الفصل السادس

نزهة في القرية

كان اليوم التالي حارًّا ورطبًا، وسط شمس حارقة وسماء خالية من الغيوم. دائمًا ما كان الجو الحار يملأ جوان بحيوية زائدة؛ لذا بعدما اطمأنَّت على راحة الليدي دارسي في فترة ما بعد الظهيرة، عزمت على السير إلى قمَّة تلال داونز لتتنسَّم النسيم.

خرجت جوان من ممشى كواكرز المعتم، وتراءت لها أكواخ القرية المسقوفة بالقش مثل خلايا النحل الذهبية، وبدت المضخَّة القديمة كأنها تأخذ قيلولةً في ذلك الجو الحار الباعث على النعاس. وكأن كلَّ من في القرية تحت تعويذة الأميرة النائمة، لم تلتقِ جوان بشخصٍ واحد في الشارع المرصوف.

لكنها عندما مرَّت بحديقة «سباوت» البديعة ذات الجدول المائي، رأت الآنسة ماك تختلس النظر عبر البوابة. كان وجهها الهادئ وثغرها الباسِم يعكسان شعورًا بسعادة غامرة؛ لكن الزخارف الحديدية التي كانت تسترق النظر من خلالها تُوحي بأنها مُحتجزة خلف قضبان، ما جعل تلك المرأة القصيرة تبدو مثيرةً للشفقة على نحوٍ غريب.

نادت جوان: «مرحبًا. أليسَ الجوُّ بديعًا؟»

ابتسمت الآنسة ماك وقالت: «أجل. هل أنتِ ذاهبة للتنزُّه؟»

ردَّت جوان: «نوعًا ما. سأصعد إلى قمَّة تلال داونز».

عقَّبت ماك: «رائع. أودُّ أن أكون جوَّالة … أيضًا.»

استفسرت جوان: «أتقصدين … ارتداء السراويل القصيرة وحمل حقيبة الظهر؟»

ونظرت إلى المرأة القصيرة البدينة، ومنعت ابتسامةً عريضة قاسية من التسلُّل إلى شفتَيها.

وسألت إذ تذكَّرت الخطاب المجهول: «أين هي الآنسة أسبري؟»

أجابت الآنسة ماك: «تقوم بأعمال البستنة هناك.»

ونظرت الآنسة ماك خلسةً إلى مكان حيث كانت امرأة طويلة نحيفة، في زيٍّ رمادي محبوك، تنحني على سياج الأزهار في الأفق. بعد ذلك، لمست دبوس الزينة الذي ترتديه جوان، كأنها تتلهَّف إلى إبقائها مدة أطول قليلًا.

قالت: «دبوس جميل. لكنه غير مُثبَّت بإحكام. سيضيع منكِ على هذا النحو.»

بينما انشغلت أصابع الآنسة ماك القصيرة البدينة بالدبوس، انتابت جوان رغبة مفاجئة في التضحية، مع أنها لا تُطيق مجتمع الكهول، شأنها في ذلك شأن أي فتاةٍ عادية.

سألتها: «لِمَ لا تأتين معي؟»

هتفت الآنسة ماك: «بكل سرور. فليس لديَّ ما أفعله للآنسة أسبري.»

ردَّت جوان: «مُمتاز. يجِب أن أوصل بعض المجلَّات إلى منزل سانت جيمس. استعدِّي — بحذاء متين وعصا — ولا تقلقي بشأن السراويل القصيرة. سأعود في غضون دقائق لاصطحابك.»

وبينما كانت المرأة تسير بخطواتٍ مهرولة في ممرِّ السيارات بحماسة، شعرت جوان بالرِّضا، وإن كانت مُتبرِّمة في قرارة نفسها.

قالت: «حمقاء هي تلك المرأة! لقد أضاعت نهاري.»

حملت جوان كومة المجلات التي كان الطبيب بيري قد أعارها لمريضته الثرية. فقد كانت ليدي دارسي، مثل غالبية سكان القرية، حريصة على شراء كُتب السِّير والرحلات فقط من مكتبة لندن؛ لكنها دأبت على استعارة كل ما تجِده من رواياتٍ ومجلات في منازل أصدقائها.

