الفصل السابع

الضيف الإضافي

كان للآنسة كورنر حديقة مُغطاة، تأتيها الشمس من الجنوب؛ لذا كانت فراولة حديقتها تنضج أسرع من غيرها. وكانت هذه هي الإشارة كي تُقيم حفل افتتاح الحديقة لموسم الصيف. وفور أن تلقَّت التقرير من البستاني، أرسلت دعوات الحفل إلى جيرانها.

لم يردَّ أحد دعوتها حتى عمدة القرية منحَها ذاك الشرف النادر بحضوره. كان العمدة رجلًا ضخم الجثة قوي البِنية، يجمع بين الصلف والمشاعر الفيَّاضة، أعلن عن ولائه في أثناء الحرب من خلال تزيين سيارته بعلَم الاتحاد، ونصب شواهد قبور لحيواناته الأليفة وإن لم يتأثر بموتِها أدنى تأثُّر. وقد نال العمدة الدعم المعنوي من جميع الرجال، فيما حضرت مجموعة كبيرة من النساء.

وقفت جوان بروك بمُفردها في الطريق المجاور لسياج زهور الكيلواي المرتفع، تقصد تأمُّل المشهد؛ إذ كان هذا النمط من التسلية القروية جديدًا عليها، وأرادت أن تُشاهد القرية في ردائها الاحتفالي. كان جميع الحاضرين يرتدون ملابس صيفية مبهرجة احتفظوا بها خصوصًا لهذه المناسبة. وعرضت الطاولات الصغيرة المَنثورة في أرجاء الحديقة أطباق الفراولة التي أضفت «طابعًا خاصًّا» على الحفل. وقدَّمت أوركسترا وَتَرية من الخارج معزوفة «فالس من فيينا»، وكان الجوُّ بديعًا، حيث تدفَّقت سُحب بيضاء مثل الفساقي، في هيئة سماء زرقاء زاهية.

شعرت الآنسة جوليا كورنر بنشوة النجاح كمُضيفة، وهي تبتسِم لضيوفها في ابتهاج، وكانت ترتدي فستانًا ورديًّا فاتحًا من النسيج الحريري، مُزدانًا بورودٍ ضخمة مرسومة بالإستنسل، وقبعة من الكرينولين متدلِّية على رأسها. وبحسب تقديرها لعدد الرءوس، كان الجميع قد وصلوا إلى الحفل تقريبًا. دوَّت ضحكاتها عاليًا، وبدت أزهار ردائها وكأنها تزدهر بوضوح في الجو الدافئ، وهي تُشير للخدم لحمل الشاي إلى الحديقة.

لم تكن تلك الروح المسكينة تعلَم بوجود غريبٍ مُتطفل — يشبه غيمة مُظلمة قبيحة — انسلَّ ووقف خارج البوابة، يتحين الفرصة ليتسلَّل إلى الداخل.

لم تعِ جوان أيضًا وجود شبحٍ أو تهديدٍ ببلاء وشيك، عندما كانت تتسكَّع عند زهور العائق والأنقولية، حيث استحوذت السيدة بيري على جُلِّ انتباهها. فمع أن زوجة الطبيب بدت بقايا امرأة جميلة كعادتها، كان واضحًا أنها تمتلك الجاذبية الفطرية الكافية؛ إذ تجمَّع مُعظم الرجال حولها. حتى عمدة القرية نفسه كان يُفرِط في مغازلتها أشدَّ الإفراط، وهو ما سيجعله يغضب منها أشد الغضب فيما بعد.

اضطربت جوان مع اقتراب الطبيب منها.

سأل بلا اكتراث: «هل نُثير إعجابك؟»

ردَّت: «تروقُني زوجتك.»

قال: «هذا لُطف منك. دائمًا ما تنجح في ترك انطباع المغامرة الساحرة لدى الآخرين، وهذا ذكاء منها. المُحزن في الأمر أنها تصبُّ تركيزها على طفلَيها الرضيعَين.»

