حياته وأعماله
يوهان فولفجنج فون جوته إنسان فريد، لا يجود الدهر بأمثاله على
الإنسانية إلا نادرًا، كان أديبًا وشاعرًا وفيلسوفًا ومؤرِّخًا
وعالِمًا في الطبيعيات ومحاميًا ومستشرقًا (وإن لم يكن عليمًا
باللغات الشرقية) ووزيرًا، فضلًا عن اهتمامه بالإسلام وبالشرق
أدبًا وفنًّا وفِكرًا، ألَّف الأغاني العاطفية، والقصائد الفلسفية،
والمسرحيات الكبيرة والصغيرة، التراجيديات والكوميديات والأوبرات،
ومسرحيات المناسبات، وأنشأ الملاحم، والقصص والروايات، وكتب
المقالات في شتى الموضوعات، ولم يدَع نوعًا من الأنواع الأدبية إلا
عالجه فتفوَّق فيه، وأنشأ بين الثقافة الألمانية والثقافات الأخرى
كلها تقريبًا جسورًا قربتها بعضها من البعض وشجعت التفاعل والتبادل
بينها، وبوَّأ الأدب الألماني بما جاد به قلمه مكانًا عليًّا، كان
جوته لا يكتب لنفسه ولا لقومه فحسب، بل كان يكتب للناس كافة، فكان
بحقٍّ إنسانَ الإنسانية، قبل أن يكون مواطنًا ألمانيًّا.
عاش أكثر من ثمانين عامًا بين منتصف القرن الثامن عشر ونهاية
الثلث الأول من القرن التاسع عشر، حافلة بالأحداث العظام، يتنقَّل
بين مصادفات رائعة دبَّرَها له القدَر، وبين ظروف مواتية
مهَّدَتْها له قدرتُه. وأنت إذا أردتَ أن تكتب قصة حياته وجدتَ
صعوبة بالغة تعترض مهمتك، هي ضخامة المعلومات التي تجمَّعَت عنها،
والتي توشك أن تكفي لإعادة تصويرها في بعض مراحلها ساعة بساعة.
ولسنا ندَّعي لأنفسنا قدرة على ذلك، ولكنَّا نرجو أن نرسم صورة
متواضعة لهذه الحياة العظيمة، تجمع بين الإيجاز والفائدة.
ولد يوهان فولفجنج فون جوته في اليوم الثامن والعشرين من شهر
أغسطس عام ١٧٤٩م بمدينة فرنكفورت الواقعة على نهر الماين، أحد أفرع
نهر الراين، لأبٍ هو يوهان كاسبار جوته، كان يحمل لقب «مستشار
قيصري» ويدخل في زمرة أعيان المدينة، وأمٍّ هي كاتارينا إليزابت
كاستور ابنة العمدة، وُلد بين الحياة والموت، أو على الأصح أقرب
إلى الميت منه إلى الحي، ولم ينبض جسمه المتهالِك الضئيل إلا بعد
أن أعملت فيه القابلة والحاضرات التدليك والتحريك. وربما اعتقد مَن
عاش محنة ميلاده أن ذلك الوليد لن تتقدَّم به السن، وأن الموت لن
يلبث أن يعاود الكرَّة فينتزعه إليه، ولكنه عاش وكانت حياته هي
الحياة بأقوى ما في الكلمة من معنى. وقد حرص جوته فيما بعد على
إبراز واقعة ميلاده هذه، وعلى إدخالها في مسار الأفلاك ومواقع
الأبراج، فيقول في مطلع سيرته الذاتية «شعر وحقيقة»:
١ «إن الشمس كانت في فلك العذراء ظهرًا، وإن المشتري
والزهرة كانا ينظران إلى الشمس نظرة الود، وإن عطارد لم يعارض، وإن
زحل والمريخ كانا يقفانِ موقفَ غيرِ المُكترِث، إلا القمر، وكان قد
اكتمل بدرًا منذ قليل، قد أعمل ضياءه المعاند، وتصدَّى لميلادي
فحالَ دونه، ولم يتم مولدي إلا بعد أن دالت ساعته.» كذلك حرص جوته
فيما بعد على إظهار اختلاف أبيه وأمه في الطباع، وعلى إفادته من
هذا الاختلاف بجمعه عنصرية في ذاته. كان الأب شديدًا عَبوسًا
صارمًا مُنظَّمًا منطقيًّا، وكانت الأم مَرِحة ذات خيال وحسٍّ
مُرهَف وحب للحكايات والقصص:
«ورثتُ عن أبي بنياني
والجدَّ في الحياة،
وورثت عن أمي الحبيبة المَرَح
والشغف بالابتداع.»
وقد تناولت الباحثة الأستاذة كاتارينا مومزن في
كتابها القيم «جوته وألف ليلة وليلة» البيتين الأخيرين بالتحليل
والدراسة، وتبيَّنَت أن أم الشاعر العظيم كانت تقص عليه في صغره
قصصًا من نوع ألف ليلة وليلة، ومن ألف ليلة وليلة ذاتها، وكانت
تصطنع طريقة شهرزاد في الابتداع والتشويق، حتى انطبع الشاعر منذ
نعومة أظفاره «بالطابع الشهرزادي»، فلم يفارقه فيما بعد أبدًا.
وهذه نتيجة بالغة الأهمية.
والمتتبِّع لحياة جوته صبيًّا، يتبيَّن أشياء مُعيَّنة أثَّرَت
في تكوينه وثقافته ورسالته. أول هذه الأشياء البيت الذي وُلد فيه
وسكنه؛ فقد قام والده بعملية بناء وترميم معمارية كبيرة فيه، طبعت
فكر الصبي بالبناء بمعناه الواسع؛ منذ رأى الصبي البيت يُبتنى،
وتُصمَّم له التصميمات، وتُخَطُّ له الخطوط، وتُوضَع لَبِناتُه
الواحدة فوق الأخرى، ثم تستكمل من هنا بشبَّاك ومن هناك بباب،
وتجمِّل بطلاء ودهان، وهو يبني، ويريد أن يكون ما يبنيه على أساس
من خبرته.
