الفصل الثامن

تسديد الفاتورة

بحلول اليوم التالي، كان الخوف قد تسلَّل عائدًا إلى عرينه، وعادت حياة القرية الاجتماعية تنساب في هدوء. كان موكب عائلة سكودامور المسائي مُنضبطًا في مواعيده ورقيقًا كعادته. لكن كان هناك فارق واحد.

لم يكن من السهل مصادفة الآنسة كورنر في أي غرفة استقبال. صحيح أن اسمها لم يُحذف من قوائم الدعوات عمدًا؛ لكنه لم يكن يُدرَج أيضًا. ولا يعلم أحد السبب تحديدًا أو يمكن أن يقتنع بضرورة مناقشة هذا الأمر. فاللبيب بالإشارة يفهم.

لم تتأثر الآنسة كورنر بهذا الإخفاق الاجتماعي؛ إذ منحها مزيدًا من الوقت لكتابة حلقاتها القصصية المدرسية الجديدة، التي تدور كلها حول صبيٍّ فاز بالمركز الأول في الاختبارات رغم غش منافسه، ما عُدَّ اتهامًّا نوعًا ما لدقة الكتب المدرسية التي نقل منها.

ولكنها اضطرَّت إلى التوقُّف، عندما وصلت إليها فواتير حفل الحديقة. قطَّبت حاجبَيها وهي تكتب الشيكات للأوركسترا والنُّدل والمقاعد المستأجرة والقشدة والثلج. لكن عندما داهمتها قسوة الموقف وأثرت في طبيعتها العملية، انفجرت في نوبة من السِّباب الحار.

وعلى الفور تناولت دفتر مواعيد فارغًا.

وتمتمت: «دعوة إلى منزل ليدي دارسي. لا أريد تضييع هذا اليوم الجميل على عقولٍ ضحلة في حين يُمكنني لقاء موروا. لكن التمشية ستُساعدني في خسارة وزني الزائد.»

أبغضت جوان بروك هي الأخرى أيضًا فكرة التخلِّي عن وقت فراغها الثمين، في فترة ما بعد الظهيرة، بينما كانت ليدي دارسي مُكتئبة بالدرجة نفسها.

حدثت جوان نفسها قائلة: «يجب أن تبقَي بالمنزل يا بروكي. تلك تضحية جسيمة. إنها دعوة إلى الملل، وحديقتي تُناديني.»

لم تكن تلك السيدة الطيبة تعلَم أن الملل لن يكون من قِسمتها، أو أنها مُقدَّر لها صناعة تاريخ القرية. وبينما كانت تجلس أمام صينيَّة الشاي، تُتمتم بكلمات الضيافة المعتادة، تعلقت عيناها الكبيرتان الرماديتان المائلتان إلى الأخضر بحُزن بزهور السوسن المُمتدة على مدِّ البصر، ورفرفت أفكارها مثل الفراشات فوق أزهارها.

كان المشهد بالنسبة إلى جوان، أيضًا، ضبابيًّا كالحلم. فقد بدت غرفة الاستقبال الواسعة بأسطحها المصقولة الداكنة وانعكاسات النباتات الخضراء المُتموجة مثل مغارةٍ وارفة، تنظر منها أيضًا بلهفةٍ إلى الهواء الساخن المُتحرك. كانت تسمع طنين النحلات وهي تضرب بأجنحتها في الهواء الساخن، مثل مجموعةٍ من عجلات المِغزل غير المرئية، في حين ركَّزت بصرَها على خطٍّ أصفر زاهٍ بعيد، عكس الْتقاء الحدائق بمروج زهور الحوزان.

كان حفل الشاي نفس الحفل المنزلي المُعتاد بضيوفه المألوفين وأطقُم الشاي والوجبات الخفيفة؛ وكانت الأجواء كعادتها؛ ملَلًا مشوبًا بالتهذيب، وفضيَّات ضخمة، وكثيرًا من القشدة. تحدثت جوان، بتهذيب، بصوتٍ عالٍ في سمَّاعة أذن أرملةٍ من النبيلات، وأنصتت إلى تبادُل للآراء السياسية، المُستقاة من نفس المصدر؛ وهو مدير الصحيفة الوحيدة التي تقرؤها الصفوة.