ردَّت جوان: «حقًّا؟» وكان صوتها يُوحي بعدم التصديق؛ إذ تذكرت واقعة التشمس، مما جعلها تسارع إلى تصحيح كلامها. فأضافت في عجالة قائلة: «لا عجب في ذلك. إنهما طفلان رائعان. ألستما محظوظَين؟»

ردَّ: «نحن؟ أشكُّ في ذلك. عدم الإحساس بالأمان هو الكابوس الذي يُراوِد كل أبٍ وأم. حتى الأطباء يفقدون شعبيتهم.»

«لكن ليس هنا.»

ابتسم الطبيب: «أتفق معكِ. أعتقد أن لديَّ مكانةً راسخة هنا. فعائلتي تعيش في هذا المكان منذ قرونٍ كما تعلمين … لكن لِمَ تجلسينَ وحدك على هذا الارتفاع؟»

ردَّت: «أتفرَّج على المشهد.»

قال: «أفهمك. أنا أيضًا أتفرَّج على «الكوميديا الإلهية». ولكن … يجِب أن أضعك على المسرح.»

انزعجت جوان قليلًا من الطريقة التي نظر بها الطبيب إلى القسيس، الذي كان يندفِع بحماسة بين التجمُّعات المختلفة، برداء القساوسة الرمادي اللون، مثل نسخةٍ مُتحركة من الشمس وهي ساطعة في الفضاء كما جسَّدها مايكل أنجلو.

وعلَّقت: «بما أننا وصلنا إلى هذا الحد، فلا أعتقد أنك سلبي مِثلما يوحِي مظهرك.»

ردَّ الطبيب: «حسنًا. أنا ذكي بما يكفي لآخُذ تعليقك على محمل المدح. أن يكون المرء ممارسًا عامًّا في القرية ملَل ما بعده ملَل. ولا يُثير الاهتمام إلا عندما يقف في قفص الاتهام في جريمةٍ عقوبتها الإعدام.»

كانت لامبالاة الطبيب واضحة وضوح الشمس؛ حتى إن جوان حاولت أن تصدمه لتُثير فضوله.

قالت: «تقصد القتل؟ لا أقصد التباهي بالتأكيد، لكن لي قريبًا ذهب إلى حبل المشنقة. ولم يكن مظلومًا أيضًا. فقد قتل زوجتَه.»

عقَّب الطبيب: «أمر شنيع.»

ضحكت جوان قائلة: «لنكُن عصريين، ونُسمِّي ذلك جرعةً مفرطة من الطبيعة البشرية … وهو أمر غريب على هذه القرية. فهي تكاد تكون جنَّة على الأرض. لنضرب مثالًا على ذلك. أنا هنا. ومع ذلك لم أحظَ بدعوة من وجهاء القرية من قبل لحضور حفلاتهم.»

قال الطبيب: «يسرُّني أنك تُحبيننا.»

«هذا صحيح. ولكن لديَّ شعورًا مختلفًا تجاه … تجاه شخصٍ واحد.»

رمقها الطبيب بيري بنظرة اهتمام.

سأل: «عمَّن تتحدثين؟»

مع أن التلقائية كانت عيب جوان المُميز، فقد حذَّرتها غريزتها أن تتعقل ولا تنطق حرفًا يشي بخيانتها لملكة القرية.

لكن عينَي الطبيب اتبَّعتا عينَيها، ولاحظ أنها كانت تنظر إلى مجموعةٍ من السيدات يجتمعنَ بالقرب من البوابات. وكانت الآنسة أسبري قد وصلت لتوِّها.

كرر الطبيب سؤاله: «عمَّن تتحدثين؟»

حاولت جوان تضليل الطبيب فقالت: «لا أحد بعينِه. كنتُ أتحدث بشكلٍ عام فحسب. كل سكان القرية في غاية الطيبة؛ حتى إنني أتساءل أحيانًا إذا كان من المُمكن أن يكون للقسوة وجود لديهم. على سبيل المثال، هناك … هناك السيدة سكودامور. إنها تنعم بحياة زوجية مثالية. لو أنني بطلة فاسدة، كيف كانت ستُعاملني حينها؟»

أجاب الطبيب: «ستكون في غاية الإنصاف.»

