مجهول الهوية
عندما تألقت الألماسات الذهبية عبر النوافذ الزجاجية لغرفة طعام الآنسة أسبري، كانت الآنسة جالسة على رأس مائدة العشاء مع مرافقتها الآنسة ماك الضئيلة الجسد، ولم تكن تدري قط أن شخصها كان محلَّ نقاش رجلَين في الناحية الأخرى من ساحة عشبية خالية.
وبينما كانت تجلس في مقعدٍ منحوت ذي مسند طويل للظهر، وتتناول الطعام الذي كدَّسته خادمة الاستقبال في صحنِها بصورة آلية، لم تكن تعي ما يجري حولها؛ إذ كانت تُحملق في الجدار المقابل لها كأنما تُحاول اختراقه بنظراتها الثاقبة.
كانت الآنسة أسبري في أوائل الستينيات، ولكن كان لها قوام مَمشوق وقامة مُنتصبة كفتاةٍ شابة. حمل وجهها بقايا جمالها السابق رغم التجاعيد الكثيرة، وكان لها أنف وذقن مُدبَّبان، جعلا وجهها ككسَّارة البندق في إشارة إلى تقدُّم العمر بها. كان لون بشرتها أصفرَ شاحبًا، وتعابير وجهها بريئة ورصينة. كانت ترتدي ثوب سهرةٍ حريريًّا أسود لاءم شعرها الفضي الأشيب بشكلٍ جيد يوحي بأنه حتى القديسين لهم نصيبهم من الخيلاء.
وهي وإن كانت في غاية الوهَن إلا أن شهيتها كانت مفتوحة، لكن بدا أنها تتناول طعامها بلا استمتاع، كآلةٍ تسحق العلف اللازم لمداواة جسدٍ أنهكته روح جامحة مُتَّقدة كالجمر. كانت امرأة ذات طاقةٍ لا تنضب، تنال منها لحظات من التأمُّل المرُكَّز الضاري، وكانت ملتزمة بعادات حياتها السابقة أيضًا.
كانت الآنسة ديسيما أسبري، الابنة الوحيدة لأبوَين ثرِيَّين، ترتاد المدرسة نفسها التي ارتادتها جوليا كورنر في ألمانيا؛ لكنها كانت تكبر الروائية بسنواتٍ عديدة، وغادرتها كي تُقدَّم في البلاط الملكي. وبعد انقضاء موسمٍ واحد فقط، سئِمت من حياة فتيات المجتمع العادية، وذهبت إلى المُعتكَف وفي ذهنها أن تصير راهبة. لكن المنطق تغلَّب في النهاية، فاختارت مجالًا أكثر مواءمةً لطبعها، وأصبحت رئيسة دارٍ لتأهيل النساء الساقِطات في مدينة صناعية كبيرة.
لم تدخر جهدًا في سبيل عملها، وأجهدت نفسها أيما إجهاد مثل القسيس، حتى انهارت في نهاية المطاف. وأتت إلى القرية وهي لم تتجاوز بداية الثلاثينيات لتسترد عافيتها، ومكثت هناك زهاء ثلاثين عامًا. آنذاك، كان القصر ذو الطراز الإليزابيثي «سباوت مانور» معروضًا للبيع، ومنذ شرائه لم تنَم تحت سقفٍ آخر غير سقفِه، على عكس عادة الملكة إليزابيث الأولى في تجربة أسرَّة غريبة، بحسْب الأقاويل.
وما لبثت أن أثبتت شخصيتها المُسيطرة الرقيقة وأصبحت الآمرة الناهية في القرية. وحاز السيد الشريف منزلةَ عمدة القرية، لكونه كبيرَ أقدم عائلةٍ في القرية؛ ونصَّب الزوجان سكودامور نفسيهما حرسًا على الطابع العام للقرية، لكنَّ نجم الآنسة ديسيما أسبري غطَّى عليهم جميعًا.
جلست الآنسة على رأس مائدة الطعام الطويلة، ووقفت على خدمتها روز النحيفة في دأب، في حين مدَّت الآنسة ماك ذراعَها وغرفت لنفسها الطعام. كانت ماك امرأةً بدينة قصيرة، تصغُر مخدومتها بنحو خمسٍ وعشرين سنة، ذات بشرة شاحبة صافية ناعمة مثل دُمية من الخزف، وعينَين زرقاوَين فاتحتَين، وشفتَين منفرجتَين عن ابتسامةٍ خفيفة. بدت بليدة الذهن نوعًا ما من فرط لُطفها، لكنها كانت هادئةً طيبة المعشر.