والشيء الثاني هو المدينة التي فتح عينَيه عليها. مدينة فرنكفورت
على الماين، وكانت مدينة تضطرب بالتجارة والثقافة والسياسة، تقوم
فيها الأسواق للعرض والبيع، وتضم في جنباتها خليطًا من الناس من
كافة الألوان، حتى اليهود بحيِّهم الذي كان يثير في أهل البلد
الفضول أو النفور، وتضم كذلك مجموعة كبيرة من المباني الأثرية
والكنائس والأديرة. وقد أُتيح للصبي في المدينة الحُرَّة أن يشهد
تتويج يوسف الثاني (عام ١٧٦٤م) قيصرًا لدولة ألمانيا، وكان اسمها
آنَئذٍ «الدولة الرومانية المُقدَّسة للأمة الألمانية» (أو إنْ شئت
«الرايخ الروماني المُقدَّس للأمة الألمانية») وتناوُله الطعام على
مائدة الأمير الناخب في دار بلدية فرنكفورت المُسمَّى «دير رومر»، الروماني.
٢ وهكذا أُتيح للصبي أن يرى مسقط رأسه يقف في مركز
الاهتمام، ويتحوَّل إلى كعبة تشرئِبُّ إليها الأعناق ولو إلى حين.
وكانت المدينة على أية حال بفضل موقعها على طريقٍ نهريٍّ، تتصل
بالشمال والجنوب؛ وتتصل بالشرق والغرب وتعرف سويسرا وإيطاليا
وفرنسا وغيرها من الدول ذات التجارة.
والشيء الثالث الذي أثَّر على الصبي تأثيرًا كبيرًا، هو مسرح
العرائس الصغير الذي تلقَّاه هدية من جدته، وكان يتمتَّع به مع
أخته الوحيدة (كورنيليا، وُلدت عام ١٧٥٠م) لا متعة المشاهد فحسب،
بل متعة المؤلِّف والفنَّان؛ فقد بدأت الأسرة بعرض تمثيلية في عيد
الميلاد عام ١٧٥٣م وتطوَّرت إلى تشجيع الأولاد، والصبي خاصة، على
تأليف تمثيليات لمسرح العرائس الصغير، وكان يقتبس، على ما رُوي،
قصصًا من الكتاب المُقدَّس مثل قصة «راعوث».
والشيء الرابع هو اتصال الصبي بالضابط الفرنسي الكونت توران،
الذي أقام في بيت آل جوته لمدة عامَين ونصف العام، على أثر احتلال
الفرنسيين فرنكفورت، بعد تحالفهم مع ماريا تريزيا، وكان ذلك في عام
١٧٥٩م. كان هذا الضابط رجلًا رقيقًا واسع الثقافة، محبًّا للفنون،
فكلَّف نفرًا من الفنانين برسم لوحات له، في حجرة بالبيت حوَّلوها
إلى مرسم، وكان الصبي يحب الوقوف بجانبهم، والتطلُّع إليهم،
والتعلُّم منهم. وهكذا أُتيحَت له خبرة حية في فن التصوير وصنعة
الفنانين الذين يعالجونه. والمهم في المقام الأول، ليس تعلُّم
الصبي طرفًا من فن الرسم، بل تفتُّح ذهنه على مواد من التي يتخذها
موضوعات له، وعلى قيمة الألوان والكتل والخطوط. وضمَّ الصبي
الموهوب هذه الخبرة إلى كنز خبراته، لتظهر في إنتاجه العبقري فيما
بعد، في حينها. كذلك أفاده اتصاله بالكونت الفرنسي، في إجادة اللغة
الفرنسية في وقت مُبكِّر، وفي التعرُّف على المسرح الفرنسي، إذ كان
الكونت توران يصطحبه معه إليه. وهكذا عرف الكلاسيكيين الفرنسيين،
وعرف ماديفو وديتوش ولا شوسيه.
٣
هذه هي الأشياء الأربعة الرئيسية التي شحذت قريحة الصبي
وأمدَّتها بالحوافز القوية. أما التعليم الذي تلقَّاه في هذه
الفترة، فقد تلقَّاه على يد أبيه وعلى يد المدرِّس الخاص، ولم يذهب
إلى مدرسة إلا لفترة قصيرة. تعلَّمَ الألمانية وقواعدها،
واللاتينية واليونانية والعبرية، وأجاد الفرنسية، وضرب بسهم وافر
في الإيطالية والإنجليزية. كذلك تعلَّم التاريخ والجغرافيا والرسم
والموسيقى والفروسية والسلاح والرقص والسباحة.
وكان للصبي اهتمام فطري بالأدب، يكثر القراءة، ويحاول التأليف،
وقد حكى في سيرته الذاتية التي أشرنا إليها، أنه كان يجتمع مع صبية
من سنِّه، ويتبارى معهم في قرض الشعر، وأنه تبيَّن أن ما ينشئه
الآخَرون تافِه في أغلبه، وأن ما ينشئه هو يبشِّر بالخير. وما زال
الصبي يكتب الشعر ويحسِّنه حتى اجتمع له في الرابعة عشرة ديوان من
٥٠٠ صفحة قدَّمَه إلى أبيه، وكان يضم قصائد منوَّعة، جادة
وهازلة.
كانت للصبي إذَن في المرحلة الأولى من حياته، المرحلة
الفرنكفورتية الأولى، مرحلة الصبا، محاولات جادة في الكتابة
للمسرح، مسرح العرائس أولًا، ثم المسرح بمعناه المعروف لنا ثانيًا،
وفي كتابة الشعر، ثم في كتابة النثر القصصي. ولقد ضمَّنَ جوته
الكتاب الثاني من «شعر وحقيقة» حكايةً كتبها في تلك المرحلة اسمها
«باريس الجديد» تناولتها الباحثة كاتارينا مومزن،
٤ التي سبق أن أشرنا إليها، بالتحليل، ووجدت فيها ما
يقطع بتأثُّر جوته بألف ليلة وليلة، في ترجمة أنطوان جالان
الشهيرة.