علقت جوان: «لا شك في ذلك. لكن هل «ستتفهم» موقفي؟ هل ستدرك أن كلًّا منَّا امرأة وقعت في حُب رجل، وليس ثمة فارق بيننا، سوى خمس دقائق في مكتب سجلٍّ مدني قذِر؟»

ردَّ الطبيب: «لا أظن. لم تتعاطف مع مَن استسلم لإغراءٍ لم تكن ستستسلِم له هي نفسها؟»

شعرت جوان بالرضا عن نجاح خدعتها رغم نبرة الطبيب الفاترة.

هتفت ببراءة: «عجبًا، ها هي الآنسة أسبري.»

قطعت ملكة القرية الحديقة ببطء، مثل مُمثلة تصعد إلى خشبة المسرح. كانت ترتدي فستانًا رماديًّا غير لامع، ذا ياقة وأساور بيضاء، أوحى للناظرين بأنها من طائفة الكويكرز، حتى تبيَّن أن القماش المصنوع منه الفستان هو الساتان الباهت الناعم والدانتيل الأنيق. وكان ذلك أول ظهور لها منذ واقعة الخطاب، وتحركت بهدوءٍ ووقار، مع أنها كانت تتَّكئ على عصًا ذات مقبضٍ فضي.

أذن ظهورها بمظاهرة من التعاطف الصامت. كان هناك تحرُّك واضح نحو الآنسة أسبري وغُمرت بالتحيَّات. ومَن لم يستطِع الوصول إليها من الحاضرين، حاول أن يجذب انتباهها بابتسامة. وحدَها جوان، بروحها الانتقادية الجديدة، مَن وقفت خارج دائرة مُعجبيها.

سألت جوان الطبيب: «هل انتقاد أخلاق المرء يُصيبه بالعرج؟»

أجاب الطبيب: «عندما تمكُثين هنا مدة طويلة، مثل الآنسة أسبري، ستتعرَّفين على كل قطرة من قطرات حمض البوليك في جسمك. إن قصر «سباوت» رطب، وتُعاني الآنسة أسبري من عرق النسا. شجاعة منها أن تأتي إلى هنا … ما رأيك في أن نذهب ونتحدث إليها؟»

اتبعت جوان الطبيب على مضض؛ إذ تذكرت الساعات المؤلمة التي أمضتها لاهثة في صحبة هذه الجوَّالة التي لا تعرف التعَب. ولم يظهر على الآنسة أسبري أي مشكلةٍ عضلية في ذلك الموقف. وعادت إلى جوان ذكرى مشوَّشة للنقاش الذي دار في غرفة معيشة الآنسة كورنر.

حدثت نفسها: «كنتُ منهكةً بينما هي منتعشة. هل امتصَّت طاقتي؟ كم أنا حمقاء!»

نفضت جوان هذه الشكوك المبالَغ فيها من عقلها، ومع ذلك ظلَّ دخول الآنسة المتأخر يُشعِرُها وكأنها دبَّرته لتجذب الانتباه إليها.

لكنَّها كلما اقتربت أكثر بما يكفي لترى وجه آنسة أسبري بوضوح، خجلت من أفكارها. كانت ملامح السيدة العجوز صارمة تشعُّ بروحانية كئيبة لشخصٍ تجرَّد من كل الدنيويات وألقاها في نيران الطهارة الروحانية. فقد استجابت للحفاوة العامة التي قوبلت بها بلامبالاة رقيقة؛ حتى إنه ظهر جليًّا أنها لا تكترِث بشُهرتها البتَّة.

لكن — مرة أخرى — حدثت واقعة بسيطة بغيضة. فقد اندفعت الآنسة كورنر عبر الحديقة، مثل زهرة وردية مُتضخمة، لتتحدَّث مع ضيفتها.

قالت: «يا إلهي، ديسيما، لم ألحظ من قبل أنك لم تُحضِري آنسة ماك. أين هي؟»

أجابت بهدوء: «آمُل أنها في الفراش. وقد كنت سأعتذِر لك نيابةً عنها، ولكن أحدًا استدعاك. نحن نعتذر لك بشدة عن عدم حضورها. لكنها تُعاني من الْتهاب حادٍّ بالأعصاب.»

