صوت من السماء
بعد دقائق، أفاق «أحمد» من حالة الإغماء البسيطة التي أصابته من أثر الانفجار الذي حدث، وكان من حُسن حظِّ «أحمد» أنَّه كان بعيدًا عن مكان الصندوقين اللذين لم يكونا بالطَّبع سوى قُنبلتين زمنيَّتَين … ووجد «أحمد» نفسه طافِيًا على سطح البحر، بعد أن انتفخ لباسُ البحرِ الخاصُّ الذي يلبسه، وأصبح يُشبه العوَّامة …
كان جسم «أحمد» يؤلمه في أماكن مُتفرِّقة، ولاحظ وجود بعض الجروح على يديه، وبعض الدماء تنزِفُ من فوق حاجبه الأيسر … وبدأ «أحمد» في السباحة في اتجاه الشاطئ … وكانت عمليَّة مُجهِدة للغاية أن يقوم بالسباحة لمسافة عشرين مِيلًا وهو في هذه الحالة السيئة.
ولكنَّه شاهدَ على البُعد الشيءَ الوحيد الذي كان يتمنَّاه … زَورقه العزيز، وإن كان قد انقلب على ظهره من أثر الانفجار. أسرع «أحمد» بالسباحة تجاه الزَّورق محاولًا اللحاق به قبل أن يجرِفَه التيَّار في اتجاه آخر، وبعد محاولات صعبة ضدَّ الأمواج، نجح في الوصول إليه، وقام بقلبه على الناحية الأخرى، وألقى بنفسه على ظهره وقد اشتدَّت الآلام في جسمه، وخاصَّةً ذراعه اليمنى التي لم يكن يستطيع أن يُحرِّكها بسهولة.
بعد دقائق، اعتدل «أحمد» في جلسته، ونظر حوله؛ علَّه يجد أيَّ واحد من المدعوِّين لا يزال حيًّا ليحاول إنقاذه … كان المنظر مُؤلِمًا للغاية، فمنذ دقائق كانت تنطلق من هذا المكان ضحكات فرح وسعادة … وها هو هادئٌ وصامتٌ صمتَ الموت!
كانت النيران تشتعل في بقايا اليخت، بعد أن غرِقَ معظمُه، وجثث المدعوِّين تتناثر على سطح الماء.
ولكن على البعد، لاحظ «أحمد» كتلةً خشبيَّةً قد تشبَّث بها ثلاثة رجال جرحی، ولكنَّه كان يبدو عليهم أنهم لا يزالون أحياء …
أسرع «أحمد» لإدارة المُحرِّكَين … ولكن أحدهما كان قد توقَّف تمامًا … بينما كان الثاني قد أصابه بعض التَّلَف … وفضَّلَ «أحمد» أن يعتمد على المجاديف؛ حتى لا يُضيِّع دقيقةً واحدةً قد تكون فَيصلًا في حياة أحد هؤلاء الجرحى الثلاثة!
أخرج «أحمد» مِجدافَين من داخل الزَّورق، وبدأ في عملية التجديف، وكم كانت مؤلمةً؛ خاصَّةً وأنَّ ذراعه اليمنى كانت شبه مُتيبِّسة … وبعد حوالي عشر دقائق، أصبح زَورق «أحمد» على بعد حوالي ٢٥ مترًا من الرِّجال الثلاثة.
وفي نفس اللحظة، سمع «أحمد» مُحرِّكًا على بُعد … لم يستطع «أحمد» أن يُميِّز إذا كان هذا الصوت هو صوت قارب قادم، أم صوت طائرة … ولكنَّ الدقائق جاءت بالإجابة السريعة، لقد كانت هذه هي الطائرة الحمراء التي ألقت بالمُتفجِّرات منذ دقائق، وحوَّلت الحفل إلى هذا الدَّمار الرهيب!
أوقف «أحمد» التجديف، وأخذ يتابع الطائرة بنَظَرِه، وقد بدأت في عمل دائرة واسعة، وكان قائدها يتأكَّد من أنَّه ليس هناك أحدٌ من الأحياء، ولحُسن الحظِّ لم يقترب من موقع «أحمد».
وبعد ذلك بدأت الطائرة في الابتعاد قليلًا، ثم حلَّقَت على ارتفاع منخفض من سطح البحر، وألقت بصندوق معدِنيٍّ متوسِّط الحجم، سرعان ما غاص في قاع البحر، ثم عاودت التحليق مرَّةً أخرى إلى مكان الانفجار.
وبعد الدورة الأولى، سمع «أحمد» أحد الرجال الثلاثة، وقد بدأ يُفيق من غيبوبته، وبدأ صراخه يعلو تدريجيًّا طلبًا للنَّجدة، وزاد صراخه عندما شاهد الطائرة، وعلى عكس ما توقَّع الرجل، فقد اقتربت الطائرة منه، وفجأةً بدأت في إطلاق وابل من الرَّصاص في اتِّجاه الرجال الثلاثة.