وقد ارتبط الجزء الأخير من المرحلة الفرنكفورتية بحُب فتاة
يتحدَّث جوته عنها في الكتابين الخامس والسادس من «شعر وحقيقة»
ويسميها «جريتشن» وهي مارجريته فاجنر، كانت تملك عليه عقله وقلبه،
وكان يعتبرها النموذج الكامل للحُسن والرقة والجمال، وحدثت حادثة
من قبيل الاحتيال، وقع هو والفتاة ضحية لها، ووصل أمرها إلى
التحقيق، وإلى إثارة نفس الأديب الصغير وجسمه إلى درجة المرض
الشديد، وإلى ابتعاد البنت عن فرنكفورت. وقد كان لهذه الخبرة التي
تجمع بين الحب والألم صداها في إنتاج الأديب فيما بعد، خاصة في
مسرحية فاوست.
وببلوغ يوهان فولفجنج السنة السادسة عشرة من عمره، عام ١٧٦٥م،
تبدأ المرحلة الثانية، المرحلة اللايبتسيجية. في ذلك الوقت قرَّر
الأب أن يبعث بابنه إلى جامعة لايبتسج (ليبزج) التي كان هو قد
اختلف إليها، ونال منها دكتوراه القانون، ليتابع الدرس فيها في
الطريق نفسها، طريق القانون. ولكن الطالب لم يكتفِ بدراسة القانون،
بل زاد عليه دراسة الآداب. كانت لايبتسج مدينة ذات أهمية أدبية
وفنية كبيرة، يسمُّونها «باريس الصغيرة» وكان أسلوب الفن السائد
فيها الأسلوب الرعوي، وقد ظهر هذا الأسلوب في المسرحية الرعوية
الصغيرة التي وصلتنا من مؤلَّفات جوته «نزوة العاشق».
٥
كانت المرحلة اللايبتسيجية، مرحلة الانطلاق إلى الآفاق العالية،
اتصل فيها جوته بجيللرت وجوتشد،
٦ وكانا أستاذين عظيمَين في زمانهما، يدرسان الفنون
الأدبية في الجامعة، وينشئان الأعمال الأدبية أيضًا، وكان جوتشد في
وقتٍ من الأوقات صاحب الكلمة المسموعة في المسرح الألماني، وكان له
فضل إنشاء مسرح ألماني جاد، ومحاولة رسم خطوط له، تبيَّن بمرور
الوقت أنها كانت في كثير منها مُجانِبة للصواب. كذلك اهتم جوته
بالفن التصويري وأخذ فيه دروسًا على يد الرسَّام آدم فريدريش أوزر
٧ تلميذ فنكلمن، واتصل بفنانين بارزين مثل هيللر
٨ مؤسِّس الأوبرا الألمانية، والمغنِّية المبدعة كورونا شروتر.
٩ واختلف إلى «حانة قبو أورباح»
١٠ وقابل هناك الطلبة القدامى والجدد، واستمع إلى غنائهم
وعبثهم ونقدهم.
وبعد أن أقام في لايبتسج عامين كتب إلى أخته كورنيليا يقول: «لما
كنت مجرَّدًا من الكبر تمامًا، فإن لي أن أؤمن باقتناعي الداخلي،
الذي يحدِّثني بأن لي بعض الخصائص التي ينبغي أن تتوفَّر للشاعر،
وأني قد أصل يومًا بالاجتهاد إلى أن أكون شاعرًا. لقد بدأت منذ
العاشرة أكتب الشعر، واعتقدت أن ما كتبتُه كان جيدًا. أما الآن
وأنا في السابعة عشرة، فأعتقد أنه رديء، ولكني زدتُ في العمر سبعة
أعوام، وزادت مهارتي في القرض قدر سبعة أعوام. أَلَا فليتركني
الناس وشأني. لو كانت لي عبقرية، فسأصير شاعرًا ولو لم يقوِّمني
أحد، ولو لم تكُن لي عبقرية، فلن تؤدي ألوان النقد بي إلى أية
نتيجة.» هذا هو كلام جوته في عام ١٧٦٧م (في ١١ مايو)، كلام إنسان
يؤمن بعبقريته، ويعتقد في داخلية نفسه أنه شاعر، وأنه كالبركان
الذي بدأ ينفجر. هذا العام هو، في نظرنا، عام البداية.
قلنا إن جوته تلقَّى الدروس في الرسم على يد آدم فريدريش أوزر،
وكان لأوزر هذا بنت نابهة هي «فريدريكه»
١١ كان جوته يحب مجلسها، ويزورها من حين لآخَر، خاصة —
على حدِّ تعبيره في إحدى قصائده — «عندما كانت فتاته الشقية
تعذِّبه»! هذه الفتاة الشقية هي «أنا كاتارينا شونكوبف»،
١٢ التي كان يسمِّيها تارة «أنيتة» وتارة «كيتشن»،
١٣ (صيغتا التدليل من أنا، كاتارينه)، وكان يحبها حبًّا
عارمًا، ملأ قلبه بالغيرة الشديدة عليها حتى فاض بالفتاة الكيل،
وقطعت صِلتها به؛ لأن غيرته عليها تحوَّلَت إلى العذاب والغيظ،
فحزن لفراقها أشد الحزن.
ومرض مرضًا شديدًا أوشك أن يكون الدرن، وعاد بين الحياة والموت
إلى فرنكفورت، ولكنه كان قد أصبح شاعرًا غنائيًّا وشاعرًا
مسرحيًّا، شاعرًا حقيقيًّا صادقًا، عبَّر في مؤلفاته عن خبرته
الأليمة مع أنا كاتارينا، ابنة تاجر الخمور وصاحب الفندق شونكوبف.
كان قد ألَّفَ أو بدأ في تأليف «نزوة العاشق»
١٤ و«الشركاء» وكتاب «أنيتة».
وبقي المريض في فرنكفورت حزينًا، يتحسَّن تارة، وينتكس تارة
أخرى. ويفكِّر في أصحابه في لايبتسج، وخاصة في كيتشن، التي علم
أنها خُطبت وتزوَّجت عام ١٧٧٠م. ويوشك على الموت مرة أخرى، ويقضي
الوقت مُكِبًّا على قراءاتٍ في التصوُّف والسحر والطب والكيمياء،
ظهرت آثارها في «فاوست».