وما إن أوصدت البوابات خلف جوان مجلجلة، حتى ظهرت ماريان بيري تسير في تؤدة عبر الحديقة الزاخرة بزهور الأقحوان للقائها. كانت ماريان ترتدي منامةً خضراء، وبدت كأن الطبيب قد لكمَها في عينَيها؛ لكنها نجحت في الحفاظ على جاذبيتها العجيبة.

تناولت ماريان المجلات وألقت بها على العشب وهي تهتف: «لِمَ تُزعجين نفسك بهذه المجلات؟ الجوُّ حار جدًّا.»

ردَّت جوان: «تبدين رائعة على أي حال.»

قالت ماريان بنبرة متوسِّلة: «لا تتحدَّثي عن منامتي. إنها نقطة ضعفي. عندما ارتديتها لأول مرة، دفعتني حماقتي إلى اعتقاد أنني سأصدم القرية؛ لكن السيدة سكودامور اكتفت بالقول إن منامتي مُحتشمة ومريحة جدًّا، وإن لم تكن ملائمة بشكلٍ تام.»

أومأت جوان: «هكذا هي. تحرص دائمًا على ألا يتَّهمها أحد بالتزمُّت. لكنها حقًّا امرأة عملية للغاية. أين صغيراك؟»

أجابت: «يتشمَّسان. أترغبين في رؤية حديقة الحيوان الخاصة بي؟ أتُطيقين رؤية التعري الفاحش؟»

قصدت ماريان ركنًا قصيًّا من حديقة البيت على مهلٍ، حيث كان طفلان عاريان، على رأسيهما قُبعتان ضخمتان مخروطيتان من القش، يتهاديان في حظيرةٍ نقالة للعب. طغت عاطفة الأمومة على عينَيها المُحاطتَين بالهالات السوداء لكنها تحدثت بلامبالاة مُصطنعة.

قالت ماريان: «أليس هذان الشقيَّان مُسلِّيَين؟ يبدو جسماهما غير مُتناسقَين، وإن كان نموُّ ميكي يتمركز في رأسه وبطنه.»

ثم أحاطت خصرها النحيف بيدَيها.

وأضافت: «أنا أيضًا أتشمَّس لأغراضٍ طبية. لديَّ ألَم مُستمر. لا شيء خطير، وسيرى الطبيب أن السبب هو تناول فاكهة غير ناضجة.»

صرحت جوان بتلك النبرة السريعة والواثقة للتشخيص الشعبي: «يبدو أنكِ تُعانين من الْتهاب الزائدة الدودية.»

وافقتها ماريان الرأي قائلة: «ربما. أتهم زوجي بتسميمي بتجاربه، لكن لا أستطيع حمله على الإقرار بجُرمه.»

ومع أن ماريان قصدت بذلك المزاح، فإن جوان لم تجد في كلامها ما يُضحك. كان كلامها لا يتناسب مع ذلك اليوم الصيفي الشديد القيظ، حيث ازداد منزل الملكة آن الأنيق دفئًا ورغدًا مع كل يومٍ ينقضي، وراح الصغيران يلاغيان ويتمدَّدان في ظل شجرة الكستناء الهندي ذات الأزهار الوردية.

شعرت جوان بأن روحها لا تتناغم قليلًا مع بهجة وجمال فصل الصيف، عندما وصلت إلى بوابات «سباوت». وساورتها الدهشة عندما وجدت الآنسة ماك لم تستعِدَّ لجولتهما مع أنها كانت تنتظرها في ممرِّ السيارات. كانت أدا، التي تلألأ شعرها الذهبي الأحمر في ضوء الشمس، تقص العشب، في حين وقفت الآنسة أسبري عند البوابة بكامل عُدَّتها من قبعتها الواقية من الشمس وعصا المشي.

سألت جوان: «هل أنتِ جاهزة يا آنسة ماك؟»

أجابت بهدوء: «لا. اعذريني، يا آنسة، فلديَّ مشاغل كثيرة ولا أستطيع الخروج معك عصر اليوم.»

قالت جوان: «لكني أذكر أنكِ قلتِ إنه ليس لديك عمل في هذا الوقت.» ابتسمت الآنسة أسبري ابتسامة تشجيع ودودة لمُرافقتها.

