيةً للابتزاز بسبب غرورها الهش. ومِثل جندي أُصيب في بقعة مُحرجة من جسده، كانت الآنسة أسبري ستقبل أي معاناة على الاعتراف بأنها اتَّهمت نفسها بأن لها ماضيًا مُخزيًا.»

وسكت إيجناتيوس، كي يبتسِم؛ إذ تذكَّر شيئًا.

قال: «انتظر. يجب أن أوفِّيها حقَّها. ذات مرة، كانت الآنسة على شفا الاعتراف بما فعلته. حدث ذلك بعدما ألقيتَ خُطبتك التاريخية التي هددتَ فيها رعيتك بالرحيل. فقد عادت الآنسة إلى الكنيسة، لكن الآنسة ماك لحِقَت بها، وأثنتها عن تحقيق مرادها. ولم تستطِع الآنسة استجماع شجاعتها لبذل محاولةٍ أخرى. أدركتُ حينها مدى تأثير الآنسة ماك عليها كأنها تستخدِم معها التنويم المغناطيسي.»

قال القسيس إذ ظهر عليه اهتمام حقيقي لأول مرة: «أكمل.»

قال إيجناتيوس: «كانت الآنسة ماك تشك بي على ما يبدو؛ إذ اتبعتني إلى حديقة القصر عندما زُرت الآنسة أسبري. وتظاهرتُ أنني أعتقد أنها ضحية قسوة الآنسة أسبري التي لا يعرف عنها أحد، كي أُضللها، وعرضتُ عليها المساعدة … بعد ذلك، قيَّمت الموقف.

كما أخبرتُك من قبل، كان هناك تفسيران للموقف. التفسير الواضح للعقل وهو أن الآنسة كورنر قد كتبت الخطابَين. لكن لو لم تكن الآنسة كورنر تعلم أن للآنسة أسبري اسمًا أوسط، فالشخص الوحيد الذي كان باستطاعته كتابته هو الآنسة أسبري نفسها.»

انفرجت أسارير الرجل الضئيل عندما سمع استنتاجَه الذكي.

وأضاف: «بدا أن هذا التفسير يقود إلى آخر. كنت حائرًا بشأن سيطرة الآنسة ماك على مخدومتها، وخمنتُ أنه لا بد من وجود دليلٍ ما. تذكرت أيضًا أن الآنسة ماك هي المسئولة عن سلة النفايات بالبداهة. بدا من المُحتمَل أن الآنسة أسبري لن تكتب خطابها المجهول، دون أن تكتب مسودة بخطِّ يدِها أولًا. ومن الواضح أنها حين طبعت النسخة، ألهب تكرار الاتهامات على أسماعها مشاعرها، فأُصيبت بحالة من الهستيريا العاطفية، مما جعلها تستخدِم الحرف الأول من اسمِها المتروك بلا وعي، عندما كانت تُعنوِن الظرف.

لهذا لم تكن ستُدرك أهمية المسودة التي من المُفترض أنها تخلصت منها.»

صاح إيجناتيوس منتصرًا وهو يلوِّح بإصبع طويل في وجه القسيس.

وقال: «أرأيت يا تيجر؟ كنتُ أعلم أنه لا بد من وجود مسودة، وأنها وقَعت في يد الآنسة ماك، وهي الدليل على كاتب الخطابات. عندما تحقَّقتُ من صحة هذه الاحتمالية، أعطيتُ تعليماتي لمُحقق سري كي يعثر على بعض المعلومات عن الآنسة أسبري والآنسة ماك. ولم يتكبَّد المُحقق أي عناء في التحقق من أن الآنسة ماك كانت لصَّةً في الماضي. كما تواصل المُحقق مع أحد المعاصرين للآنسة أسبري، الذي كان مُلتحقًا بمدرستها الأخيرة، وكانت الآنسة قد أخبرته أنها تُعاني من الهستيريا.

وحصلتُ على دليل آخر عندما جاء القسيس العجوز على الغداء. لا شك أن قواعد الذوق منعتني من توجيه أسئلة إليه، ولو أنني فعلت، ما كان ليُخبرني بشيء. لكن بدا من تردُّده في لقاء الآنسة أسبري مرة أخرى أنه أراد أن يُجنِّبها استدعاء ذكرى مؤلِمة ومُحرجة. عندئذٍ، تأكدت أنها استسلمت لنوبة عنيفة من الهستيريا، عندما تعرضت للانهيار وتخلَّت عن عملها الإغاثي، وأنه كان شاهدًا على ذلك.»

قال القسيس: «فهمت الآن سبب توقف حلِّ اللغز على معرفة كاتب الخطاب الأول.»

تنهَّد إيجناتيوس وقال: «أخيرًا. أعتقد أنه لا يُوجَد ما يمكن إضافته أكثر من ذلك. واصلت مراقبة رأس الحية. وتبين من مأساة عائلة سكودامور أن هناك خطاباتٍ أرسلت إلى أشخاصٍ آخرين، لكن لأن الابتزاز لم يكن سِمةً عامة، بدا أن الآنسة أسبري هي الضحية الأصلية. كما اكتشفت أن الآنسة أسبري فتَّشت المنزل، بحثًا عن المسودة، وفي إحدى المرَّات حصلت عليها، إذ حدث عراك أُصيبت فيه الآنسة. وكانت جوان بروك معي عندما سمعناها تصرُخ من الألَم.»

