الخوف يطرق الأبواب
عندما صرحت الآنسة أسبري بأن المسألة قد انتهت، لم تكن تعلَم أن خادمة الاستقبال كانت تسترق السمع من وراء الباب. فقد تلكَّأت روز في البهو، لا لتُشبع فضولها فحسب، وإنما لتُحذِّر من أي مضايقة قد تُهدد سيدتها.
كان لدى روز شهادة من زوجة أحد الأساقفة، تُثبت وفاءها وكتمانها للأسرار، كما أنها لم تُكرر أي كلمةٍ فعلية مما بلغ مسامعها. لكن، مِثل الذي يحمل الميكروب دون أن يدري، حرَّرت السمَّ الذي في جسمِها بتسريبه رويدًا رويدًا. فبطريقة أو أخرى، نقلت فحوى الكلام للطاهية، التي نقلته بدورها إلى أدا الجميلة، في صورة تلميح. وعلى الفور أضافت أدا إلى هذا التلميح فصار همسة، ثم نقلتها إلى سائق عمدة القرية.
وفي غضون أربع وعشرين ساعة، من خلال التواصُل القروي اللاسلكي، انتشرت شائعة تعرُّض أخلاق الآنسة أسبري للهجوم، عَبر خطابٍ مجهول الهوية، من شخصٍ فاسد الطوية يشعُر بالغيرة منها.
كانت الآنسة كورنر تجلس مُتربعة في مكتبتها، تُدخن السجائر وتقرأ، عندما أخبرتها مدبرة منزلها وطاهيتها بأمر الخطاب. كانت الروائية على علاقة طيبة بالعامِلين لديها؛ إذ كانت تأخذ راحتهم بعين الاعتبار؛ في الحقيقة، كان هناك استياء عام بين أهل القرية من أن حمَّام العامِلين لديها يفوق حمَّام الآنسة أسبري بكثير.
لم تُحقق قصة مدبرة المنزل أثرها المطلوب في نفس الآنسة كورنر؛ إذ كانت لا تزال مسحورة بكتاب «باث» للشاعرة الإنجليزية إديث سيتول. ربما كانت تبيع خمرًا رخيصًا منزليَّ الصُّنع إلى جانب قصصها الرومانسية التافهة وقصصها المُراهقة السخيفة، لكنها تستطيع تمييز التبر من التراب، وأرفُف مكتبتها خيرُ دليل على ذوقها الأدبي الانتقائي.
كانت الآنسة كورنر تنفُث دخان سيجارتها في تجهُّم، وهي تُنصت إلى حكاية مدبرة منزلها دون تركيز، فيما فضح تقلُّص بؤبؤ عينِها أنها لا تزال عالقةً في القرن الثامن عشر، وأن عقلَها لا يزال شِبه مُغيَّب من لذة لُغته البديعة.
«قماش خشن خمري اللون، الشَّلون، الراتين، السَّالبين.» طافت الجُملة في ذهنها مثل نفحةٍ مراوغة من أريج زهرة البليحاء العطرية حملتها نسمةٌ صيفية تلاشت.
فطنت السيدة بايك مدبرة المنزل، أن قصتها لم تنجح في إثارة فضول الآنسة، فطفقت تعتذِر عن ذلك.
قالت: «بالطبع، يا سيدتي، لا نعرف كل ما ورد في الخطاب. ثقِي أن ما وصل إلينا هو غيض من فيض.»
علقت الآنسة كورنر: «في كل حكايةٍ جزء نرويه نحن، وجزء ثانٍ يرويه الآخرون، وجزء ثالث يحمل الحقيقة. ادمجي كل هذا معًا يا سيدة بايك، وانظُري إلامَ ستئول الحكاية.»
أشفقت الآنسة على السيدة بارك لما لاحظَتْه عليها من حيرة، فغيَّرت الموضوع.
قالت: «سأُقيم حفل شاي صغيرًا بعد ظهر اليوم. أعدِّي أفخر أنواع الشاي حفاظًا على المظهر فحسب؛ إذ لن يتناوله أحد. أنتظر قدوم السيدة زوجة العمدة، والسيدة سكودامور، وليدي دارسي.»
علقت السيدة بايك وهي تُخرِج دفتر ملاحظتها: «على أي حال، سيكون لديك موضوع للنقاش، على سبيل التغيير.»