قالت الآنسة أسبري مفسرة: «لقد نسِيَت الآنسة ماك كتابة العناوين على أظرُف طلبات التبرُّع. تُحبِّين أداء هذه المهمة، أليس كذلك يا عزيزتي؟»

ردَّت الآنسة ماك بلا تفكير: «أجل، أُحبها فعلًا.»

أضافت الآنسة أسبري وهي تلتفِت إلى جوان: «أخبرتني الآنسة ماك أنك تُريدين مرافقًا في جولتك. إن سمحتِ لي بملء هذا الفراغ فسأكون في غاية السرور.»

ورغم ابتسامتها الساحرة الفريدة، انتابت جوان رغبة مفاجئة في التمرُّد ضد ملكة القرية.

قالت جوان بلا حماسة: «هذا لُطف بالغ منكِ يا آنسة! لكني أردتُ تسلُّق التلال. ألن يكون الأمر شاقًّا عليك في هذا الحر؟»

أجابت الآنسة أسبري: «لا أعتقد. هل أنتِ مُستعدَّة؟ أيُمكننا الرحيل؟»

كانت جوان لا تزال تشعر بشعورٍ عدائي تجاه الآنسة أسبري؛ ولم يجتازا سوى بضع ياردات قليلة، عندما حدثت واقعة جعلت جوان تدور حول نفسها مثل دوَّارة الرياح.

كان هناك صبي يجرُّ جروًا صغيرًا برَسَنٍ، فيُطلقه ويجذبه بحركاتٍ طائشة، حتى توقف زائر غريب عن المكان، ووبَّخه. اكتفى الصبي بالتحديق في الزائر بنظراتٍ فارغة، ثم جذب رَسَن الجرو مرة أخرى.

في تلك اللحظة، تدخلت الآنسة أسبري، وسيطرت على الموقف.

قالت بنبرتها الحازمة الحانية: «لا يُمكنك الاحتفاظ بالكلب بعد الآن، بلا تصريح، يا بيرتي. لقد وعدتك بشراء كلبٍ، إذا عاملتَ هذا برفق. لكن نظرًا لقسوتك، سأُعطي الكلب لفتاة طيبة القلب.»

وبإشارة آمِرة بيدها، هرعت أدا خارج الحديقة، وأنصتت إلى تعليماتها. حملت أدا الجرو، بعدما رفعَته عن الأرض، وعادت به إلى قصر «سباوت» وهي تضحك، وتخفض رأسها؛ إذ حاول الكلب لعق وجهها. نظرت الآنسة أسبري إلى شفتَي الصبيِّ المرتعشتَين.

قالت: «الحيوانات ليست دُمًى يا بيرتي، ولا يجوز أن تُعاملها على هذا النحو. لكن سأمنحك كلبًا دُميةً كي تتعلم كيفية الإحسان إلى كلبٍ حقيقي فيما بعد. وإياك وركل الدمية، أو قذفها على الأرض، وإلا أخذتُها منك.»

وانصرفت الآنسة أسبري بعدما أرست قواعد العدل من أجل الصالح العام. تهلَّل وجه بيرتي بسعادة بلهاء، في حين ودَّعت الآنسة ماك سيدتها من خلف البوابات والبسمة على مُحيَّاها. أما أدا فجعلت الجرو يهز أحد أطرافه لسيدتها، في حين ندمت جوان على عدم وفائها.

حدَّثت نفسها: «إنها امرأة طيبة حقًّا، لكنها لا تُهمل في عملِها. لا شك أن الآنسة ماك كانت تعلم بأمر هذه الأظرف. ليتني بقِيتُ لأعد طلب تبرُّع. فنحن في نهاية المطاف نتقاضى رواتبنا للقيام بوظائفنا.»

سرعان ما اجتازت جوان والآنسة أسبري القرية الناعسة — التي كان يغمرها اللون الذهبي لأشعة الشمس مع ظلال زرقاء باهتة — ووصلتا إلى نزل «كينج هيد» حيث ينعطف الطريق ليلتقي بالطريق السريع الذي يقود إلى مدينة لندن. عند تلك النقطة، بدأت الحقول الخضراء الشاسعة المُتموِّجة تصعد، تدريجيًّا وعلى نحوٍ غير ملحوظ، باتجاه التلال المُنخفضة الارتفاع المؤدية إلى تلال داونز. أدركت جوان أنها تتقدَّم الآنسة، فتراجعت إلى الخلف، مُعتذرة لها.