في غرفة نوم الآنسة ماك، بالطابق العلوي، قبعت رسالة غير مُكتملة داخل النشَّافة الخاصة بها. كانت الرسالة موجهةً لامرأة تُدعى الآنسة سميث في لندن، وكانت تزخَر بالثناء على الآنسة أسبري والسعادة بحظِّها السعيد.
كتبت تقول: «الآنسة أسبري هي ملاك يمشي على الأرض. آوتْني حينما لم أجد المأوى ولا المال، ومهما فعلتُ فلن أستطيع أن أرد إليها حُسن صنيعها. إنها تترفق بي وتعاملني بلطف بالغ، ولا تثقلني بالأعمال، فأشعر أن الوقت يمضي بسرعةٍ وبخفَّة. لقد تحسَّنت قلبًا وقالبًا عما كنتُ. هدفي الوحيد هو أن أردَّ لها جميلها. هذا القصر جميل، مُشيَّد كله من الخشب، والجميع يقولون إنه مثل متحف.»
كان هذا من نُبل الآنسة ماك؛ لأن قصر «سباوت» لم يكن يتماشى مع ذوقِها الشخصي على الإطلاق. فكانت تُفضِّل ورق الحائط الوردي، والمصابيح الكهربائية، وغطاء المائدة الأبيض النظيف الجميل. قد يُشِيد الزائرون بالإبداع التاريخي في القصر ذي الطراز التيودوري، ويُفرِطون في الثناء على أثاثه الأصلي الذي تعود كل قطعةٍ منه إلى عصر تيودور؛ لكنهم يجلسون في القصر فترة قصيرة فحسب، على مقاعده البلُّوطية الصلبة، وسرعان ما يرحلون وينعمون بمقاعد موسدة وثيرة ويعودون إلى القرن العشرين.
بينما كانت الآنسة ماك تتناول الخبز والجبن بنَهَم، جالت عيناها الزرقاوان الصافيتان اللتان تُشبهان الدمية الخزفية في الغرفة شِبه المضاءة بمصباحٍ زيتي وحيد مُتدلٍّ من سقفها. لم تظهر جدرانها ذات الألواح، التي اسودَّت بفعل الزمن، من ظلال ضوء المصباح. وكانت المائدة البلوطية عاريةً باستثناء بعض مفارش الأطباق الخشِنة المحبوكة يدويًّا من الكتان. كان الطعام نباتيًّا في معظمه؛ إذ احتوى على حساء العدس والسلطة والبسكويت والزبد والجبن والفاكهة. ولم يكن هناك شراب سوى ماء الشعير المُنعش مع أن الحرارة كانت لا تزال مُنخفضة في قصر «سباوت».
نظرت الآنسة ماك إلى طبق الخضراوات بارتياب؛ لأنها كانت لا تُحب الخس النيء، الذي لا يُشبع شهيتها، ويُصيبها بانتفاخ البطن فحسب.
حدَّثت نفسها قائلة: «لو كنتُ محظوظةً ستُقرقر معدتي فقط، ولو كنتُ غير محظوظة فسيضربني الألَم بقوَّة.»
وتذكَّرت الطعام اللذيذ الذي استمتعت به في إحدى المرات عندما أقامت مع أحد أعمامها المزارِعين في البلدة. فكلَّما ذبحوا خنزيرًا، كانوا يُعدون وليمة من الأطباق اللذيذة، مثل كرات اللحم، ولحم رأس الخنزير، وأمعاء الخنزير المطبوخة، وطبخة لذيذة اسمُها «السجق الأسود». قِيل لها إنها تُصنَع من دماء الخنزير، لكن هذا لم يُغير حقيقة أنها كانت مُشبعة وشهية.
من بعيد، انسابت إلى أُذنها طرقة عامل البريد المزدوجة، لكنها لم تُثِر اهتمامها؛ فقليلون هم من كانوا يكتبون إلى الآنسة ماك العديمة القيمة. ولاحظت عيناها اليقظتان رعشةً خفيفة سرَت في جسد معبودتها الآنسة أسبري، فهبَّت واقفةً على قدمَيها القصيرتَين المُمتلئتَين، متأهِّبة لتقديم المساعدة.