قَبِل جميع الحاضرين تفسيرها باستثناء شخصٍ واحد. ابتعدت جوان، رغم وجود فُرجة في صفوف معجبي آنسة أسبري، ووقفت تتأمَّل المشهد كأنه استحال عبثيًّا مرة واحدة.

كان مشهدًا خلابًا جمع بين الأعشاب المُقلَّمة والأزهار والصفوة. وكان النُّدُل المُستأجَرون يركضون في الأنحاء بأطباق الفراولة وأباريق القشدة. وأضفت العريشة المزدانة بعناقيد الوِسْتارية البنفسجية لمساتٍ رقيقة على اللون الأخضر الناعم الذي ساد المشهد.

كان المشهد كلُّه جميلًا، لكن تُرى ماذا يُخبئ وراءه؟ لقد تحدثت بيرلي الروائية عن الزهور التي تنمو في الوحل. تذكرت جوان الابتسامة ووجدتْها مُتوافقة تمامًا مع شكوكها.

كان هذا لأنها لم تستطِع إيجاد رابطٍ بين عُذر آنسة أسبري وبين ما تعرفه من حقائق.

فقبل خمس عشرة دقيقة فقط، حين مرَّت بحديقة قصر «سباوت» في سيارة ليدي دارسي، لوَّحت بيدها للآنسة ماك التي كانت تقِف خلف البوابة. ولم يكن بوجه المرافقة المسكينة الباسم ما يلمِّح إلى شعورها بالألم أو المرض؛ لكن، بسبب هذه القضبان الحديدية على الأرجح، نجحت مرة أخرى في نقل انطباع السجين المُثير للشفقة.

كانت جوان تَصرُّ على أسنانها — وهي عادة سيئة تبقَّت لها من طفولتها — عندما اتَّجه نحوها القسيس، حاملًا طبقَين من الفراولة في كِلتا يدَيه بحذَر.

سألها: «لِمَ لا تنقضِّين على الفراولة؟ نحن هنا لهذا السبب. تعالَي معي. هذه طاولتنا فيما يبدو. أليست هذه محجوزة لنا يا جون؟»

ابتسم النادل ابتسامةً عريضة؛ إذ كان القسيس اجتماعيًّا بامتياز، وجلست جوان، تستظلُّ بشجرة زان أرجوانية الأوراق، وهي تتنفَّس الصعداء. لقد جاء القسيس لإنعاش جسدِها لا لاستثارة عقلها على عكس الطبيب. كما أنه وافد جديد نسبيًّا، مما جعلها تشعر بالأُلفة نحوه.

علَّق القسيس: «رأيتكِ تتحدثين مع الطبيب. إنه شخص لطيف، لكن به مسحة تكلُّف.»

مع سقوط أول قطرة سُم، تشكَّلت بقعة صغيرة ولكنها مُلتهبة تمامًا؛ إذ اتخذت العلاقة بين الرجلَين مسارًا آخر. فلم يعُد الرجلان يُدخنان في صمتٍ أخوي ﮐ «أخوية البنَّائين الأحرار»، ولكنهما كانا يتحدثان بكياسة رجُلَين حنَّكتهما الحياة.

اعترفت جوان: «لقد سقطت عائلتي من نظره. كل ذلك فقط لأنني حاولتُ إثارة فضوله بإخباره أن لدينا قاتلًا في عائلتنا.»

قال القسيس: «ليتكِ سمَّيتِه قاتلًا سياسيًّا. فهذه التسمية لها وقع تاريخي. وكان سيفخر لو كان هذا القاتل أحد أسلافه.»

كان هذا أقسى تعليقٍ سمعَتْه جوان من القسيس، لكنه جعلها تشعر بنوعٍ من الارتياح، مما أغراها بالتحدث بلا حذَر مرةً أخرى.