لم يتمالك «أحمد» نفسه، فأسرع إلى دُرج صغير وفتحه، أخرج منه مُسدَّسًا ضخمًا وعلبةً صغيرةً بها عِدَّةُ طلقات … وقبل أن تبدأ الطائرة مُناوَرَتَها الثانية في اتِّجاه الرجال، كان «أحمد» قد أکمل حشو مُسدَّسِه واستعدَّ للقاء الطائرة التي كانت قد اقتربت جدًّا من الرجال الثلاثة، وكذلك من «أحمد»، بعد أن لاحظ قائد الطائرة الزَّورق الصغير.
اقتربت الطائرة وهي على مستوًى منخفضٍ جدًّا، ومن مسافة قريبة بدأت تُطلق مدفعها الرشَّاش تجاه «أحمد»، الذي بدأ في إطلاق مُسدَّسِه تجاه الطائرة، ولكنَّه لم يتمكَّن من إصابتها في المرَّة الأولى؛ لأنَّ قائد الطائرة لاحظ أنَّ «أحمد» مُسلَّح، وفضَّلَ أن يُطلق مدفعه على بُعد، وأن يبدأ أوَّلًا بالرجال الثلاثة الذين بدأ الرعب يرتَسِم على وجوههم، وخاصَّةً بعد إصابة أحدهم بطلقة من مدفع الطائرة؛ جعلته يرتمي بعيدًا عن اللوحِ الخشبيِّ الذي كان مُعلقًا به، ويغوص إلى قاع البحر، مُخلِّفًا بقعةً من اللون الأحمر على سطح الماء.
بدأت الرِّياح تشتدُّ قليلًا، وكذلك بدأ التيَّار يسحب «أحمد» بعيدًا عن مكان الرجلين الباقيين على قيد الحياة، ممَّا جعل مهمَّة قائد الطائرة أسهل في إصابتهما، وهو آمنٌ من نيران «أحمد» المُحكَمة.
وفعلًا، بعد لحظات لم يكن لهما أيُّ أثر على سطح الماء، ولم يتبقَّ من مهمَّة الرجل سوی «أحمد»، الذي بدأ ينزف بغزارة من جرح لم يكتشفه إلَّا حينما أحسَّ بدمائه الدافئة تنساب بهدوء على ظهره.
وعلى الرغم من ذلك، اعتدل «أحمد» في جلستِه، وأعاد حشو المُسدَّس مرَّةً أخرى، وأمسكه بكلتا يديه، في حين كانت الطائرة تعتدل في طيرانها، وتُوجِّهُ مُقدِّمتها تجاه «أحمد»، وتبدأ في مُناورة حادَّة على مستوًى منخفضٍ من سطح البحر، تسبقها نيران مدفعها الرشَّاش، الذي كان يُطلَق في اتجاهات مُتفرِّقة بدون إحكام، وفعلًا أصاب أحد مُحرِّكات الزَّورق، وجزءًا من الدفَّة في المرَّة الأولى.
وفي المرَّة الثانية، استجمع «أحمد» كلَّ قواه الباقية، وأمسك بمُسدَّسِه، وأحكم التصويب؛ فقد بدأ يشعر أنه يفقد وعيه تدريجيًّا … ويذهب في حالة من الإغماء البطيء. وبدأ يُطلق طلقات في اتجاه مقدِّمة الطائرة، استطاع «أحمد» من صوتها أن يعرف أنَّه نجح في إصابة إحدی مراوح الطائرة، التي بدأت تهتزُّ في طيرانها، وتفقد كلَّ توازُنِها في الجو.
في هذه اللحظة أسرع «أحمد» بحشو مُسدَّسه مرَّةً أخرى، وصوَّبه تجاه جانب الطائرة، وبدأ في إطلاق طلقاته السريعة، وفعلًا بدأ خيط رفيع من الدُّخان ينبعث من الجانب الأيسر للطائرة الحمراء؛ يؤكِّدُ أن «أحمد» أصاب خزَّان الوقود، وبدأ الوقود يتسرَّب منه بسرعة كبيرة.
ابتسم «أحمد» رغم كلِّ ما فيه من الألم، إلَّا أنَّه شعر أنَّه أمام تحدٍّ حقیقيٍّ، فإمَّا أن يستسلم للموت، أو يهزم الموتَ نفسه!
أمَّا قائد الطائرة، فقد شعر أنَّه قد خسر الرِّهان … ولكن بقِيَتْ في يده ورقة واحدة، قرَّرَ أن يلعبها مهما كلَّفَته تلك الورقة … فقد قرَّرَ أن يصعد بالطائرة على ارتفاع كبير عمودي على الزَّورق الذي فيه «أحمد»، ويدع الطائرة تسقط على الزَّورق وبه «أحمد».
وفعلًا، بدأ قائد الطائرة في تنفيذ الخطوة الأولى في الخطَّة، وصَعِدَ بالطائرة على ارتفاع كبير، ثم قفز من الطائرة بمظلَّة، وبدأت الطائرة تهبط في حركة دائريَّة بسرعة جنونيَّة تجاه القارب.
أخذ «أحمد» يحاول الابتعاد عن نقطة سقوط الطائرة، ولكنَّ ذراعه المكسورة وقوَّة التيَّار قد حالا دون ذلك، وبدأت المسافة بين الطائرة و«أحمد» تضيق تدريجيًّا.