في الواقع، بدا أن واقعة الخطاب المجهول ما جاءت إلا لتُثبت أن شريان حياة هذا المجتمع الصغير لا يزال سليمًا معافًى لا يسمح بدخول أيِّ عدوى. فقد تلقَّى أفراد المجتمع الخطاب إما برفع حواجبهم تعبيرًا عن عدم تصديقِهم بشكلٍ مُهذب، وإما بنوباتٍ من الضحك الشافي. ولكن حتى في هذه المرحلة المبكرة، كانت بعض الأحداث تُشير إلى أن مجتمع القرية ليس مُحصَّنًا ضد السموم الخبيثة، ولكنه فقط يُقاومها.
كان الطبيب بيري يقود سيارته متوجهًا لزيارة مريض بالبلدة، عندما قابل عند مُفترق الطرق فيفيان ابنة عمدة القرية التي كانت تقود «بيبي أوستن». لم يكونا صديقَين مُقرَّبين، لكن كانت سيارتاهما تُصرَّان دائمًا على التعطُّل لتوطيد العلاقات بينهما، فما كان من مالكيهما إلا استغلال الموقف على أفضل نحوٍ مُمكن.
أوضح الطبيب في عجالة: «أنا أبرِّد مُحركي. فلقد تجاوزت حدود السرعة. كيف حال سيارتك الصغيرة؟»
ردَّت فيفيان بتفاخُر: «على أحسن ما يكون. لكن لا يُوجَد بها وقود كافٍ.» وبدأت تُثرثر كأنما ومض في إدراكها أنها تحت رحمة السيارة ولا بدَّ لها من انتظارها حتى ترضى.
سألتْ: «أسمِعتَ عن الخطاب المجهول المرسَل للآنسة أسبري؟»
كان الطبيب لا يعرف شيئًا عن الخطاب؛ لكن بينما كان يُنصت إلى فيفيان لمعت عيناه بالفضول الذي تحوَّل إلى الاستياء. كانت هذه مهمة القسيس السريَّة إذن. لقد كان حاضرًا بنفسه مولد تسلسلٍ غامض من الأحداث البشرية، واستُبعِد وتُرك وحيدًا.
لكن القسيس، حسبما بدا، لم يُضِع الوقت ونشر القصة على الفور. وتبيَّن للطبيب أن سياسة الصمت الرائعة للقسيس ليست سوى محض تظاهر.
حدَّث نفسه في ازدراء، عندما سئمت إحدى السيارتَين من الأخرى فجأةً واتفقتا على الدوران، قائلًا: «هذا الشخص تسمع منه الجعجعة ولا ترى الطحين.»
بعد مرور ساعة، الْتقى الطبيب بيري بالقسيس الذي كان يمشي متثاقلًا بمعدَّات الصيد، وحيَّاه بفتور. كان لا يزال به أثر الاشمئزاز، في حين كان القسيس فزِعًا من شكوكه الحقيرة؛ إذ ظلَّ ذهنه مشغولًا بتعليق الطبيب بيري الأخير. «كيف علم الطبيب أن الخطاب شكَّك في أخلاق الآنسة أسبري الحميدة؟»
تحدث الرجلان عن صيد السمك بذبابة الصيد الصناعيَّة دون أن يتطرَّقا إلى مسألة الخطاب. وعرض الطبيب أن يُقلَّ القسيس في سيارته لكنه رفض. لقد انتشر بعض السمِّ في القرية.
كما أُثير الموضوع في منزل «ذا هول»، حيث كانت الليدي دارسي تتناول الغداء مع عائلة عمدة القرية. كانت زوجة العمدة الشابَّة الشقراء — التي تميل إلى البدانة، ولكنها تمتعت بسماحة نفس وإيثار — ذات طابع إنساني بما يكفي ليُثير الخطاب حماسها بعض الشيء.
فسألت بحماسةِ فتاةٍ مراهقة: «أتساءل عمَّن كتبَه.»
شدَّ زوجها شفتَه السُّفلى في ارتياب، وانساقت ليدي دارسي الغامضة إلى المحادثة بلا تفكير؛ فلم يُبالِغ القسيس حين تفاخر بأن هذه القرية تكاد تكون خاليةً من رذيلة الفضائح.