سألت: «هلا أُحضِر لك شالًا يا آنسة أسبري؟»
أجابت الآنسة: «لا، شكرًا لك.» ونهضت من مقعدها مُتجهةً إلى الباب، فتبعتها الآنسة ماك، لكنها أشارت لها بالعودة إلى مقعدها. وقالت آمِرة: «اجلسي وأكملي طعامك من فضلك.»
وعندما أُغلِق الباب خلف الآنسة أسبري، خاطبت الآنسة ماك روز.
«ماذا لديك للعشاء في المطبخ؟»
أجابت روز: «بيض مسلوق دون قِشرته وشراب الكاكاو.»
لعقت الآنسة ماك شفتَيها وأطبقتهُما.
وعلَّقت: «الجو بارد هذا المساء. وتفوح منه رائحة الرطوبة.»
أخبرتها روز: «هذا بسبب الماء. أخبرتني السيدة أن القصر كان مزرعةً فيما مضى، وبها ينبوع ماء حقيقي. كوني واثقة أن الماء لا يزال مُختبئًا بمكانٍ ما. فالماء يبقى إلى أبد الآبدين.»
وأطبقت شفتَيها بسرعةٍ ووقفت بانتباه؛ إذ عادت الآنسة أسبري إلى الغرفة.
سألت الآنسة أسبري: «هل أفرغتِ سلَّة أوراقي اليوم يا آنسة ماك؟»
أجابت ماك بزهو: «بلى أفرغتها يا سيدتي. أعطيتُ البقايا لِأدا، وأحرقَتْها مع النفايات الأخرى، في محرقة الحديقة.»
أومأت الآنسة برأسِها دون تعليق، ولاذت بالصمت. وفيما علت دقَّات عامل البريد، استجمعت الآنسة ماك شجاعتها.
وسألت: «أيُمكنني الحصول على عصيدة على العشاء يا آنسة؟»
رفعت الآنسة حاجبَيها في دهشة، وأشارت بيدِها البيضاء إلى طبق السلطة.
وقالت: «هذا أفضل لصحَّتك. فهو يمدُّك بفيتامين سي، الضروري لنظامك الغذائي.»
ردَّت الآنسة ماك: «العصيدة أكثر إشباعًا يا آنسة.»
علَّقت الآنسة: «لكنك تزدادين بدانة. هل تقيسين وزنك كلَّ صباحٍ بعد الاغتسال؟»
طرفت الآنسة ماك بعينَيها؛ إذ باغتها السؤال. كان المِرحاض مثل زنزانة بدائية، ولعدم وجود غاز في المَبنى، كان توافر المياه الساخنة يعتمِد على نيران المطبخ، إلى جانب شبكة أنابيب معطوبة.
قالت كاذبة: «بلى يا آنسة»؛ إذ لم تجرؤ على الاعتراف بأنها لا تتحمَّم إلا مساء السبت، حين تكون الطاهية بالخارج، ومِن ثَم تستطيع أن تُشعل نيران الموقد بنفسها. وأعادت سؤالها: «أتسمحين لي بتناول العصيدة على العشاء؟ إنها وجبة رخيصة جدًّا.»
ردَّت الآنسة: «إن كنتِ تشتهينها حقًّا فلا مانع عندي بالطبع. المسألة ليست في التكلفة بل في صحَّتك.» كان صوت الآنسة أسبري حادًّا، لكن كانت عينا مُرافقتها الزرقاوان الصافيتان هادئتَين.
قرَّرت الآنسة ماك: «سأطلب بيضًا مسلوقًا في المرة القادمة. وفي المرة التي تليها سأطلب طعامًا لذيذًا بحق.»
هزَّت طَرقة ساعي البريد المنزل، وغادرت روز الغرفة في خيلاء. وعادت بعد هُنَيهة تحمل خطابًا على صينية تقديم من البيوتر، وقدَّمته للآنسة أسبري.
ظلَّ عقل الآنسة ماك مشغولًا بالسجق الشهي المُحتمَل أن يكون مصنوعًا من الدم؛ لذا لم تُراقب الآنسة أسبري بوفائها المُعتاد الذي يُشبه وفاء الكلب. لكنها عندما سمعت شهقتها الحادة، نظرت إليها ووجدتها تُحملق في رسالة مفتوحة.
كان ضِيقها واضحًا لا يخفى على أحد؛ إذ انتظرت أن تستعيد رباطة جأشها بالكامل، قبل أن تتحدَّث إلى خادمة الاستقبال.
