الأحداث تتلاحق
كان على الشياطين أن يُعيدوا حساباتهم بعد رسالة رقم «صفر»، خاصَّةً بعد أن قالت «زبيدة» إنَّ هناك رسالة لاسلكيَّة من جهة مجهولة أعلنت مسئوليَّتها عن الحادث، وكذلك أعلنت أنَّها تملِك سلاحًا حديثًا نوويًّا، وأنَّ تدمير هذه الناقلة لم يكن سوى اختبارٍ عمليٍّ لهذا السلاح الحديث …
قطع «بو عمير» الصمت الذي سادَ صالة المقرِّ للحظات، وقال: إنَّنا الجهة الوحيدة في هذا العالم التي تعلم بوجود هذا السلاح وأين يكون … لذلك فلا يوجد هناك وقت نُضيِّعه، ولنبدأ مهمَّتنا فورًا دون انتظار لإعادة الحساب!
وقف الشياطين، وذهبوا سريعًا إلى غرفهم ليستعدُّوا للمغامرة القادمة، ولم تمضِ سوى عشر دقائق حتى بدأت كلُّ مجموعة في تنفيذ مهمَّتها … فالفريق الأوَّل المكوَّن من «أحمد» و«إلهام» و«عثمان» اتَّجهوا إلى جراج المقر، وقد ارتدى ثلاثتهم ملابس ذات لون داكن، وعلى الرَّغم من أنَّ ذراع «أحمد» كانت لا تزال مربوطةً، إلَّا أنَّه اختار لهذه المغامرة بالذات أحد مُسدَّساته الكبيرة الحجم، وضعه في حزام سِرواله، وتولَّی «عثمان» قيادة السيَّارة إلى المرسى الذي يضع فيه الشياطين قواربهم البخاريَّة السريعة، المجهَّزة خصوصًا لمغامراتهم.
وبعد ذلك بدقائق كان الفريق الثاني — ويتكوَّن من «بو عمير» و«زبيدة» و«قيس» — في طريقه إلى سطح المقر، حيث كانت إحدى طائراتهم الهليوكبتر السريعة، وفي لحظات كانت مُحرِّكات الطائرة تدور مُحدِثةً أزيزًا خافتًا ازداد شيئًا فشيئًا، حتى بدأت عجلات الطائرة تترك أرض المطار الصغير ببُطء في اتِّجاه جزيرة يوفاليس، حيث يوجد العملاق القزم «ماريو أندوليني» الذي يُدير كلَّ هذه الشبكة الإجراميَّة ببراعة واقتدار.
كانت ليلةً باردةً إلى حدٍّ ما، على عكس ليالي الصيف في إيطاليا … فقد كانت هناك بعض النسمات الباردة تزداد شدَّتُها كلَّما أخذت الطائرة طريقها إلى عرض البحر … وبعد حوالي ساعة من الطيران، بدأت أضواء خافتة تظهر في الظلام، وقال «بو عمير»: هذه هي أضواء جزيرة يوفاليس، فاستعِدُّوا لنبدأ المهمَّة …
كانت الجزيرة تبدو في الظلام على شكل سمكة كبيرة، رأسها في اتِّجاه عُرْض البحر، وذيلها في اتِّجاه مدينة نابولي … وأمام الذيل من الناحية اليسرى، كان هناك يخت يرسو وقد أُضيئت بعضُ أنوارِه، ولم يكن هناك شك في أنَّ هذا اليخت هو يخت «ماريو أندولیني».
دار «بو عمير» دورةً واسعةً فوق الجزيرة التي كان يحيط بها جدارٌ صخريٌّ صنَعَته الطبيعة ليحميَ الجزيرة من الأمواج، وكانت هناك بعض الصعوبات لكي يهبط «بو عمير» بطائرته بالقرب من هذا الحائط الصخري.
كذلك كان «بو عمير» حريصًا على ألا تلتقط أجهزة «ماريو» وجود الطائرة … فلم يقترب من الجزيرة أكثر من اللازم، رغم أنَّ الجزيرة تزورها طائرات السُّيَّاح في أوقات مُتفرِّقة للزيارة … ولالتقاط الصور التذكاريَّة؛ لوجود قلعة قديمة منذ أنْ حكَمَ المسلمون هذه المنطقة من البحر المتوسط.
وكانت القلعة مُضاءةً بشكل يُمكِّنُهم من التقاط صورهم التذكاريَّة من الطائرة … وبعد خمس دقائق من التحليق فوق الجزيرة، ابتعد «بو عمير» قليلًا، وبدأ يهبِط فوق ماء البحر، ثم أوقف مُحرِّكات الطائرة وربض بها في الظلام … وبدأ الشياطين في تجهيز أحد القوارب المطَّاطيَّة السريعة التي تنتفخ بسرعة بمُجرَّد جذب أحد الأزرار، وهبط الثلاثة في هدوء إلى القارب، وبدءوا في التجديف في اتِّجاه الجزيرة … وقد فضَّل «بو عمير» استعمال المجاديف عن المُحرِّك حتى لا يَفْتضِح أمرهم.