قالت ليدي دارسي بصوت رقيق جدًّا: «ليس واحدًا منَّا»، وغيَّرت الموضوع.
بدا كلامها بلا شائبة تشوبه، لكن العمدة قطَّب حاجبَيه، وشدَّ شفتَه مرة أخرى، وغرق في التفكير. لم تكن القرية تُرحِّب بأي ساكنٍ لم يقطن بها خمسة عشر عامًا على الأقل. هذا دون حساب المُرافقين والمُربيات بلا شك، بينما تسللت زوجة الطبيب بيري إلى القرية تحت جناح زوجها.
لم يتبقَّ إذن سوى عائلة مارتن، مُلَّاك «ذا تاورز» الأثرياء الغائبون، وروائية القرية.
استفاقت الآنسة جوليا كورنر تمامًا من استغراقها في «باث»، وعادت إلى شخصيتها الودودة المُعتادة، عندما أدَّت دور المُضيفة في حفل الشاي ببيتها. كانت ترتدي بلوزة بيضاء تقليدية من الموسلين، ذات أكمامٍ قصيرة صبيانية وياقة دائرية. وأحاط بعُنقها البدين عقدٌ من حبَّات المرجان، وقصَّت شعر غرَّتها الأشيب حديثًا. حركت الآنسة إبريق الشاي حركة مسرحية خطيرة، وهي تبتسِم مبتهجة لضيفتَيها اللتَين كانتا من جيلٍ أكثر شبابًا.
بسبب سلسلةٍ غريبة من سوء الحظ، أرسلت زوجة عمدة القرية وليدي دارسي نائبتَين عنهما إلى الحفل. فقد ثارت زوجة العمدة الطيبة على زوجها، عندما ادَّعت إصابتها بصداع يكاد يفلق رأسها، وأصرَّت على ذهاب فيفيان مكانها. أما ليدي دارسي الغامضة التي كانت عملية بما يكفي لاستغلال الآخرين، فطلبت من جوان أن تُبلغها اعتذارها عن الحضور.
كانت قدرات جوان الإبداعية على القدْر نفسه من التحدِّي، وتحمَّست للبقاء؛ فهي وإن اكتسبت احترامًا للفن في تشيلسي، إلا أنها كانت ترتد على أعقابها إذا ما تعلق الأمر بمنزل الآنسة كورنر المريح.
امتاز بيت الآنسة بمحطة كهرباء خاصة، مكَّنت الروائية من إشباع شغفها بالإضاءة الساطعة، إلى جانب نظام تدفئة مركزية مثالي. وإن كانت الواجهة الخارجية للبيت قديمة، لتألُّفها من نُتف حظائر على طراز القرن الرابع عشر، لكن تصميمه الداخلي كان عصريًّا تمامًا بالأدراج والخزانات المدمجة والأثاث المعدني غير التقليدي، والستائر المطاطية المُغطاة بالألومنيوم ومصابيح كهربائية على هيئة كواكب. وبدلًا من الصور وُضِعت مرايا كثيرة.
فسَّرت الآنسة كورنر: «أُحب رؤية مَثيلات لي. هؤلاء الفتيات البدينات رفيقاتي. ألا يقول المثل إن الفتاة البدينة تستطيع أن تُحب وإن لم يُحبها أحد؟»
ابتسمت فيفيان ابتسامةً مهذبة مُتكلفة؛ إذ لم تكن على راحتها تمامًا. كانت فيفيان فتاة جميلة، شعرها أشقر وعيناها فيروزيتان، وبشرتها ذات لونٍ جذاب. ومثل غالبية فتيات القرية، كانت رقيقةً بما أوحى أنها نشأت في صندوقٍ زجاجي، حتى إن جوان بدت، مقارنةً بها، مثل ثمرة تفاح وردية طبيعية وضعت بجوار ثمرةٍ من خوخ الدفيئة.
بدا أنهما في العمر نفسه، لكنَّ فيفيان، في واقع الأمر، لم تكن تملك روح الشباب نظرًا لنشأتها الريفية المُنغلقة.
رفعت فيفيان حاجبَيها الرقيقَين عندما بدأت جوان تتحدَّث عن الخطاب المجهول.