رفعت جوان رأسها ولاحت في عينَيها نظرة ارتياح، حين أعلن الخادم عن وصول السيدة بيري؛ إذ كانت زوجة الطبيب من النوع الذي يُثير الإزعاج دائمًا. وفي هذا الموقف، لم تُخيب ماريان أمل جوان. انقضَّت ماريان على الغرفة، بفستانٍ برتقالي اللون، تضوع منه رائحة زهرة الغرنوقي الشرقية. وسرعان ما ألقت قنبلة دخان، دون سابق إنذار، في غرفة الاستقبال الناعسة.

سألت ماريان مُزيحةً السياسات من المشهد: «حسنًا، ما رأيكم في اعتراف الآنسة كورنر؟»

ردَّدت ليدي دارسي سؤالها: «اعتراف؟ ما الذي اعترفت به الآنسة كورنر؟»

أجابت ماريان: «بأنها كتبت الخطاب المجهول الموجَّه للآنسة أسبري. لقد اعترفت بذلك تقريبًا في حفل الحديقة الذي أقامته.»

علقت الليدي دارسي: «لكنه كان مجرد هراء ولغو منها لا أكثر. لِمَ تفضح نفسها؟»

أجابت ماريان: «لتضليلنا بلا شك. وهل هناك مَن يقدِر على كتابة الرسالة غيرها؟ دائمًا ما كانت تغار من الآنسة أسبري. كما أنها تعيش بمُفردها، وأغلب الظن أن الأفكار السيئة تسيطر على عقلها. يقول زوجي إن كلَّ من يكتب خطابًا مجهولًا هو مريض نفسيًّا.»

أعقب ذلك صمت مُربك؛ إذ كانت كل الحاضرات طيبات المعشر، والفضائح أمر يكاد يكون غريبًا عليهن. ومع إدراكهن أن الفضول ينبض تحت السطح، تنفَّسنَ الصعداء حين أضافت الليدي دارسي، إن جاز التعبير، طبقة القشدة إلى المحادثة.

قالت بفتور: «ليس لدَينا دليل ملموس.»

قالت ماريان في إصرار: «مِن أين لكِ بهذا الدليل؟ لا يوجَد شهود على الخطابات المجهولة مثل الوثائق القانونية.»

أسهبت ليدي دارسي الثرثارة في الحديث أكثر وتحرَّكت إلى موضعٍ آخر من الغرفة بعد أن كانت منزويةً في أحد الأركان.

قالت: «لكن هل مِن شِيَم الإنجليز اتهام شخصٍ لم تثبت إدانته بعد؟»

رفعت زوجة الطبيب زاوية شفتها القرمزية، كاشفة عن أحد أسنانها، فيما يُشبه الزمجرة.

قالت: «المسألة شخصية نوعًا ما بالنسبة إليَّ؛ لأنني اعترضتُ بحكم الطبيعة، على تعليقٍ أبدته بشأن زوجي. هل لي أن أسألك، يا ليدي دارسي، هل من شِيَم الإنجليز التفوه بكلام قد يُسيء إلى سمعة شخص مِهني يعول طفلَين رضيعَين؟»

كانت جوان قد توقفت عن الصياح في سمَّاعة الأذن؛ لأن هذا الحفل ليس بالعادي. وفي خضم حماستها، جالت بنظرها في الضيوف، من السيدة سكودامور المُتَّشحة بالهدوء المتحفظ لآداب السلوك الاجتماعي، إلى فيفيان ابنة العمدة الجالسة في النافذة.

بدا وجه فيفيان، من تحت حافة قبعتها التي كانت على هيئة فطر، طفوليًّا مشربًا بحمرة، وكان فستانها مزركشًا باللون الأزرق السماوي. لكن لاح في عينيها توتر شديد وهي تتحدَّث.

«ربما يكون من الحكمة أن نتوخَّى الحذر.»