فلما أَبَلَّ من مرضه، ذهب في مارس عام ١٧٧٠م إلى شتراسبورج
لينهي في جامعتها دراسة القانون. ولكن مرحلة شتراسبورج تشمل أمورًا
أهم بكثير من دراسة القانون، تشمل مثلًا علاقته بالأديبِ الفذِّ هردر،
١٥ وحبه لفريدريكه بريون، و«اكتشافه» الكنيسة هناك. أما
علاقته بالأديب الناقد هردر فقد كان لها أثر هائل على فنِّه. كان
هردر قسًّا، ترك المنصب، وانقطع للأدب والعلم، وجمع خبرات كبيرة من
سفرٍ على سطح البحر وسفرٍ في بلدان أوروبا، وخاصة فرنسا، ومن
دراسةٍ على يد الفيلسوفَين العظيمَين كانط وهامان
١٦ واتصالٍ بأدباءَ نقَّادٍ مثل لسينج،
١٧ وكوَّن له أفكارًا لقيت لحُسن الحظ التربةَ الخصبة؛
فأثمرت الثمرة المرجوة. كان يرى أن الشعر ينبثق من النفس لا من
العقل، من الوجدان لا من الفكر، ويعتبر أعظم الشِّعرِ الشِّعر
الشعبي، وشعر عباقرة الفطرة أمثال شيكسبير، وقبله هومير وأصحاب
التوراة و«أوشان» (أوسيان)،
١٨ وكان هردر بهذا يعارض مدرسة جوتشد أشد المعارضة، تلك
المدرسة التي كانت تهتم أكثر الاهتمام بالقواعد، والقوالب،
والمنطق، ولا تعترف إلا قليلًا بالسليقة والوجدان والعاطفة
والعبقرية. وهكذا وضعت المصادفة السعيدة في طريق جوته الرجل الذي
ساقه إلى النبع الشعري الخالد، نبع الغنائية الأصيلة، في الشعر
الشعبي وشعر الأقدمين ومنهم العرب، ولعل بدء اهتمام جوته بالشعر
العربي وخاصة المعلقات يرجع إلى هذه الفترة.
وكانت مدينة شتراسبورج تعني بالنسبة لجوته اكتشاف الكنيسة …
«المونستر»، أو اكتشاف الروح الألمانية. كان جوته في لايبتسج أو
حتى مرحلة إقامته في لايبتسج يسير في الركب الفرنسي، ويكفيك أن
تطَّلِع على مسرحيتَيه «نزوة العاشق» و«الشركاء» حتى تتبيَّن مدى
تأثُّره بالمسرح الفرنسي من موليير إلى ماريفو، وتأثُّره بقالب
الشعر المسرحي الفرنسي توطُّنًا، المُسمَّى «السكندري» (بحر
الاثنَي عشر مقطعًا). أما اكتشافه المونستر،
١٩ أو على الأصح اكتشافه لألمانية هذا البناء القديم
الشامخ، فيرجع إلى رغبته في التخلُّص من حالة الدوار التي كانت
تلازمه، والتي كانت تعتريه في حصص التشريح العملية خاصة، التي كان
يختلف إليها زيادةً في العلم. فقرَّرَ أن يتسلَّق برجًا عاليًا
ويعوِّد نفسه النظر منه إلى أسفل دون الاستسلام إلى الدوار. وما
لبث أن قاده ذلك إلى دراسة المبنى، والاهتمام بأسلوبه القوطي،
واعتباره إيَّاه مُعبِّرًا عن الروح الألمانية، وما لبثت هذه
الأفكار بدَوْرها أن تحوَّلَت إلى مقال باسم «فن العمارة الألماني»،
٢٠ ذلك الفن الذي يتجلَّى فيه شعورٌ عميق مُنتهَى العمق
بحقيقة النسب وجمالها، منبعث من النَّفْس الألمانية القوية الصلبة.
تبلورت في وجدان جوته وفِكره الخصائص الألمانية بوضوحٍ لأول مرة،
نتيجةً لإقامته في مدينة فرنسية، هي مدينة شتراسبورج، تزخر بالآثار
الألمانية، وصحا فيه حبٌّ لكلٍّ ما هو ألماني، وتحوَّل الأسلوب القوطي
٢١ في نظره إلى أسلوب رفيع وكان الشائع عنه، خاصةً بين
المتفرنسين، أنه أسلوب البرابرة الهمج. ولعلَّ أبرز مثل على احتفاء
جوته العميق الدائم بالقوطية، هو افتتاح مسرحية فاوست بمنظر في
حجرةٍ على الطراز القوطي.
كذلك كانت شتراسبورج طريقه إلى حُبٍّ عميق، حُبه لفريدريكه بريون
٢٢ عرفها في أكتوبر ١٧٧٠م، وكانت في الثامنة عشرة، وكانت
ابنه القس (البروتستنتي) في زيزنهايم.
٢٣ وعرف معها أيامًا سعيدة، خرجا معًا للنزهة في الطبيعة،
وجلسا معًا إلى مائدة صغيرة، وتبادلا الحديث، واستظلَّا ياسمينة
هناك وحكى لها حكايات ميلوزينة الجديدة
٢٤ التي ضمَّنَها فيما بعدُ روايته العظيمة «سنوات تجوال
فيلهلم مايستر». وألهب هذا الحبُّ فؤاده، فانطلق بقصائد خالدة مثل
«ترحيب وتوديع» و«زهيرات ووُرَيْقات» و«أغنية الربيع» و«ملك توله»
(التي أدخلها فيما بعد في فاوست). ولكن حبه لفريدريكه لم يكن
لينتهي النهاية التي تمنَّتْها البنت، فقد قطع جوته علاقته بها.
وزجرها وتركها كسيرة الفؤاد، مُحطَّمة النفس. وقد ظلَّ ظُلمه
لفردريكه يُلازمه ويلحُّ عليه طوال حياته، وتبلور في عنصر أدبي لا
تفتأ تجده في إنتاجه، خاصة في مسرحيتَي «جوتس» وفي «كلافيجو». ولا
شك أن شخصية جريتشن في فاوست تمثِّل في كثير من أجزائها جوانبَ من
شخصية فرديركه بريون.