سألت جوان: «ما رأيك في الأمر يا آنسة كورنر؟»
أجابت: «إنه مُثير. يقال إن كاتب الخطاب المجهول هو المجرم الوحيد المُثير للفضول حقًّا.»
قالت فيفيان: «أرى الأمر مُثيرًا للاشمئزاز. ولا سيما إرساله للآنسة أسبري من بين كل الناس.»
سألت الآنسة كورنر: «لِمَ يجب استثناؤها؟ هي ليست قدِّيسة، أليس كذلك؟»
ردَّت فيفيان: «لا، ليست قديسة. لكنها كائن في غاية … في غاية الروحانية. وأنا أُكنُّ لها الكثير من الحُب. لا بد أن هالة زرقاء أو بنفسجية تُحيط بها. على أي حال، أنا واثقة أن لها تأثيرًا إيجابيًّا على الغَير. في كل مرة أذهب إلى قصر «سباوت» أشعر أنني في سلام تام.»
ولمَّا كان من الصعب الربط بين فيفيان وبين أي نوعٍ من المشاعر، لم يحرك كلامها أي شيء في نفس جوان أو الآنسة كورنر.
قالت الروائية: «أنتِ محظوظة. ليتني أستطيع قول المِثل بشأنها. فأنا أشعر أنها تفرغ عقلي من الأفكار وتُصيبني بالكآبة والبؤس دائمًا. في الحقيقة، عندما أكون في مرحلة نضوج العمل الأدبي، لا أجرؤ على الاقتراب من منزلها المُتهالك أبدًا.»
كرَّرت فيفيان بنبرة مُعاتبة: «متهالك؟ منزل الآنسة أسبري وأثاثها نموذج مثالي للعصر التيودوري.»
ردَّت الآنسة كورنر: «أتفق معك، وأنا لا أجلس في القرن السادس عشر. صحيح أن الطبيعة قد تكرَّمت وزوَّدتني بالبطانة اللازمة من الشحم واللحم، لكن ليس من العدل أن ننتظِر من الضيوف أن يُحضروا معهم وسائدهم … لكن الآنسة بروك ليس لدَيها ما تتناوله.»
توقفت الآنسة كورنر عن الكلام لتُقدِّم لجوان مجموعة مختارة من الكعكات.
قالت: «هذه المُعجنات الهشَّة لذيذة، لكن ليس من الآمِن تناولها بلا صحن. فهي من النوع المخادع الذي يقذف القشدة في عينَيك. تفضَّلي الصحن وفوطة المائدة يا عزيزتي. لستُ من الطبقة الراقية الساديَّة التي تُغري الفتيات البريئات بتناول البرتقال على الملأ … همم. لقد تأخرت السيدة سكودامور.»
نظرت الروائية إلى الساعة الجدارية، وصبَّت لنفسها كوبًا آخر من الشاي، فيما غرقت في التفكير، وضاق بؤبؤ عينَيها حتى صار كأنه ثقب إبرة.
قالت: «لنعُدْ إلى موضوع الآنسة أسبري. هل لاحظت إحداكما أنها قوية على غير العادة مع أنها تبدو كأن هبَّة ريحٍ ستقذفها بعيدًا؟ كما أن عقلها لا يزال حادًّا مثل أسنان حيوان الغرير … في بعض الأحيان أتساءل عما إذا كانت تستمِدُّ مخزونها الاحتياطي من الطاقة من الآخرين بالنظر إلى أنها تتقدم في العمر. عندما قدمتُ إلى هنا أوَّل مرة، لم ألحَظ تأثيرها عليَّ، ومن الغريب أن قواها لا تضعف بتقدُّمها في السنِّ فيما يبدو. أتعرفان يا فتاتيَّ أن هناك أشخاصًا لديهم القدرة على استنزاف طاقتك؟»
احمرَّ وجه فيفيان الذي يُشبه الوردة وسألت: «أتقصدين مصَّاصي دماء من البشر؟ ما أشنعه من وصفٍ للآنسة أسبري!»
أسرعت جوان تُغيِّر الموضوع.
قالت: «أتساءل لِمَ لا تقتنين حيوانًا أليفًا يا آنسة كورنر. فالقطط والكلاب رفقاء أفضل من المرايا.»
ردَّت الروائية بحُزنٍ: «ليتني أستطيع. لكنني أعيش بمفردي.»