تحدثت السيدة سكودامور للمرة الأولى وسألت: «ممَّ نتوخَّى الحذَر؟ لم يحدُث أي ضرر.»

عقَّبت فيفيان: «ليس بعد. لكن قد تكون هذه هي البداية فقط.»

وبينما كانت فيفيان تتحدَّث، سرى وميض أسود مُرتعش، مرة أخرى، عبر الحديقة المغمورة بأشعة الشمس.

كانت ماريان أوَّل من تجاوب مع طبيعة الخوف السامَّة. فجاء صوتها حادًّا حينما انفجرت في هجوم لفظي عصبي.

قالت: «أظن أن مَن يكتب خطابًا مجهولًا هو خطر حقيقي. أينما وقعت جريمة شنعاء — ذهب ضحيتها طفل صغير — وُجِدت خطابات سامَّة كتلك دومًا. أظنُّها نابعة من حسٍّ فكاهي مشوَّه — فليحفظنا الرب — لكنها كلها تزيد من عذاب الأبوَين النفسي. أنا … أنا أتحدث كأُم. هذا إلى جانب أنها تفسد الخيوط الحقيقية في الجريمة، وتُعرقل عمل الشرطة. عن نفسي لن تأخُذني أي شفقةٍ بأي شخصٍ يكتب خطابات مجهولة.»

عقَّبت السيدة سكودامور بصوتٍ يكاد لا يكون مسموعًا: «أتفق معك. إن أي نوعٍ من أنواع القسوة يُصيبني بالنفور. لكن، في حالةٍ كهذه، سأتصرَّف بقسوة في سبيل الخير.»

شهقت كل الحاضرات لأن مَنبع الحكمة الاجتماعية خرجت عن صمتِها. قطعت فيفيان الصمت بقهقهة عصبية.

قالت: «الآنسة كورنر قادمة من ناحية ممرِّ السيارات.»

على الفور، أعطت الليدي دارسي جوان أول أمرٍ مباشر تتلقَّاه في حياتها.

قالت: «هلا أخبرتِ وليام، إذا سمحتِ يا آنسة بروك، أنني لستُ بالمنزل؟»

لم تُصدق جوان أذنَيها، وانسلَّت إلى الرَّدهة المكسوَّة بالرخام الأبيض والأسود، مثل رقعة شطرنج. ولسوء الحظ، كان الباب الأمامي مفتوحًا، لذا استطاعت رؤية الآنسة كورنر — التي كانت متورِّدة الخدَّين مُتهللة الوجه — وهي تمسح وجهها الذي يتفصَّد عرقًا بينما كانت تنتظِر في مدخل البيت. لكنها كانت قصيرة النظر، لذا لم تتعرَّف على الفتاة، التي احتمت بظل الجدار بينما كانت ليدي دارسي تُملي أوامرها على الخادم همسًا.

عادت جوان إلى غرفة الاستقبال، في الوقت الذي دوَّى فيه الجرس في الرَّدهة. وسمعت همهمة أصوات، أعقبها صمتٌ مُنذر بالشؤم. وفي غضون وقتٍ قصير، سُحِق حصى الممر مرةً أخرى، تحت وطأة خطوات الآنسة كورنر.

تطلَّعت جوان من النافذة، ورأت ظهر الآنسة العريض، وهي تمشي بخُطًى مُتثاقلة عبر ممرِّ السيارات.

ربما لو تمكَّنت جوان من النظر إلى وجه الآنسة، لسكن عقلُها المُضطرِب؛ إذ كان لا يزال متوردًا ومشرقًا.

تحدثت جوان لنحلةٍ طنَّانة عابرة قائلة: «يا لهم من حمقى! لكن هذا ليس بغريبٍ من عقليات تتقبل شخصيتها تلك.»