ونالَ جوته إجازة الحقوق، وأصبح يُسمَّى الدكتور جوته، وعاد إلى
فرنكفورت في أغسطس من عام ١٧٧١م ليحلف اليمين، وليبدأ نشاطه
كمحامٍ. ولكن نشاطه هذا لم يكُن حقيقيًّا، بل كان مُتكلَّفًا أشدَّ
التكلُّف. كان محاميًا بالاسم، وكان أبوه هو الذي يدرس القضايا
بالاشتراك مع كاتب من الأقارب. ولكن جوته عاد إلى فرنكفورت ليبدأ
المرحلة الفرنكفورتية الثانية من حياته الأدبية، من ١٧٧١م إلى
١٧٧٥م، وتمتلئ هذه المرحلة بالعمل في مسرحية «جوتس فون برليشجن ذو
اليد الحديدية»
٢٥ وفي رواية «آلام الشاب فرتر»،
٢٦ وبكتابة مقالات في النقد. كل هذا النشاط الأدبي كان
يتخذ طابع مدرسة اشتهرت آنذاك باسم «العاصفة والاندفاع» (شتورم أند
درانج) واستمر نفوذها من عام ١٧٦٧م، عام ظهور كتاب «مقتطفات» لهردر
إلى عام ١٧٨٥م، عام بداية الكلاسيكية. وكانت هذه المدرسة تدعو لِما
يدعو إليه هردر، تدعو إلى العودة إلى الوجدان وإلى الثورة على جمود
حركة التنوير
٢٧ وبروده العقلي، وتدعو إلى تقديس العباقرة القدامى ذوي
الأصالة والعنف، في كل الآداب، وإلى الثقة في المقدرة الشخصية
الأصيلة الموروثة، وفي فورة الشباب.
وبينما جوته في إقامة قصيرة بفتسلار
٢٨ في ربيع عام ١٧٧٢م يسعى للحصول على إجازة الدفاع أمام
محاكم أعلى درجة، قاده الحظ إلى حفل رقص، تعرَّف فيه على الآنسة شارلوته
٢٩ بوف أو لوته، كما كان المدلِّلون لها ينادونها، وكانت
تقيم ببيتٍ في الريف مع أبيها وإخوتها العشرة، وقد ماتت أمهم. كانت
شارلوته تتولَّى الأولاد بالرعاية، وتعيش حياة أعجبت جوته أشد
الإعجاب. وكان أنْ عشقها. ولكن لوته كانت مخطوبة لشاب آخَر من
الوجهاء هو كستنر. واضطر جوته أن يحسم الأمر، ويبرح الأرض ويكتم
حُبَّه في قلبه. وتعرَّف على غادةٍ جميلة اسمها ماكسميليانه،
٣٠ من أسرة معروفة هي أسرة لاروش، وساعدته صِلته بها على
التغلُّب على ذكرى لوته. وتشاء المصادفات أن تحدث حادثة في مدينة
فتسلار ذاتها ينتحر فيها يروزالم.
٣١ وهو من أصحاب المناصب العالية في المدينة، وكان جوته
يعرفه شخصيًّا، ليُنهي قصة حُبِّه لامرأة متزوِّجة؛ يقينًا منه بأن
حُبَّه لن يؤدِّي إلى نتيجة. وعلمَ جوته بالحادثة، واهتزَّ لها
جدًّا، لتشابه حاله وحال المنتحر. ولكنه عاد إلى فرنكفورت وأخرج
«جوتس» بعد أن أتمَّها، في يونيو عام ١٧٧٣م، فأحدثت دويًّا هائلًا،
واهتم بها أتباع مدرسة «العاصفة» اهتمامًا عظيمًا، لاتباعها طريقة
شيكسبير مع شيءٍ من المبالغة، ولحديثها إلى الوجدان بلسان شابٍّ
عنيفٍ. ومُثِّلَت المسرحية على المسارح الهامة، وأُعيد طبعها
مرارًا. وحدث في هذه الأثناء أن تزوَّجَت ماكسميليانه الجميلة
الرقيقة المحبة للأدب والموسيقى، من تاجر أسماك وزيوت هو برنتانو.
٣٢ وكان التاجر يغلظ لزوجته، عندما تفرُّ من زيوته
وأسماكه إلى صداقة جوته، الذي كان يشرح قلبها بحديثه الحلو، ويشترك
معها في العزف على الشيللو. ثم كان أنْ منع برنتانو، في ثورة من
الغيرة، زوجته الشابة من لقاء جوته نهائيًّا. فانطلقت قصته الأليمة
مع شارلوته وقصته الأليمة مع ماكسميليانه، من قلبه إلى الورق،
وظهرت التحفة الخالدة «آلام فرتر»، في خريف ١٧٧٤م. ونجحت الرواية
نجاحًا منقطع النظير، وأصبح جوته أديبًا مشهورًا، وأصبح اسمه على
كل لسان، وجاء الأدباء والنقَّاد يسعون إليه. وأُصيب الجيل بمرض
«فرتر-لوته» واتبع نفر من الشباب مثل فرتر حتى في الانتحار.
هنا راودت جوته أحلام العبقرية. وجد نفسه بين المشاهير وأحسَّ
بذلك إحساسًا واعيًا، كأنه كان يتوقَّعُه. وجدَ نفسه مثلًا بين
عالم الفراسة المشهورة لافاتر، والمُصلح التربوي الذائع الصيت باسيدو
٣٣ فكتب يقول:
بين لافاتر وباسيدو
جلست إلى المائدة فرحًا بالحياة،
أنبياء عن يمين، وأنبياء عن شمال،
وابن الدنيا في الوسط.
والمعاصرون له يحكون عنه أنه كان في ذلك الوقت ذا
شخصية جذَّابة، إذا تحدَّث أخذَ حديثُه بالألباب، إذا قرأ شيئًا
يعبِّر عن الخوف أشاعَ الخوف في أبدان السامعين، حتى ارتعدوا بحق.