قالت: «آسفة جدًّا. أخشى أن سُرعتي تُجاوز سرعتك.»

سألت الآنسة أسبري: «ما سرعتك المعتادة؟»

«أربعة أميال في الساعة، السرعة المُعتادة.»

عقبَّت الآنسة: «المعتادة؟ أخشى أن الزمن قد عفَّى عليَّ. أنا أحذو حذو الفيلق الروماني. كانوا يسيرون بسرعة ثلاثة أميال في الساعة، سواء فوق المُرتفعات أو على الأراضي المنبسطة، ولا يسرعون أو يبطئون أبدًا.»

قالت جوان، التي كانت تُدرك وجوب رحمة الصغير بالكبير، بتهذيب: «لا بأس. سأحذو حذو الفيلق الروماني أنا أيضًا، اليوم.»

سألت آنسة أسبري: «أتتعهَّدين بذلك؟ أكرَه الوعظ، لكني أومن دائمًا أن في الانضباط خيرًا للجميع. وأنا بالذات.»

حاولت جوان، وهي تكبح حماستها عن المُضيِّ قدمًا إلى قمة تلال داونز، أن تترك نفسها تستلذُّ بمسرَّات القرية. كان هناك طنين الحشرات، وعبق العشب الحار، وشدو القنابر وهي تخفق بأجنحتها في السماء الزرقاء. كما حلقت فراشات صفراء صغيرة في أرجاء الطريق. كانت الحقول ناضجة، يلوح بها ومضات من اللون المرجاني والأبيض لزهور الحماض البستاني وأقحوان المروج، في حين زخرت الأسيجة النباتية بالزعرور البري الذي بدأ يميل إلى اللون البني.

ولكن أحسَّت جوان أن ثمة شيئًا ينقصها. تساءلت: «أيُمكنني التدخين؟»

أجابت الآنسة أسبري: «لِمَ الاستئذان يا فتاتي العزيزة؟ فأنتِ حُرَّة.»

أشعلت جوان سيجارة، لكن لم تتوقف الآنسة أسبري، في أثناء انشغال جوان بإبقاء النار مُشتعلة كعادتها. وعندما رفعت بصرَها كان ظلُّ الآنسة أسبري قد سبقها بالفعل عدة خطوات.

فكَّرت جوان: «الفيلق الروماني ليس ودودًا بالمرَّة.»

دخَّنت جوان سيجارتَين، لكن واصل الطريق صعوده بلا توقُّف، وصبَّت الشمس أشعتها المُستعرة على رأسها المكشوف صبًّا.

قالت جوان: «سأخلع حذائي وجوربي إذا سمحتِ. استمرِّي في السير. وسألحق بك.»

وافقت الآنسة أسبري، وهي تواصِل السير، وقالت: «بالتأكيد.»

لم يُحالف خطة جوان النجاح المتوقَّع؛ إذ تبين أن الطريق وعر، وجُرِحت أصابع قدمَيها. ولمَّا انتهت من ارتداء حذائها وجوربها مرة أخرى، كان ظلُّ الآنسة أسبري الطويل قد ابتعد.

استمتعت جوان بركضها كي تلحَق برفيقتها؛ إذ هدأت جذوة انزعاجها المكبوح؛ لكن عدوَها فوق التلال جعلها لاهثةً مقطوعة الأنفاس، فاضطرت إلى التوسُّل إلى الظل الرمادي العنيد الذي كان يولِّيها ظهره.

سألت: «أيُمكنك … التوقف كي … كي ألتقط أنفاسي؟»

أجابت الآنسة أسبري بلُطف: «بالطبع. أنا آسفة. ظننتُك من الفيلق الروماني.»

كانت هناك لمحة سُخرية في ابتسامتها أشعلت حماسة جوان. فواصلت السير على الفور دون أن تتوقف لترتاح قليلًا. لكن بدت القمَّة بعيدة كما كانت في البداية، فكانت مثل خطٍّ أخضر رفيع وسط السماء الزرقاء الزاهية.