قالت: «الحق أن عائلة الطبيب أقدم من طبقة النبلاء، ولا بد أن الدهر أكل عليها وشرب. وقد آن أوان اندثارها كي تدور عجلة التقدم. الإنسان الحداثي الحقُّ سيقترح أن تُجمَع عائلته كلها في الفرن وتُضرَم فيها النيران.»

انتقل صوت جوان الواضح إلى الطاولة المجاورة، حيث كان السيد سكودامور وزوجته يجسدان مشهد داربي وجوان العاشقَين، وهما يتناولان الشاي. نظرت إليها السيدة سكودامور، التي كانت مبهرة بردائها الأرجواني، وحملقت بها بشفتَين مُطبقتَين وعينَين مندهشتَين، كأنها لا تُصدق ما سمعته أُذناها. حتى القسيس شدَّ شفتَه السُّفلى في استياء.

قال: «اسمعيني، يا عزيزتي، أفهم لهجتك الحداثية وإن كنتُ لا أستطيع استخدامها، لكن لا تنسي أن هؤلاء الأشخاص لا يفهمون إلا الإنجليزية الرسمية.»

ردَّت: «لن أنسى ذلك. آسفة.»

حدَّقت جوان في وجه القسيس، وكانت هذه أول مرةٍ تُصدق فيها قصة انهياره. عادة كان يبدو أن من الأفضل له أن يخضع للفصد من أجل تفريغ طاقته الفائضة، لكن اليوم كانت عينا القسيس مُتعبتَين وشفتاه غائرتَين.

علَّقت: «تبدو عيناك مُنهكتَين.»

سأل القسيس: «أهما شاحبتان؟ هذا بسبب قلة النوم. يحصل لي ذلك في بعض الأحيان. تناولت العشاء ليلة أمس مع عائلة جيمس، في مركز الشرطة، وزوجة السيد جيمس طاهية رائعة. لقد أعدَّت لنا النقانق والبطاطس المهروسة، وكانت وجبة رائعة. أفرطتُ في تناول الطعام؛ لذا عندما خلدت للنوم، زارني حلم مُتكرر، ونال مني ما نال.»

«أهو حلم مُحرج؟»

«لا. حلمت أنني في نزال مع شخصٍ ما — لقد كنتُ ملاكمًا هاويًا في الوزن الثقيل — وأتلقى ضربًا مبرحًا. تملَّكني غضب شديد لأنَّ أنفي تَمرَّغ في التراب، لكن ما أفقدني صوابي حقًّا أنني لم أستطِع بطريقةٍ ما رؤية وجه خصمي. فقد كان يخفض رأسه، ويتفادى الضربات، كي يُخفي وجهه. ومع ذلك، راودني شعور بأنه شخص أعرفه، مما جعل الأمر يبدو مريعًا. على أي حال، شعرت بالاضطراب الشديد، واستيقظت في حالة يُرثى لها.»

قالت جوان بحُزن: «وما زلتَ كذلك. فأنتَ تُمسك صحنك مائلًا.»

مسح القسيس قطرات القشدة عن معطفه بذهن شارد، وهو يتفقَّد المكان من حوله.

وسأل: «هل أنا أتخيَّل؟ أم أن هذا الحفل يفتقر إلى المتعة؟»

لم يكن يعلم حينها أن الكتلة المُعتمة خارج البوابة قد اقتحمت الحفل. كانت تتحيَّن إشارة المُضيفة، من مكانها الخفي، كي تنضمَّ إلى ضيوفها.

لكن أحسَّ القسيس بمسحة تحفُّظ عامة في الجو. لقد ذكَّرت الآنسة أسبري الحاضرين بالخطاب المجهول. وبينما كان صاحب الخطاب لا يزال مجهولًا، كان الشعور ببعض القلق أمرًا محتومًا. لهذا سادت تلك الفترات الصامتة القليلة المشحونة بالتوتر في الحديث، التي كانت تُنذر بالمأزِق المُدمر الوشيك.