كان على حدِّ قول معاصره الشاعر هاينزه:
Heinse «من أم رأسه إلى أخمص
قدمه عبقرية وعنفًا وقوة، كان قلبًا مليئًا بالإحساس، وروحًا
مليئًا بالنار، له أجنحة النسور …» لهذا نجده في هذه الفترة يعود
إلى التاريخ، يلتمس فيه مثلًا له بين الآلهة والعظماء، بين ذوي
القوة الخارقة، والإرادة النافذة المذهلة، بين العباقرة. فيجد
«بروميتويس
Prometheus»
٣٤ فينصب نفسه «تيتانا»
Titan عملاقًا فحسب، بل ربما
أشد منه، ويحاجُّه، ويعانده، ويرفض أن يعترف به، ويقول موجِّهًا
الكلام إليه:
أما أنا فأقعد هنا، أشكِّل بشرًا
على صورتي،
وأمة، تشبهني،
تتألم وتبكي،
وتتمتَّع وتفرح،
ولا تبجلك
مثلى.
في هذا الوقت أيضًا خرجت مسرحية «محمد» التي ظلَّت
شذرة لم تتم، واكتملت مسرحية فاوست في الصياغة الأولى
Urfaust أما قصة «مقتطفة محمد»
فيحكيها جوته في الكتاب الرابع عشر من «أدب وحقيقة».
فيقول ما معناه إن الإنسان الممتاز به قبَس من الربانية يودُّ لو
ينشره في العالم، ولكن العالم يقف في وجهه، فيتحتم عليه — لكي
يؤثِّر فيه — أن ينازله. ولكنه لا يلبث أن يستسلم لِما في العالم
من نواحٍ سامية، ويزيد في الاستسلام شيئًا فشيئًا حتى يصبح
الاستسلام كاملًا. وهكذا تتقمَّص العناصر الربانية، السماوية،
الخالدة، هيئة المساعي الأرضية. فإذا وصلت إلى هذه المرحلة انجرفت
في تيار المصائر الدنيوية الفانية … ثم يقول إنه بحثَ في التاريخ
عن مثل لهذا الإنسان الممتاز، فوجده في النبي محمد (عليه الصلاة
والسلام)، وكان قد درس حياته دراسة مستفيضة؛ وأنكرَ ما كان يُروَّج
عنه في الغرب في ذلك العصر من أكاذيب، وبدأ يرسم خطةً لمسرحية تدور
حول محمد الإنسان الممتاز، وهو يحاول نشر ما أوتيه من ربانية،
مبتدئًا بالاقتناع ببعثته أولًا، ثم منتقلًا إلى نشرِ ما آمن به
ثانيًا. وربما نختلف مع جوته في فكرته عن نتيجة تصارع الاتجاهات
الربانية، والاتجاهات الدنيوية، في تطوير الأفكار والنوايا
والمعجزات المحمدية. ولكننا على أية حال نفرح لاهتمام أديب ألمانيا
الأكبر بالثقافة الإسلامية، وبصاحب الرسالة المحمدية.
وأما فاوست في صياغتها الأولى فتضطرب أيضًا بهذا البحث عن
الإنسان الممتاز، الإنسان السامي، وتذهب في «التيتانية» إلى مساواة
الإنسان الممتاز هذه المرة بالشيطان، وإلى دفعه إلى البحث عن حقيقة
الكون. التي لا يعلمها إلا الله. وهذه المسرحية، تتسم بأهمية هائلة
من نواحٍ عديدة، من ناحية المذهب الفلسفي، أو ما يُسمَّى بنظرية
المعرفة على وجه التحديد؛ حيث يتخذ الكاتب موقفًا مُحدَّدًا من
العلم بمعناه الحقيقي، ومن ناحية المذهب الفني، في سعي جوته إلى
تحديد قيمة الكلمة، والتفريق بين العبارة المُلقاة على عواهنها،
والعبارة التي تضم فكرة بعينها دون سعة أو ضيق، ومن ناحية الدين؛
حيث يفرق بين الإيمان العميق — أو على الأقل الإيمان عن سذاجة —
والرياء. وقد وضع جوته في مأساة فاوست — اعتبارًا من صيغتها الأولى
— قدراته الفنية كلها، وإمكانياته الأسلوبية بأسرها، وأفكاره
جميعها. فلا عجب أن نراه طوال حياته، يشتغل بهذا العمل، بين تعديل
وتوسيع وتطويل وإضافة. إنه فِكر إنسان، وفِكر أمة.
وفي مطلع عام ١٧٧٥م تعرف جوته على ليلي (بكسر الياء) شونيمن،
٣٥ وكانت في السابعة عشرة من عمرها، وكانت تنحدر من أسرة
وجيهة، وأحبها حبًّا شديدًا، وكتب فيها وعنها ولها الكثير من
الشعر. وتطوَّر الحُبُّ إلى خِطبة. ولكنها كانت خِطبة فاشلة من أول
يوم لها. كانت عائلة ليلي تجد الشاب دون المستوى المطلوب. كان في
نظرها صعلوكًا لا يجيد حِرفة ولا يمتلك مالًا. وكانت أسرة جوته ترى
أن الصبية من مستوى لا يتناسب مع تقاليدها، صبية من الطبقة
الراقية، طبقة المرفهين، لن تندمج في حياة آل جوته، وكانوا من
أبناء (البورجوازيين) الذين صنعوا أنفسهم بجدهم، فلا ينبغي أن ننسى
أن جدَّ جوته الأول كان بيطارًا،
٣٦ وأن جدَّه كان خيَّاطًا ثم صاحب حانة كالفندق والمطعم.