بدت الآنسة أسبري غير متأثرة بالحرارة أو السير. كان واضحًا أنها تحاول العثور على موضوعات تُثير اهتمام جوان؛ إذ توقفت عن التحليل البليغ لمشكلة الدين الدولي، لتتحدث عن المنتجعات السويسرية الشتوية. ولاحظت جوان، بدهشة ممزوجة بالحقد، أن صوت الآنسة أسبري هادئ تمامًا، في حين تُكافح هي لالْتقاط أنفاسها من حينٍ لآخر.

حدَّثت نفسها: «أتُحاول أن تُذكِّرني بأنني من جيل الشباب المُدلَّل لتُثير غيظي؟ إن كان الأمر كذلك، فأنا على قدْر التحدِّي، وسأجعلها تسير إلى النهاية.»

قفزت جوان إلى الأمام قفزةً مُذهلة، لكن الآنسة أسبري واصلت السير بوتيرتها المعتادة، حتى بدأت جوان تتأخَّر مرة أخرى. وفي محاولتها لئلَّا تركِّز على انزعاجها المُتزايد، حاولت أن تحول دفَّة الحوار إلى قضيةٍ أكثر إنسانية.

قالت جوان: «أظن أن عملكِ الإغاثي كان مُمتعًا جدًّا.»

وافقتها آنسة أسبري قائلة: «جدًّا.»

سألت جوان: «هل واجهتِ الكثير من الإخفاقات؟»

أجابت الآنسة: «بلى. لكن نجاحًا واحدًا يعوِّض خمسين إخفاقًا.»

سألت جوان: «هل الفتيات يشعرنَ بالامتنان؟»

ردَّت الآنسة أسبري: «نحن لا ننتظر منهنَّ امتنانًا.»

مسحت جوان على وجهها، واختلست النظر إلى الآنسة أسبري. حدثت نفسها قائلة: «إنها تسير مثل الآلة. إنها روبوت لا أكثر.»

وخانها انزعاجها وتسلَّل جزء منه إلى جُملتها التالية.

قالت جوان: «على المستوى الشخصي أشعر بكثيرٍ من الشفقة تجاه هؤلاء الفتيات البائسات. وأرى أن من البشاعة أن يُجبرنَ على ارتداء ثياب عمل رثة ويُؤمَرن بغسل ملابس الآخرين الفاخرة.»

التفتت إليها الآنسة أسبري برأسها الأشيب، ورمقتها بنظرةٍ مُتسامحة مُبتهجة.

سألتها: «هل تُرسِلين ملابسك الداخلية إلى المغسلة؟»

ردَّت جوان: «لا. أغسلها بنفسي. لكنني فتاة عاملة فقيرة.»

«بالضبط. والنساء الثريَّات يتوقَّعن من خادماتهن تلقائيًّا أن يغسلنَ ملابسهنَّ الداخلية. لذا، كما ترين، لم تُضطَر فتياتنا إلى التعرض لهذا العذاب النفسي الفريد الذي تختلقينه لهن.»

قالت جوان بجرأة: «أظن أنك ترينني مُغفلة.» فقد أدركتْ مرةً أخرى أن مُستودع القرية من التفكير المنطقي الرصين يُستنزَف من قِبل العقول التطهيرية مثل الآنسة أسبري والسيدة سكودامور.

ارتفعت الأرض أمامهما عند مُنحدر حاد، فاضطرت جوان إلى التوقُّف عن الكلام، حتى تدَّخر قوتها للمرحلة الصعبة الأخيرة. وما إن وصلت إلى القمة، ألقت نفسها على العشب القصير لاهثة، بينما نظرت إليها الآنسة أسبري بابتسامةٍ مُشفقة رقيقة.

قالت: «لِمَ لمْ تُخبريني أنك تشعرين بالإنهاك يا صغيرتي؟ كان ينبغي أن ترتاحي.»

قالت جوان: «أنا بخير، شكرًا لكِ. أعجبني الأمر فحسب.»

وأغلقت عينَيها وتمدَّدت بلا حراك، حتى تفقدت الآنسة أسبري ساعتها، وكانت تقف مثل تمثال لقديس نُصب لحماية الريف المُحيط به.

قالت: «حان وقت العودة. لا بد أن نلتزم بالجدول الزمني للفيلق الروماني.»