كانت أشعة الشمس تنهمر بقوة، لكن الآنسة كورنر أعرضت عن الحديقة الظليلة المُرقَّشة بأشعة الشمس، في سبيل نزهةٍ طويلة عَبر الحقول. طفقت تضرب بقدمَيها الطريق المُمتدَّ الوعر، وهي تؤرجِح ذراعَيها، وتتنسَّم روائح حبوب اللقاح الحارة وورود النسرين. تجمَّعت حبَّات من العرَق على جبهتها، وسالت على رقبتِها ووجنتَيها، لكنها لم تمسحها، عندما وصلت إلى النفَق المُظلم بممشى كواكرز.

أصابتها برودة المكان برعشةٍ خفيفة، فأخذت تستحثُّ الخُطى، حتى أوقفها صوت مألوف قادم من ورائها.

سأل الصوت: «أهذا طريق تُرابي؟ لقد اضطررتُ إلى الركض للحاق بكِ.»

ورغم تصريحه هذا، بدا الطبيب بيري هادئًا رابط الجأش، كعادته، في حلَّته الصيفية الخفيفة. وحين علَّق على حالة آنسة كورنر الحزينة، حملت تعابير وجهِه مزيجًا من الألَم والسرور؛ إذ امتزج بطبيعته الرحيمة حماسة جامع تُحَف وجد ضالَّته المنشودة.

قال الطبيب بنبرة لوم: «أنتِ تتصبَّبين عرقًا.»

فسَّرت الآنسة: «كنتُ أحاول بعثرة ذراتي. لكنها وفيَّة للأبد. أفقدها ثم أجِدها في مكانٍ آخر. قيل لي إن جسدي يتألَّف من رطل من الغبار الكيميائي وبرميلٍ من الماء. حسنًا، أجد صعوبةً في تصديق ذلك.»

أصرَّ الطبيب: «ولكن ينبغي عليكِ البقاء في الظل.»

ردَّت: «أكره الظل. تُصيبني هذه الجادَّة بقُشَعريرة كقشعريرة مدفن الكنيسة. وأنا أكره التفكير في الموت.»

وتردَّدت ضحكتها العالية في جنبات الجادَّة.

وقالت: «يَعتبر أهل القرية ذلك دليلًا على أنني لستُ واثقة من مُستقرِّي الأخير. لكني لا أذهب إلى الكنيسة؛ لأني لا أُطيق المواعظ التافهة لذلك الشاب. كل ما يُحسنه هو الإلقاء؛ أما أفكاره، فليست بها روح الأصالة.»

لم يُخفِ الطبيب بيري سروره.

وابتسم قائلًا: «أنتِ وأنا من الأقلية.»

أجابت: «أجل. يتغنَّى به أهل القرية بالطبع. ومع ذلك، عندما يذهبون لحجز أفضل المقاعد في الجنة، أظنهم سيندهشون إلى حدٍّ ما عندما لا يجدون شباك تذاكر هناك. عليهم اللعنة.»

سأل الطبيب بفضول: «أهناك ما يُزعجك؟»

أجابت: «لا. احكِ لي حكايةً طريفة. احكِ لي قصةً طبيَّة تخوض في تلك الأمور التي يتجنَّب المجتمع الراقي الحديث عنها.»

علَّق الطبيب: «الحقائق الطبية لا تكون بذيئةً أبدًا يا جوليا. لكنك تبدين وكأنك تعاطيتِ جرعةً زائدة من التهذيب. تشتكي زوجتي ماريان من الشيء نفسه. وأخذت تتذمَّر بشأن ذلك طيلة الغداء. أظن أنكِ قدمتِ للتوِّ من حفل ليدي دارسي المنزلي؟»

ردَّت الآنسة كورنر: «أجل، أنا قادمة من هناك، لكنني لم أحضرها. أُبلِغتُ، وأنا على الباب، أن ليدي دارسي غير موجودة بالمنزل.»

ولأول مرةٍ يخرج الطبيب عن هدوئه.

قال وهو يربِّت على كتفها العريضة في حنان: «حسنًا، حسنًا يا جوليا، هذا من حُسْن حظك.»

قالت: «أتظن أنني لا أعلم ذلك؟ … أنتَ نِعم الصديق يا هوريشيو. أُريدك أن تعلم شيئًا … لقد تركتُ لك جميع أموالي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