واضطربت الأمور بين الخطيبَين، وكان جوته، بما فيه من العبقرية
المتأجِّجة بعنصرَيها، فردًا متفرِّدًا لا يحب أن يُقيِّد نفسه
بقيدٍ مثل قيد الزواج، حتى مع أجمل وأكرم البنات. فانصرف إلى رحلةٍ
قادَتْه إلى سويسرا، لزيارة لافاتر. وبثَّ انفعاله بالطبيعة،
وحنينه إلى ليلي شعرًا رائعًا. وردَّه الحنين إلى ليلي إلى داره،
وفي الطريق مرَّ بشتراسبورج وتعرف بالطبيب الهانوفري تسيمر من
٣٧ الذي شهد فيما بعد بأنه رأى مخطوط فاوست، على نحو ما
سنفصِّله في موضع آخَر. ورأى جوته عند هذا الطبيب صورة ظلية
(سيللويت) للسيدة فون شتاين، فلفتت نظره وجذبت انتباهه، إلى أن
لقيها في فيمار،
٣٨ وارتبط بها برباط الصداقة المتين الخصب. ولما عاد جوته
إلى فرنكفورت، أثقل على ليلي، حتى صعب الأمر على عائلتها، وتقرر
فسخ الخطبة. وانتهت قصة الحب بفراق أليم. وقد ظهر أثر ليلي في
إنتاجه، في مسرحية «شتيلا»
٣٩ التي ألَّفَها في ذلك الوقت، ثم ظهر مرة أخرى في ملحمة
«هرمن ودورتيا»
٤٠ التي كتبها بعد سنين، وخلَّد فيها محنة ليلي عندما
اضطرت، على أثر قيام الثورة الفرنسية، إلى الهرب مع زوجها،
وأولادها الخمسة من شتراسبورج، متخفيةً في زي امرأة من الفلاحين.
كذلك ظهرت ملامح منها في شخصية «كليرشن» في مسرحية «إجمونت».
٤١
بهذا تنتهي الرحلة الفرنكفورتية الثانية وتبدأ المرحلة الفيمارية
الأولى. قلنا إن جوته بلغ شهرةً جعلت اسمه على كل لسان، وجعلته
محطَّ اهتمامِ الأدباء والعظماء. وكان من بين مَن اهتموا بجوته
اهتمامًا كبيرًا الأمير كارل أوجست
٤٢ (وُلد عام ١٧٥٧م وتُوفي عام ١٨٢٨م)، الذي لقيه من قبل
مرتين، ووجَّهَ إليه الدعوة لزيارة فايمار، حاضرة إمارته وكانت
فايمار تضم باقةً من الأدباء والمتأدبين والمفكرين، منهم الأديب
الألماني الشهير «مارتن فيلاند»، والناقد «كارل لودفيج فون كنيبل»،
و«هيلدبرانت فون أينزيدل» صاحب مؤلفات ومترجمات مسرحية، و«زيجموند
فون، زيكند ورف» الذي ترجم «فرتر» إلى الفرنسية، و«بوده» الذي ترجم
سموليت وفيلدنج وستيرن وجولد سميث إلى الألمانية، وغير هؤلاء.
٤٣ وكان البلاط يحفل بسيدات نابهات من الأميرات
والوصيفات، وعلى رأسهن الأميرة الأم أنَّا أماليا
٤٤ (١٧٣٩–١٨٠٧م) شابة في سن السادسة والثلاثين. ووصيفتها
السيدة شارلوته فون شتاين (١٧٤٢–١٨٢٧م) في الثالثة والثلاثين.
والمعتقد أن جوته ما كان ليبقى في فايمار الفقيرة، لو لم تكن
السيدة فون شتاين بها، تلك السيدة التي ارتبط بها برباط حب قوي،
حتى قبل أن يراها.
والحديث عن المرحلة الفايمارية الأولى لا بد أن يتشعَّب إلى
شعَب، منها وصف الإمارة ومهمة جوته السياسية الإدارية بها، ومنها
تفصيل قصة حب جوته للسيدة فون شتاين، ومنها النشاط الأدبي والنشاط
العلمي الذي اقتطع له جوته رغم مشاغله جانبًا من وقته، ومنها أيضًا
التمهيد للمرحلة التالية، مرحلة الرحلة الإيطالية.
كانت فايمار في الوقت الذي نزلها فيه جوته، مدينة صغيرة، أقرب
إلى القرية منها إلى المدينة، يعيش فيها ٦٠٠٠ نسمة، أما الإمارة
بأكملها فكانت تُعد وإمارة إيزناخ
٤٥ معًا، ٩٠٠٠٠ نسمة. وقد وصف هردر فايمار وصفًا طريفًا
قائلًا إنها: «وسطٌ مسكين بين مدينةٍ ذات بلاطٍ وقرية»، كان أهلها
فقراء يحترفون الزراعة والتعدين والأعمال اليدوية البسيطة، ولا
يربحون مما يحترفون، إلا ربحًا قليلًا. وكانت تدير دفة الحكم.
الأميرة الأم أنا أماليا بصفتها وصية على ابنها، ثم زوَّجَت ابنها
صغيرًا من الأميرة لويزة فون هسن-دار مشتت.