واصلت الآنسة أسبري السير بمعدل ثلاثة أميال في الساعة، في التزامٍ صارم، في حين ركضت جوان فوق المنحدرات بحُرية ممزوجة بالسعادة. أحسَّت جوان بالراحة؛ لأن كل خطوة كانت تُقرِّبها من بيتها؛ إذ تبيَّن أن التنزُّه في صحبة أحد أفراد فيلق روماني ليس إلا تكفيرًا عن ذنب. وفي خضم شعورها المفاجئ بالدفء، تذكَّرت الآنسة ماك المسكينة.

فقالت: «أتأذنِين للآنسة ماك بالقدوم معي المرة القادمة يا آنسة أسبري؟»

أعقب سؤالها صمت ملحوظ قبل أن تقطعه الآنسة أسبري. لكنها بدلًا من أن تُجيب عن سؤال جوان، وجهت لها سؤالًا آخر بدورها.

قالت: «أتُحبين الآنسة ماك؟»

أجابت جوان: «لا. لكن أشعر أنه لا بد أن يكون هناك رباط مُشترك بيننا». وضحكت ضحكة خفيفة. وأضافت: «فكلتانا من الطبقة العُليا من الخدم. كما أنني محظوظة جدًّا. فليدي دارسي تُعطيني حرية كبيرة.»

«أتقارنين وضع الآنسة ماك المسكينة بوضعك؟»

«بالطبع لا. أنا واثقة من أنك تُحسنين معاملتها للغاية أيضًا.»

«شكرًا لك. أتظنِّين أنها تعيسة؟»

تذكرت جوان وجه الآنسة ماك المُمتلئ الباسم.

صاحت قائلة: «لا.»

قالت الآنسة أسبري بنبرة هادئة: «يُسعدني سماع ذلك. كنت سأحزن لو كنتِ تعتقدين غير ذلك. وسيكون انعكاسًا بشعًا لشخصي … لكن سأطلب منك ألَّا توجِّهي لها الدعوة لمُرافقتك في أيٍّ من رحلاتك مرة أخرى … فهي ليست في صالحها.»

شعرت جوان كأنها تلقَّت صفعة على وجهها.

هتفت: «أوه … لكن لماذا؟»

أجابت الآنسة أسبري بصوتٍ بارد كالثلج: «لأن طباعها مختلفة عن طباعك. لا أريدها أن تتحمَّس أكثر مما ينبغي … أو تشعر بالاضطراب. صدِّقيني، إن مصلحتها تُهمني للغاية.»

حملقت جوان باستياءٍ في تلك البشرة الشاحبة على خلفية السماء الزرقاء الزاهية. كان وجهها كئيبًا مُجردًا من أي عاطفة بشرية، ما ذكَّرها بقسوة محاكم التفتيش وتجرُّدها من العواطف عندما كانت تعذب الأجساد لتحصد الأرواح.

وقالت ببرود: «حسنًا جدًّا. لن أدعوها.»

ثم شهقت شهقةً خافتة بعدما هبطت بضع ياردات.

قالت: «تبًّا. لقد أضعتُ دبوس الزينة.»

قالت الآنسة: «لا أظن ذلك. لم تكوني ترتدين دبوس زينة.»

ردَّت جوان بإصرار: «لا كنتُ أضع واحدًا. حذَّرتني الآنسة ماك من أن الدبوس كان غير مُثبت بإحكام.»

قالت الآنسة أسبري وقد زمَّت شفتَيها المرسومتَين بصورٍ واضحة: «إن كان الأمر كذلك، فلا بد أنكِ أضعته في رحلة الصعود. قد يكون على قمَّة التلال حيث استلقيتِ على الأرض. سنعود ونبحث عنه.»

أسرعت جوان تقول: «لا. شكرًا لك. لا يُساوي إلا بنسَين.»

ردَّت الآنسة أسبري: «حتى الدبوس الذي يُساوي بنسَين له قيمة. بما أنكِ تشعرين بالتعب، اجلسي، وسأذهب لإحضاره.»

كبحت جوان شعورها بالألَم وهي تترنَّح للوقوف على قدمَيها.

ودار بخلدها: «إنها تريد إذلالي لا أكثر. سأذهب معها مهما تطلَّب الأمر. لقد أدركت امتعاضي من الآنسة ماك وستُلقِّنني درسًا قاسيًا. إنها ليست قديسة. إنها قاسية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