غير أن الآنسة كورنر لم تكن تعي أي كوارث. فكانت مُضيفة نشيطة، تنتقل من مجموعة إلى أخرى، بنوباتٍ من الضحك يُصاحبها انتفاخ أهداب فستانها الوردية كالبالون، فتُنظم مسابقات، وتُجبر الضيوف على لعب الكروكيت، وتشعل السجائر بلا توقُّف.

أخذ الطبيب بيري يُراقبها، بينما الحفل يمضي على قدَم وساق، والكئوس وقطع الثلج تعقب أكواب الشاي. طلبت الآنسة كورنر من الأوركسترا عزف مقطوعة الفالس من فيلم «كونجرس دانسيس» (رقصات الكونجرس)، وأدَّت بعض الرقصات المُنفردة، وهي تحثُّ ضيوفها على العيش والحُب والضحك.

وأخيرًا، ألقت نفسها على أحد كراسي الحديقة، مقطوعة الأنفاس. كانت هذه هي المرة الأولى التي تجلس فيها، في ذلك المساء، فانتهز الطبيب الفرصة كي يحضر لها قدحًا من نبيذ التفاح المثلج.

تهلَّل وجه الآنسة وهي تمسح وجهها الساخن.

هتفت: «ها قد قدم بطلي. أتعلم أن الطبيب هو البطل في كل روايةٍ من رواياتي؟»

لم يكن بوسع أحدٍ أن يعرف ذلك؛ إذ لم يطَّلع أحد في القرية على رواياتها، لكنها استطردت.

قالت: «كتبتُ اثنتي عشرة رواية، وانتقيتُ لكل واحدة منها بطلًا مختلفًا عن الأخرى. لكنه يكون طبيبًا دائمًا. فالطبيب في الحقيقة يُجسد عشرات الرجال المُختلفين ويُمثل عدة شخصيات في شخص واحد.»

ضحك الجميع بأدب، في حين ابتسم الطبيب باستهجان.

قال: «يجعلني ذلك مُثيرًا للاهتمام، حتى لزوجتي.»

عندما سمعت ماريان اسمَها، نكزت العمدة بالدبوس فجأة، إذ كانت تُثبِّت عروة معطفه، وانصرفت من المكان فجأةً لتنضمَّ إلى مجموعة أخرى. كانت شفتاها النحيفتان القرمزيتان ترتعشان، وعيناها تتَّقدان غضبًا، وهي تهمس لزوجة عمدة القرية بصوتٍ مبحوح.

سألت: «كيف تجرؤ على قول هذا الكلام عن زوجي؟»

اندهشت زوجة العمدة الطيبة من ثورتها.

قالت مُفسرة: «لكنها كانت تمزح فحسب يا عزيزتي.»

قالت ماريان: «هذا مزاح يتجاوز كل الحدود. يجب أن يُوحي شخص الطبيب بالثقة؛ لأنه مُستأمَن على مرضاه. ولا أرى التلميح بأن زوجي يُخفي شخصيةً أخرى وراء ما يُبديه للآخرين مزاحًا. لدَينا … لدَينا طفلان رضيعان يجب أن نُفكِّر في مستقبلهما.»

وأضافت: «لا سيما الآن.»

سألت زوجة العمدة: «لماذا … الآن بالذات؟»

أجابت: «أوه، كما تعلمين.»

حين عضَّت ماريان على شفتَيها لتستعيد رباطة جأشها، أشعلت الآنسة كورنر المسكينة، بغير وعيٍ، عود الثقاب الذي فجَّر حفلها. جالت الآنسة كورنر ببصرِها في الحديقة، ثم اتجهت نحو الآنسة أسبري، وتحدثت إليها بأُلفة عفوية كأنهما زميلتان من أيام الدراسة.

سألت: «حسنًا يا ديسيما، أهناك أي جديدٍ عن خطابك المجهول؟»

رفعت الآنسة أسبري جفنَيها الشاحبَين الثقيلَين.

وأجابت: «لا. من الأفضل نسيانه.»

استطردت آنسة كورنر بلا حياء: «هل لديك أدنى فكرة عمَّن كتبَه؟»

ردَّت الآنسة أسبري: «لا.»