قالت: «إذا سمحتِ يا روز، اذهبي إلى بيت القسيس، وأخبريه أنني أرغب في رؤيته على الفور.» بعد ذلك توجَّهت إلى الآنسة ماك بطلَب آخر. وقالت: «عندما يأتي القسيس، أحضريه إلى الرَّدهة من فضلك.»
تركت الآنسة ماك عشاءها الذي لم تنتهِ منه عن طِيب خاطر، وانتظرت في المدخل المسقوف المُظلم، مثل حارس صبور. لاح جسد القسيس الضخم في الشفق، وكان يسبق روز بعدة خطوات، رغم إسراعها للحاق به بقوامها الرشيق.
عندما نظر القسيس إلى وجه المرأة الضئيلة المُبتسِم دائمًا، نقلتْ إليه رسالة مخدومتها.
قالت: «الآنسة أسبري تنتظرك في الرَّدهة.»
اندفع القسيس مثل الإعصار إلى غرفة المعيشة التي كانت تُشبه غرفة الطعام بجدرانها المكسوة بالألواح وإضاءتها الخافتة. كانت هناك ستائر بنفسجية على النوافذ وبضعة كتب ووعاء يحتوي على زهور الليلك البيضاء، ولكن لم تكن هناك وسادة واحدة ولا سجادة ولا جريدة. كانت الآنسة تجلس على كنبةٍ من البلوط ذات مسندٍ طويل للظهر؛ وفور أن دلف القسيس إلى الغرفة أحسَّ وكأن قلب الآنسة أسبري لم ينعم بدفء خبرات الحياة ومباهجها قط.
بدت لعقله كأنها استعاضت عن مظاهر الدنيا القذرة بنقاء روحها. لهذا عظمت دهشته واشتدَّت عندما تحدثت إليه دون تحية.
قالت: «لقد أرسلتُ في طلبك أيها القسيس؛ لأنني استلمتُ خطابًا مجهولًا منذ قليل. هذا الخطاب يُهاجم أخلاقي الفاضلة. هلَّا تقرؤه إذا سمحت؟»
حملق بها القسيس في رُعب وعدم تصديق، ولأول مرة خانته الكلمات، لم يجد ما يقول.
قال أخيرًا: «لكن … لكن … هذا مستحيل.»
مدَّت آنسة أسبري يدَها بالخطاب، وقد سرَت في أصابعها رعشة خفيفة.
كرَّرت طلبَها: «اقرَأْه.»
رفض القسيس، وكان رفضه يستوجِب ثناءً أبديًّا؛ إذ كان الفضول يتملَّكه بقوة.
قال: «لا أريد. ربما ترغبين في أن أقرأه الليلة ثم تُغيِّرين رأيك بالغد.»
هزَّت الآنسة رأسها الأشيب المتلألئ.
وقالت: «لا أخشى على شيءٍ من الغد ولا مِن أحد. لكنْ بعد قراءة الخطاب، أصبحتُ أخاف من نفسي. إنه يثير شكوكي، ويجعلني أتساءل عما إذا كنتُ أعرف قلبي حقَّ المعرفة. لو كنتُ كاثوليكية رومانية، لأبرأتُ نفسي في كرسي الاعتراف. أما وقد تعذَّر ذلك، فلا سبيل أمامي إلا أن أطلب منك أن تقرأ الخطاب، وأن تمنحني الغفران إن أمكنك ذلك.»
قال القسيس: «سأقرؤه إن كان هذا ما تُريدينه حقًّا.»
وتناول الخطاب بخفَّة بعدما أعرب عن اعتراضه. كان الخطاب مكتوبًا بأحرفٍ كبيرة على ورق ذي جودة مُمتازة بلغةٍ سليمة خالية من الأخطاء الإملائية. وبدأ بجملة: «نصَّبتِ نفسكِ حكمًا على النساء التعيسات الحظ اللَّاتي أنقذتِهنَّ من الانحطاط، على غير رغبةٍ منهنَّ على الأرجح، لكن هل ترَينَ نفسك أعلى شأنًا من أحطهنَّ قدرًا؟» واستمر الخطاب على هذا المنوال، واكتسى كل سطرٍ من سطوره بالتلميحات اللزجة، كأن بزاقة زحفت على صفحاته.
انفعل القسيس أكثر من مرة بينما كان يقرأ الخطاب، وعندما انتهى سحَقَه بين أصابعه القوية بغضب، وألقى به على الأرض.