وبعد ربع ساعة، توقَّف القارب قريبًا من الجدار الصخري الكبير، وقام «بو عمير» و«قيس» بإخفائه حتى يُساعدهم في عمليَّة العودة إلى الطائرة … وبدأ الشياطين في تسلُّق هذا الجدار، الذي كان مُدَبَّبًا حادًّا جارحًا، وبصعوبة نجح الشياطين في تسلُّق السُّور، حتى وصلوا إلى إحدى طُرقات الجزيرة الموازية لشاطئ البحر.
كانت الجزيرة هادئةً، والحركة قليلةً، ونادرًا ما مرَّت سيَّارة بالشياطين الثلاثة، الذين كانوا يسيرون في اتجاه میدان في الجزيرة، ويُسمَّى میدان «سان دييجو» … وكأي سائح أخرج «قيس» خريطة للجزيرة، وبدأ في وضع علامات عليها؛ حتى يتسنَّى له معرفة مكانهم على الجزيرة … كان الميدان الرئيسيُّ يتوسَّطه تمثال أبيض لأحد آلهة الرُّومان القدماء، وتُحيط به حديقة صغيرة مُضاءة وُضِعَت بها بعضُ الكراسي؛ لکي يجلس زُوَّار المدينة لمشاهدة معالم الجزيرة …
وكان يتفرَّع من الميدان أربعة شوارع رئيسية، اثنان منها يتَّجِهان إلى البحر، والثالث يتَّجه إلى مزارع صغيرة تُزرع فيها العنب الأحمر، أمَّا الشارع الرابع فكان يؤدِّي إلى قلعة يوفاليس … وفي ميدان «سان دييجو» وعلى المقاهي الصغيرة، جلس بعض سُكَّان المدينة وبعض السائحين، وأمام أحد المقاهي كانت تقف سيَّارة «كاديلاك» قديمة سوداء، وقف بجوارها رجلان يبدُوَان مُسلَّحَين، وكان منظر السيَّارة ملفتًا للأنظار في هذه الجزيرة الصغيرة، التي لا تسير فيها إلَّا العربات التي تجرُّها الخيول …
قرَّر الشياطين التوجُّه إلى حيث تقف الكاديلاك السوداء والحارسان المُسلَّحان … ومن بعيد سمع الشياطين صوت عزف إحدى الفِرَق الموسيقيَّة ينبعث من داخل المقهى، وكأيِّ سائح دخلوا المقهى، واختاروا إحدى الموائد، وجلسوا حولها.
كان كلُّ شيء يبدو عاديًّا، فجميع من كانوا بالداخل لا يدلُّ منظرهم على شيء، إلَّا أنَّ «زبيدة» رأت رجلًا يبدو مُسلَّحًا يقف أمام أحد الأبواب مستندًا عليه، ويُراقب الحركة في المقهى. وهمست «زبيدة» تلفت أنظار زميلَيها إلى الرجل … وبالطبع تظاهروا بأنَّهم لا ينظرون إليه! وإن كانوا متأكِّدين أنَّ شيئًا يحدث داخل الغرفة، ولا يريد مَن فيها أن يراهم أحد.
بعد قليل جاء الجرسون بعدد من أكواب عصير العنب الذي تشتهر به الجزيرة، ولم يَطُلِ انتظار الشياطين … فبعد دقائق فُتح الباب، وخرج رجل طويل القامة، يُغطِّي وجهه بقُبَّعة سوداء، واتَّجه إلى الشارع، وبعد دقيقة خرج رجل آخر قصير القامة يرتدي بدلةً بيضاء … ويضع يده اليمني في جيب سُترته … وقف هذا الرجل أمام باب الغرفة ينظر إلى الجالسين في المقهى يبحث عن شيء، وظلَّ الشياطين يتبادلون الحديث بينهم، ويتظاهرون بالاستماع إلى الموسيقى.
بعد لحظات عاد الرجل الطويل من الخارج، وحدَّث الرجل القصير حديثًا هامسًا، ثم خرجا معًا، وتلاهما الرجل المُسلَّح الذي كان يقف عند الباب، وركب الجميع السيَّارة الكاديلاك، التي انطلقت ببُطء مُحدِثةً صوتًا عاليًا وبعض الدُّخان.
لم يكن لدى الشياطين شك في أنَّ هذا الرجل القصير لم يكن سوی «ماريو أندولیني» — هدفهم المنشود! وكان من حُسن حظِّ الشياطين أنَّهم وجدوه في أول خطوات بحثهم في الجزيرة.
بعد دقائق خرج الشياطين إلى الميدان، وكانت السيَّارة السوداء تكاد تختفي في الناحية الأخرى منه، في اتِّجاه الشارع الرابع الذي كان يتَّجه إلى قلعة يوفاليس.
سار الشياطين في اتِّجاه الميدان … حيث كانت تقف العربات التي تجرُّها الخيول، واقترب «بو عمير» من أحد السائقين، وقال له: نريد لك أن تأخذنا إلى قلعة يوفاليس!
قال الرجل: في هذه الساعة؟
قال «بو عمير»: نعم.
ومدَّ يده له بمبلغ قضى على تردُّدِ الرجل، فوافق.