اقشعر بدن القسيس وقال: «هذا مُرعب.»

واصل إيجناتيوس: «أجل. أحسستُ أن شيئًا قاتمًا قبيحًا وراء الْتصاق هاتَين المرأتَين، إحداهما بالأخرى، وكأنهما نباتات مُعترشة. ولم تجرؤ الآنسة أسبري على إبعاد الآنسة ماك عن ناظريها، حماية لضيوفها، وحتى عرضي بالسفر لم يُغْرِ تلك الطفيلية بترك ضحيتها … وبالطبع اضطررتُ إلى الانتظار حتى حدوث مُستجدَّات والحصول على دليلٍ دامغ. وهذا كل شيء.»

توقف القسيس عن فرك مُقلتَيه.

قال: «أعرف أنني يجِب أن أشكرك يا إيجناتيوس. لكنني أفكر في قريتي الجميلة. لقد كانت تمثل لي الكثير. ماذا تبقى لي منها؟»

قال إيجناتيوس: «تبقى لك كل شيء. كل ما حدث يُفترَض أن يُعزِّز إيمانك بالطبيعة البشرية. بادئ ذي بدء، أتوقع أن كل سكان القرية تقريبًا تلقَّوا خطابًا مجهولًا، لكنهم اكتفوا بالتجاوب مع القلق العام ولم يتركوها قطعًا تحرِمُهم من النوم. وكل هذا يؤكد أن لديهم سجلًّا أخلاقيًّا نظيفًا وضميرًا حيًّا.

والآنسة أسبري بنبلٍ مُثير للإعجاب أيضًا. فهي وإن كانت تقدس شعبيتها، إلا أنها وضعت نفسها تحت شبهة التنمُّر على الآنسة ماك، طواعية، حتى لا تكشف حقيقة الآنسة ماك وأنها لصَّة.

وحتى عدوتي اللدودة، الآنسة كورنر، تصرَّفت بسماحةٍ وكرم إلى حدٍّ ما؛ لأنها لم تتحدث عن طبيعة الآنسة أسبري في أيام الدراسة أبدًا، رغم أنها لا يَعنيها أمرها البتة.

ولم تكن مأساة عائلة سكودامور سوى انتصارٍ لقيم اجتماعية زائفة. كما أن هذه المسألة البغيضة ساعدت الآنسة أسبري في التخلُّص من مخلوقة طفيلية خطيرة لم تكن سترضى حتى تسلُبها كل أموالها.»

كان وجه القسيس يستوجب التأمُّل من كثرة ما تضاربت فيه المشاعر، وهو يُنصت إلى خطاب إيجناتيوس الطويل. وسرعان ما عاد البريق إلى عينَيه؛ إذ شعر ببهجة الحياة القديمة تتدفَّق في عروقه. وأراد أن يشكُر صديقه على إنقاذه، لكنه وجد نفسه عاجزًا عن الكلام فجأة. ولذلك عبر عن امتنانه لإيجناتيوس، على حين غفلةٍ منه، بأكثر طريقةٍ ترضيه. فسأله سؤالًا أخيرًا.

قال: «تحدثت عن امرأة لا تبتسِم أبدًا. من هي تلك المرأة؟»

رد إيجناتيوس: «الآنسة ماك بالتأكيد.»

قال القسيس: «لكنها تبتسِم دائمًا.»

كان إيجناتيوس في أفضل حالاته وهو يوضح هذا الأمر للقسيس.

فقال: «لهذا السبب تحديدًا قلتُ إنها لا تبتسِم أبدًا. يبتسِم المرء للتعبير عن مشاعر سارة مُعينة، مثل الطيبة والفرح والتسلية وما شابه. لكن، لأن المرء لا يُمكنه أن يكون سعيدًا للأبد، فإنه لا يستطيع أن يبتسِم للأبد. فاتخذتُ الحذَر عندما أدركتُ أن ابتسامة الآنسة ماك ليست مفتاحًا لشخصيتها، وإنما قناع تختبئ خلفه.»

بعد ذلك بقليل، قام إيجناتيوس بجولةٍ أخيرة في القرية، بصحبة القسيس. كان المطر قد توقف عن الهطول، والهواء نظيفًا وزكيًّا. وتلألأت الأكواخ البيضاء والسوداء التيودورية في ضوء النجوم وأصبحت أشبه بمجسمَّات من الأبانوس والعاج. وكانت كل نافذة من النوافذ محجوبةً بستائر لامعة وردية أو برتقالية اللون.

حافظ كل منزل على خصوصيته وإن لم يكن هناك ما يستوجب إخفاؤه. لم تكن هناك أسرار مخيفة. كان الداخل تغمره السكينة المنزلية، الخدم السعداء في المطبخ، والقطط الشبعى فوق البسط. وكانت الساعات تُعلن مرور الوقت في هدوء، والموسيقى تنبعث من الجو. وانحدرت طرقة ساعي البريد من الأفق البعيد في خفوت. كان يوصِّل الدفعة طلبيته الأخيرة، الأخبار العائلية، الدعوات، طلبات التبرُّع، وإيصالات الدفع. هذا كان كل شيء. لم يحدُث شيء هنا. ولن يحدُث شيء أبدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