صاح: «ما أحقره! أي خطاب مجهول مِثل طعنة في الظهر، لكن هذا تحديدًا قد بلغ أعلى درجات الشناعة … أخبريني، يا آنسة أسبري، هل لديكِ أي شكوكٍ بشأن هوية كاتب الخطاب؟»
أجابت: «لا. إلى جانب أن الكاتب لا يُهمني. ما يُهمني حقًّا هو أن أعرف رأيك فيَّ.»
تصرف القسيس دون سابق تفكيرٍ وفقًا لطبيعته المُتسرعة. وفي هذا الموقف تحديدًا، وثَبَتْ عضلاته لتُطيع غريزته، من قبل أن يُعمل عقله، وخرجت منه إيماءة مسرحية غير مُتعمدة. فانحنى متناولًا يد الآنسة النحيلة البيضاء، وقبَّلها في احترام صامت.
وقبل أن يتملَّكه الخجل من فعلتِه، حاز على مكافأته بالدموع المُتلألئة التي ترقرقت في عينَي الآنسة.
قال: «هذا ما أعتقده. لكني أومِن أيضًا أن شخصًا فاسد الطوية يغار منكِ.»
أحدث الباب صريرًا خافتًا وهو ينفرج انفراجةً صغيرة، فرفع القسيس رأسه بحدَّة، وتناول الخطاب من الأرض. وسرعان ما نظر في اتجاه الآنسة ماك، التي كانت تجلس في زاوية الحائط في انتباه، وباغتَها بسؤال.
قال: «كيف تتهجَّين كلمة «حكَمًا» يا آنسة ماك؟»
فتهجت الكلمة كما توقَّع تمامًا.
تمتم قائلًا: «بالضبط! أشكرك.» والتفت إلى الآنسة. وقال: «هذا الخطاب كتبه شخصٌ مُتعلم. والآن ماذا تودِّين منِّي أن أفعل تحديدًا؟ هل أحاول أن أتتبَّعه حتى أصل إلى صاحبه؟»
سألت: «أيُمكنك ذلك؟ فالمُرسِل مجهول.»
أجاب: «ليست لديَّ أدنى فكرة. لكن لديَّ صديق، عاطل عن العمل، ومهووس بالألغاز. وسيستمتع بحلَّ هذا اللُّغز أيما استمتاع.»
كان رد فعل الآنسة أن أعادت الخطاب إلى الصينية، وأشعلت النار في طرفه بعود ثقاب.
قالت: «هذا ما سأفعله بالخطاب. لقد عادت لي راحة البال مرة أخرى.»
وبينما كانت تشاهد الورق يشتعل ويستحيل إلى رمادٍ، سكنت ملامحها واختفى التوتر من عينيها.
لكن القسيس انتابه فجأة شعور غامض بشرٍّ مُحدق مزَّقه شرَّ مُمزَّق. فالتقط الظرف الذي بدأ يحترق بلا تفكير، وأطفأ الرقعة التي اشتعلت فيها النار بإصبعيه.
سألها: «أيُمكنني الاحتفاظ بهذا الخطاب؟ لعلَّه يُفيدنا في المستقبل في حالة إرسال خطاب آخر.»
ترددت الآنسة ثم أومأت برأسها الشامخ.
قالت: «بالطبع. لكني واثقة أن المسألة انتهت … أشكرك على قدومك. تصبح على خير.»
سارت الآنسة ماك بخطوات سريعة إلى حدٍّ ما إلى باب الغرفة، وفتحته، كي تُفهم القسيس أن عليه المغادرة. تباطأ القسيس لا يدري هل يُعيد إنجازه ويُقبِّل يد السيدة المُغتمَّة مودعًا أم لا. لكنها بدت أنها نسيت وجوده؛ لذا استجاب لتلميح الآنسة ماك، ورحل.
حمل القسيس معه ذكرى وجه الآنسة أسبري، وهو يتلألأ بشحوبٍ وسط الجدران الخشبية القاتمة، وأحسَّ كأنها أُودِعت في ضريح، وبدأت تتلاشى في سرمدية القداسة الباهتة.
جرَّ القسيس ساقيه إلى بيته، وكان مُثقل الفؤاد فزِعًا من مجرد احتمالية أن قريته المثالية تئوي عقلًا خبيثًا مسمومًا. لكنه عندما استدعى إلى ذاكرته كل فردٍ من أفراد دائرته الاجتماعية المحدودة، وجد نفسه يهز رأسه ويشدُّ كتفَيه، كأنه قد نفض عبئًا من عليهما.