انفجرت آنسة كورنر فجأةً في نوبةٍ من الضحك. وقالت: «أظنُّني أستطيع تخمين كاتب الرسالة.»

وكأن كلماتها كانت بمثابة إشارة، تحركت تلك الكتلة الداكنة المتكومة في زاوية الحديقة، وصارت نشطةً على نحوٍ مُخيف، وانضمت إلى الضيوف الآخرين.

بدخول الخوف، انتهى حفل الآنسة كورنر عمليًّا؛ إذ تعكَّرت روحُه وماتت. فتخللت همهمة الأحاديث المُتواصلة فترات صمتٍ مباغتة ومُربكة. ووقف الرجال المهندمون والسيدات الأنيقات في تجمُّعاتهم الصغيرة المعتادة، لكن مظهر كلَّ واحدٍ منهم يُوحي بأنه يهمس إلى صديقه، وهو في الحقيقة يُحاول استراق السمع إلى جاره. فقد كانت هناك فكرة واحدة شغلت أذهان الجميع.

«يوجَد شخصٌ ما هنا قذف امرأةً صالحة بالبُهتان. ربما أكون أنا الضحية التالية.»

جرت العادة أن عمدة القرية أوَّل مَن يُغادر أي حدثٍ اجتماعي؛ إذ كانت السيدة سكودامور نفسها تنتظِر إشارته. لكن في هذه المناسبة، بادرت الآنسة أسبري بالرحيل. ونهضت من مقعدها دون أن تلفت الأنظار إليها، وهمست للآنسة كورنر.

«شكرًا لك يا عزيزتي جوليا. اسمحي لي أن أنصرف بهدوء. لا أريد أن أُفسد حفلك، لكن أشعر بأن عليَّ العودة إلى الآنسة ماك المسكينة.»

ولكن ما كان لملكة القرية أن تُغادر الحفل دون ملاحظة رعاياها. كان عمدة القرية هو ثاني شخصٍ يردُّ على هذا الانحلال الأخلاقي. فنظر إلى ساعته، والتقت عيناه بعيني زوجته، وطلب منها إحضار فيفيان التي كانت تلعب الجولف مع الميجور بلير المُكتمل الرجولة.

فور أن ابتعدت سيارة العمدة، حدث رحيلٌ جماعي بصورة سريعة ومُكثفة. وقفت الآنسة كورنر تصافح الحاضرين، وكان وجهها الأحمر مُرتبكًا لكن دون أن تُفارقه الابتسامة، في حين أنصتت إلى مجموعة من المُجاملات والأعذار المتنوِّعة. وفي غضون عشر دقائق، تُركت وحيدة في حديقتها، وسط صحراء قاحلة من المقاعد الفارغة وأكواب الشاي المُستهلكة وأقماع الفراولة.

علقت الآنسة كورنر، وهي تشعل سيجارة جديدة، وقعدت لتتأمَّل ما حدث: «حسنًا، أنا ملعونة.»

سرعان ما خرجت الآنسة بايك إلى الحديقة، وإن كانت لا تثِق في كيفية استقبال سيدتها لها.

سألت في شك: «أظنُّ أن الحفل قد انتهى مبكرًا يا سيدتي، أليس كذلك؟»

أجابت الآنسة كورنر بسرعة: «حسنًا، لا بأس في ذلك. يُمكنك البدء في تنظيف المكان. أما أنا فسأعود إلى صديقي الرائع السيد ستريتشي. أوصيك بشدة أن تقرئي أعماله يا سيدة بايك.»

ولكن السيدة بايك كانت تعرف أنه حتى أكثر المُضيفين لامبالاةً لا بد أن يشعر بفشَل حفلٍ ترفيهي تكلَّف تلك التكلفة الباهظة، فأعربت عن شفقتِها.

قالت: «أمر مُخجل … أتساءل لِمَ حدث ذلك.»

طرفت الآنسة كورنر بعينها ناحية حوضٍ من زهور القرنفل ذات اللون الأحمر الوردي كلون طائر البشروش.

وقالت: «قد يكون ما حدث، يا سيدة بايك، هو النصف الآخر من قصَّتك التي لا نعرفها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