قالت جوان: «هذا سببُ اقتراحي.»
عقَّبت الآنسة: «وهو نفس سبب رفضي. إذا حدث لي شيء، فماذا سيكون مصيرها؟ إن عشقي للحيوانات يمنعني من تعريضها للخطر.»
لم تلحظ جوان لمحة الحزن التي غشَّت عيني الروائية؛ لانشغالها بالتأمُّل في الشريط الأزرق الغامق الصغير جدًّا على صدر الآنسة الأبيض العريض.
سألتها: «أهذا وسام الامتناع عن شُرب الخمر؟»
أجابت الروائية: «أجل. أرتدِيه كي أُعلِم الآخرين أنني لا أشرب الخمر … في الأماكن العامة.»
ضحكت جوان مع مُضيفتها؛ لأنها تذكَّرت قصة صديقتها السخيفة.
قالت جوان: «أرى أن الخطاب المُرسَل للآنسة أسبري ليس إلا دعابة سمجة سخيفة. ولو أتبعه المرسِل بآخر، فسيكون من نصيبك على الأرجح، وستُتَّهمين بشُرب الخمر في السر.»
ابتسمت الآنسة كورنر ابتسامة عريضة وقالت: «لكنني أشرب الخمر في السِّر. كل ما هنالك أن لا أحد في القرية لدَيه أي حسٍّ فكاهي عدا الطبيب.»
هتفت فيفيان في ذهول: «دكتور بيري؟ إنه صامت دائمًا.»
«بالضبط. احذري من الكلب الذي لا ينبح. أتعلَمين أنه يُحبني في السر؟ هناك مَن يُحب الفتيات البدينات في نهاية المطاف … هذه هي إشارتنا السرية.»
وتناولت كوبَ شاي فارغًا أسودَ مطليًّا بالذهب، واتجهت نحو إحدى النوافذ الصغيرة، ووضعته على إطارها المفتوح.
كانت جوان ترى الروائية مُثيرة للشفقة من منطلق السفاهة والغطرسة المعهودين للشباب. وكانت الروائية تُشفق عليها من واقع خبرتها التي تمنحها أفضلية مضمونة. حدثت الآنسة كورنر نفسها: «لا جمال ولا مال ولا موهبة. إن فازت بِحُب القسيس فقد نجت. وإن لم تفعلْ فليُعِنْها الرب.»
تهلَّل وجه الروائية في ترحاب كعادتها، عندما أعلنت ماي خادمتها الوفية الغبية، وصول السيدة سكودامور.
دخلت السيدة الرفيعة الشأن بهيبتها المُعتادة، وتركت بصمتها المُميزة على الحاضرين. كانت ترتدي رداءً ومعطفًا قصيرًا من موضة العام السابق من الدانتيل الرمادي، وبدتْ تمامًا كامرأة إنجليزية في منتصف عمرها، وأدقَّ مثالٍ على المرأة الإنجليزية في القارة الأوروبية.
كانت ملامحها الجميلة كبيرة نسبيًّا، وكان شعرها كثيفًا وغير مُصفَّف بشكلٍ عصري أنيق.
لكن الجميع أظهروا احترامًا عفويًّا لروح القرية. فاعتدلت جوان في جلستها على الفور، بعد أن كانت تجلس مُسترخية في مقعدها مُمدِّدة ساقَيها، وتنفَّست فيفيان الصعداء، كأنها تُرحب بوجود داعم أخلاقي، في حين همست الآنسة كورنر إلى ماي قائلة: «أحضري إبريق شايٍ جديدًا.»
كانت السيدة سكودامور في غاية اللطف مع الجميع. وفور أن رشفت الشاي، وأحبطت محاولة إحدى الكعكات الغادرة للسقوط على الأرض — بعدما رفضت أن تحمِل صحنًا — خاطبت جوان مبتسمةً.
سألتها السيدة سكودامور: «ما الذي كان يُضحكك عند وصولي؟ كان صوتك يبدو في غاية البهجة.»
ردَّت جوان: «أظن أننا كنَّا نتحدث عن الخطاب المجهول المرسَل للآنسة أسبري.»
كررت السيدة كلامها: «خطاب مجهول؟ هنا؟ … يا إلهي.»