لا أحد من معارفه كان يستطيع الإتيان بهذا الفعل. كان يرى أن الخطاب قد كتبه شخص عديم الاتزان كان يعرف الآنسة أسبري في الماضي ويُضمِر لها ضغينة. وبدا أن وجود ختم بريد القرية على الظرف لا يحمِل أي أهمية؛ لأن الحصول عليه بطريق الاحتيال أمر سهل.
عندما دخل القسيس غرفة مكتبه البهيجة، كانت زجاجة الويسكي على الطاولة والراديو مُفتوحًا. كانت الأجزاء الأساسية من كلب سبانيل بدين، يدعى تشارلز، على اسم «تشارلز ديكينز»، مُتكتلة في حجر الطبيب، وبدا من نظرات الكلب الذكية أنه كان يساعد ضيفهما في حلِّ أحجية شطرنج في الجريدة المسائية.
سأل الطبيب بيري بلهفة: «خيرًا؟»
كرَّر القسيس: «خيرًا»، وكان يسير إلى الطاولة، ويتناول العديد من الزجاجات ليقدِّم واجب الضيافة لزائره. «أتريد صودا أم ماءً عاديًّا يا دكتور؟ أخبِرني حين تريد أن أتوقَّف عن الصب.»
عضَّ الطبيب بيري على شفتَيه، وشدَّ أذنَي تشارلز الناعمتَين ليحظى ببعض الدعم المعنوي، قبل أن يُكرر سؤاله.
أجاب: «خيرًا؟ هل كان الأمر مُهمًّا للدرجة؟»
ضحك القسيس وهو يُفتش في إحدى الخزانات عن وعاء البسكويت.
ثم أجاب: «لا شيء. كانت تشعر ببعض الضيق. هذا كل ما في الأمر.»
قال الطبيب بهدوء: «حسنًا. هذا كل ما في الأمر.» وأخذ كأسه. وقال: «أشكرك. في صحتك.»
أسِفَ القسيس لأنه لم يُشبع فضول الطبيب، لكنه كان يحمي سرَّ كرسي الاعتراف. والتفت إلى كلبه الذي أبدى كل علامات الجوع الشديد فور رؤيته للبسكويت.
قال القسيس وهو يقذف له بقطعةٍ من البسكويت الهش: «تفضل يا تشارلز. يا لك من وغدٍ شرِه، لكنكَ تعلم أن سيدك الساذج المسكين لن يُطيق رؤية أنفك يسيل وعينَيك تدمعان. لكن لن يفيد صديقنا الطبيب أن يُحاول إثارة شفقتنا، أليس كذلك يا تشارلز؟ فليس لدينا شيء له. بالمناسبة يا دكتور، فضلًا لا تُخبر أحدًا بأن الآنسة أسبري أرسلت في طلبي هذا المساء.»
ضحك الطبيب بيري بتهكُّم وقال: «أتفهَّم قصدك تمامًا. تجعلني أتذوَّق من نفس الكأس؛ لأن الطبيب يجِب ألا يكشِف أسرار مرضاه … لن أرغب منك يا أبتِ العزيز أن تخون ثقة أحد مَهما كان الثمن. ليس هناك مَن أحترمه أكثر من الآنسة أسبري وإن كنتُ لا أُحبها كثيرًا. أشعر بالأسف لأنها تعرَّضت للمُضايقة.»
سأل القسيس: «كيف عرفتَ أنها تعرَّضت للمضايقة؟»
أجاب: «لا أعرف؛ لذا من الطبيعي أن ينشغل عقلي بكل الفرضيَّات المُستحيلة السخيفة … حسنًا، يجدُر بي العودة إلى المنزل، لأتأكد أن زوجتي كما تركتُها.»
تفقد الطبيب بيري الساعة الجدارية، وأفرغ ما تبقَّى من الويسكي في فمه، ونهض من مقعده ليُغادر.
قال وهو يربِّت على رأس تشارلز: «إلى اللقاء يا أبتِ. تروقني سياستك الرائعة في التزام الصمت، ولا أكِنُّ لك أي ضغينة.»
فغر القسيس فاه دهشةً عندما أضاف الطبيب: «لكن أعترف أنني كنتُ سأُحب أن أسمع منكَ كيف دافعتِ الآنسة أسبري القديسة عن شرفِها.»