ندَّت عن السيدة سكودامور صرخة خافتة. وارتكبت — وهي المِثال على السلوك الرفيع — تلك المُخالفة التي لا تُغتفر وسكبت الشاي على الأرض. كانت الكارثة مُكتملة الأركان؛ إذ أوقعت كلًّا من الكوب والصحن الخزفِيَّين، فتحطَّما وابتلَّت السجادة الفارسية الجميلة ذات اللونَين الذهبي والأزرق.
أظهرت الآنسة كورنر سماحةً بالغة، وأخفت مشاعرها الطبيعية تحت قناعٍ من الضحك مراعاة لشعور السيدة. وفور انتهاء عمليات التنظيف، استعادت السيدة سكودامور رباطة جأشها واستفسرت عن الخطاب المُرسَل إلى الآنسة أسبري.»
علَّقت السيدة: «يا لشناعته! إنه يكشف سوء طويَّة مُرسِله. لكنه غير معقول بالمرَّة. اتهام بالفسوق للآنسة أسبري من بين كلِّ الناس. وفي هذه السن.»
صاحت الآنسة كورنر: «لا دخل للسنِّ في الأمر. أنا في الخامسة والخمسين، ولا أُمانع أن أفعل أي شيءٍ في سبيل تجربةٍ أدبية.»
لاحظت جوان النظرة الخاطفة العفوية التي تبادلتها السيدة سكودامور مع فيفيان.
وقالت في نفسها: «ليتكِ لم تقولي ذلك.»
زادت الآنسة كورنر الطين بلَّة، دون أن تُدرك ضرورة الحذَر في كلامها.
وقالت: «لا أفهم حقًّا سبب كل هذا التقديس السخيف للآنسة أسبري. فقد كنتُ في نفس مدرستها كما تعلمون. بالتأكيد كنتُ أصغر منها سنًّا بكثير؛ لأنها الآن في الرابعة والستين. ومع ذلك، كنت روائيةً صغيرة، باستثناء أن أعمالي كانت أكثر نضجًا من رواية ديزي أشفور «الزوار الصغار». كانت ديسيما إحدى الفتيات البارزات، ذات ضفائر طويلة شقراء، لكني عرفتُ قدْرها الحقيقي.»
تمتمت فيفيان: «جدائل شقراء. لا بد أنها كانت تُشبه مارجريت.»
استطردت الآنسة كورنر: «تُشبه مارجريت في شكلِها لا في شجاعتها. ولا أرى أنها حقَّقت نجاحًا في حياتها. فقد تخلَّت عن وظيفتها وهي لا تزال امرأةً شابة. على الأقل لم أتخلَّ عن وظيفتي مِثلها.»
انزعجت الآنسة من عدم تجاوب ضيوفها معها — إذ بدت جوان نفسها مُستغرقة في التفكير — فطفقت تتباهى بنفسها.
قالت: «ربما أكون شديدة الزهو بعملي، لكني كنت — ولا أزال — أبث البهجة في قلوب الآخرين. أما الآنسة أسبري، فكل ما تفعله هو أن تجرَّ الفتيات البائسات إلى بيوت الشباب التي تُديرها، وتملأ بطونهنَّ بالخبز الناشف والزبد، وتجعلهنَّ يُنظفنَ الأرضيات ويُنشدن التراتيل.»
ولوَّحت بنظارتها بقوة أمام ضيوفها.
وأضافت في تفاخُر: «لا أظن أن أحدًا يُدرك حجم رسائل المُعجبين التي تصِلني. فالفتيان — أُحب الفتيان — يكتبون لي ويتوسَّلون أن أكتب المزيد من مغامرات جوي. «عزيزتي الآنسة كورنر، لا أطيق انتظار الحلقة التالية. أنتِ لا تعلمين مدى إعجابي بشخصية سام الشقي.» أو «من فضلك، من فضلك، عزيزتي الآنسة كورنر، حدِّثيني أكثر عن جيمي. فأنا أُحبه حبًّا جمًّا.» هذه هي مكافأتي، وأدعو الربَّ أن أظلَّ أكتب حتى آخر يوم في حياتي.»
كانت جوان ترى أن الرسائل أشبَهَ بهذيان فتيات مُراهقات وشعرت بالذنب لعدم وفائها لمخدومتها، عندما دوَّى بوق سيارة، فغمزت لها الآنسة كورنر غمزةً تآمُرية. سارت الآنسة إلى النافذة، غير خجِلةٍ من نظرة سكودامور المندهشة، وأزالت الإشارة السرية.
بعد مرور دقيقتَين، دخل الطبيب بيري الغرفة، واستقبلته الآنسة كورنر بكوبٍ مُمتلئ عن آخره بالشاي.
قالت: «تفضَّل شايك الصيني الخفيف. لا عليكَ. إن عشتُ فسأجعلك تحب الشاي الهندي القوي.»
أمعن الطبيب النظر في الآنسة كورنر، قبل أن يتَّخذ مجلسه بجانب جوان التي شعرت بالغبطة في قرارة نفسها. فمع أنها اختارت القسيس زوجًا لها، كانت تَعتبِر الطبيب الرجل الأكثر إثارة للفضول في القرية. ومع أنه كان يبدو رجلًا عاديًّا ليس به شيء مُميز، لكنها كانت تدرك عجزها عن فهمه.
همست جوان: «كنَّا نتحدث بشأنه.»
ندَّت عن الطبيب ضحكة خفيفة وسأل: «بشأنه؟ أتقصدين الخطاب الشهير أو بالأحرى الخطاب السيئ السمعة … مَن أخبرك بأمره؟»
أجابت: «القسيس.»
هتف: «القسيس بالطبع. حارس الأسرار المُحترف. هل من سخافةٍ أبلغ من هذا؟»
لاحظت جوان أنه لم يُعِرْها سوى النزر اليسير من انتباهه؛ إذ ظلَّت عيناه على الآنسة كورنر. واتضح من ابتسامة الروائية المُتفهمة أنه على علاقة قوية بها. كانت جوان تعلم من خبرتها الواسعة أن قوانين الجذب غير قابلة للتفسير، ومع ذلك كان وجه الآنسة كورنر، الباسم المُتورد خجلًا، يُذكِّرها بقوةٍ بفخذ الضأن في رواية «أليس عَبر المرآة»، حتى إنها استبعدت احتمالية وجود علاقة عاطفية، ورجَّحت وجود دافع أقبح.
حدَّثت نفسها: «الآنسة كورنر عانس غنية. لنقُل إن الطبيب يتملَّقها لتترك له ما لدَيها من مال. يا إلهي. أنا لا أقِلُّ سوءًا عن بيرلي.»
لكنها كانت تعلم أن صديقتها ستذهب بافتراضاتها الميلودرامية إلى حدودٍ أبعد، واقشعر بدنها عندما جفل ذهنها من فكرة فظيعة.
«المُسمِّم عذب الابتسامة.»
وانتزعت الفكرة من عقلِها نزعًا.
وفكرت في ندم: «بشِعة أنا. هذا خطأ بيرلي. هي من بدأت الأمر، والآن صارت الشكوك كأنما تنتشِر في الجو.»
عادت جوان إلى رشدها، وأنصتت إلى السيدة سكودامور، التي كانت عيناها الواسعتان الوديعتان كشَّافَين، يسقط ضوءُهما على وجوه أتباعها كي تضمَن انتباههم.
لمَّحت السيدة في كلامها بلُطف: «بالطبع لن أُشير إلى الخطاب في المرة القادمة التي ألتقي فيها بالآنسة أسبري. سيؤكد لها سكوتي تعاطفي التام معها. ستشعُر بالإهانة لو ظنَّت أنني فكرت في هذا الافتراء الخبيث والسخيف للحظة.»
كانت ابتسامتها المُطمئنَّة تَتِمَّةً غير منطوقة لخطابها القصير. قالت: «أظنكم تعرفون جميعًا كيف تتصرفون.»
تورَّد وجه فيفيان الأبيض وتحدثت بسرعة بالِغة: «أجل. هلا نتعاهد إذا سمع أحدنا شيئًا عن الآخر ألَّا يُصدق ما سمعه؟»
حملق الجميع في وجه فيفيان، مصعوقين من اقتراحها العفوي؛ إذ بدت كلماتها تلميحًا إلى وجود مُستنقعات من الأسرار. ووسط الصمت الذي خيَّم عقب ذلك سرى شعور بالتوجُّس والخوف عبر الغرفة.
كان ذلك أول نذيرٍ باقتراب الخوف.