٤٦ وألقت أعباء الحُكم عليه، في عام ١٧٧٥م، عندما أتمَّ
الثامنة عشرة. أما زواجه بالأميرة لويزة — التي اعتاد جوته أن يشير
إليها باسم «الملاك» — فلم يكن سعيدًا، لاختلاف طَبْعَيهما،
وكثيرًا ما صوَّر المعاصرون «الملاك» وهي تجلس وحيدة، لا تشترك في
حديث، ولا تخرج برأي. وأما أعباء الحُكم فقد نجح في تحمُّلها، بفضل
استعانته بجوته، واعتماده عليه اعتمادًا كليًّا وجزئيًّا. والحقُّ
أن جوته، نزل فايمار في أول الأمر ضيفًا، وأنه كان يظن أن مقامه لن
يطول إلا كما يطول مقام الضيف. وإذا به يرتبط بالأمير الشاب الغرير
العنيف المتهوِّر، ارتباطًا وثيقًا، ويصبح صديقه الحميم، وراح
الاثنان يسرفان في اللهو والشرب ومعاكسة البنات والصخب حتى ظنَّ
الحاضرون والغائبون أن نهاية الأمير اقتربت، وأن جوته سيزج به إلى
الهاوية لا محالة. من ذلك ما كتبه يوهان هاينريش فوس
٤٧ إلى عروسه في ١٤ يوليو ١٧٧٦م: «تسير الأمور في فايمار
على نحو مُفزِع. الأمير يجري في القُرى مع جوته كالشاب المتهوِّر
الهائج، فيسكر معه ويلهو … وقد تجرَّأ أحد الوزراء فنصح الأمير بأن
يترك هذا السرف محافظةً على صحته، فردَّ عليه الأمر قائلًا: بل
عليك أن تفعل مثله لتقوِّي صحتك.» كذلك جزع الأديب الكبير كلوبشتوك
(صاحب ملحمة المسيح)
٤٨ وكتب إلى جوته من هامبورج — وبُعدُ هامبورج السحيق عن
فايمار يؤكِّد أن خبر المصيبة ملأ الديار من أقصاها إلى أقصاها —
يقول: «إن الأمير إذا استمرَّ في السُّكر إلى حدِّ الإصابة بالمرض،
فلن يقوِّي بالخمر جسمه كما يقول، بل سيقع، ولن تطول حياته …
ولعلَّ الأميرة تكتم الآن حزنها … ولكن حزنها سيستحيل إلى كمد …
وهل من سبيل إلى كتمان كمد لويزة …؟» فما كان من جوته إلا أن ردَّ
عليه بقوله: «لا تثقل علينا في المستقبل بمثل هذا الخطاب، يا
كلوبشتوك العزيز …»
ولكن هذه الحياة الماجنة التي اشترك فيها الاثنان الأمير وصفي
الأمير اعتدلت وأتت الفكرة بعد السكرة، كما يقولون. وفي ١١ يونيو
عام ١٧٧٦م فوجئ البلاط بالأمير يُعيِّن جوته مستشارًا وعضوًا في
مجلس الإمارة المُكوَّن من أربعة مستشارين، والذي يدير دفة الحكم
في الإمارة، مثل مجلس الوزراء، ويرفعه بعد ٣ سنوات إلى درجة الوزير
(ويطلب له من القيصر يوزف الثاني رُتبة النبلاء، عام ١٧٨٣م، وأصبح
يُسمَّى «فون» جوته) وكان على جوته أن يصرف شئون الدولة المالية
والاقتصادية والإدارية والثقافية، بل والسياسية، وإنْ ظلَّت
السياسة في أغلب الأحوال من صنع الأمير وحده. وقد أحسن جوته القيام
على هذه الأمور كلها وطوَّر المناجم خاصة، وأصلح الزراعة، ونصح
الأمير وكبح جماحه فلم يستبد كما فعل أقرانه. وشجَّع الفنون
والفنانين، وشجَّع أهل الفِكر والأدباء، ومنهم هردر الذي استدعاه
وكلَّفه بالشئون الدينية في الإمارة، وخاض معه في أحاديث علمية
بالغة الفائدة، وقد نوَّهْنا من قبلُ إلى أن هردر كان عظيم
الاهتمام بالآداب القديمة ومنها الأدب العربي، وأنه وجَّه جوته
شابًّا في شتراسبورج إليه، فدرس ما استطاع إلى الدرس سبيلًا. وقد
وصلتنا على سبيل المثال ترجمة قامَ بها جوته في عام ١٧٧٢م للآيات
من ٧٤ إلى ٧٩ من سورة الأنعام، نقلًا عن ترجمة ماراسيوس اللاتينية،
تؤكِّد أن دراسة جوته للقرآن لم تكُن من قبيل القراءة العابرة.
فهذه الآيات تعتبر أساس الإيمان الحنيف:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ
أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي
إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ
مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ
اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ
قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا
رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ
قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ
الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى
الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ
فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ
لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا
أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ كذلك وصلتنا من المرحلة
الفايمارية ترجمة لجزء غير صغير من معلقة امرئ القيس (نقلًا عن
ترجمة وليام جونس
٤٩ الإنجليزي) التي مطلعها:
قِفا نبكِ من ذِكرَى حبيبٍ ومنزلِ
بسقط اللِّوَى بين الدخول فحَوْمَلِ
لعلنا لا نخطئ الحُكم إنْ أرجعنا هذا الاهتمام المستمر بالثقافة
الإسلامية والعربية إلى الأديب الناقد النشيط هردر الذي عجَّل جوته
بدعوته إليه.
كان جوته في ميدان السياسة الخارجية للإمارة يرى أن الخير في
بقاء الإمارة مستقلة عن الدولتين الألمانيتين المتصارعتين، دولة
الشمال، بروسيا، ودولة الجنوب، النمسا. وكان يرى أن تنضم الإمارات
الصغيرة، في وسط وجنوب ألمانيا معًا في حلف الإمارات، وأن تتخذ لها
تمثيلًا مشتركًا في مجلس الرايخ، يحفظ لها استقلالها. ولكن عناصر
الموقف لم تكن في جانب سياسته، ويكفي أن نذكر أن الأميرة أنا
أماليا كانت تمت بصلة قرابة وثيقة إلى فريدريش الأكبر، ملك بروسيا
الشهير. وقد أتلف فريدريش على جوته فكرته عندما تلقَّفَها
ونفَّذَها لصالحه، فأنشأ حلف الإمارات، ولكن تحت رعايته. وكان على
الإمارات، ومنها إمارة فايمار أن تقدِّم لبروسيا مساعدات عسكرية من
الرجال والمال. والظاهر أن جوته قَبِلَ قرار الأمير الفايماري
بالانضمام لذلك الحِلف، والباطن أنه لم يقبله، وأنه حنق على
فردريش، إلى درجة الترحيب بنابليون فيما بعد سقوط بروسيا، واعتبار
حلف دويلات الراين الذي أقامه نابليون تحقيقًا لحلمه.
ونالَ جوته من أمير فايمار بيتًا ذا حديقة، كان كحال الإمارة
كلها، خَرِبًا، خاويًا، وكانت حديقته تفتقر إلى الشجر والزهر.
فأصلح من شأنه، واهتمَّ خاصةً بالحديقة، وزرع فيها الشجر والزهر،
وزرع فيها أيضًا الخضر وخاصةً الهليون (اسبرجس)، وكان أصدقاؤه
يحبون منه أن يهديهم من زرع يدَيْه. وقد بدأ جوته مرةً خطابًا
صغيرًا إلى السيدة فون شتاين بالتحية التالية: «صباح الخير
والهليون» (٣ مايو ١٧٧٧م) — والهليون نوع من الخضر محبوب جدًّا في
ألمانيا (ويُزرع هنا في مصر أيضًا، ولكنه غير منتشر بين الناس) —
أحبَّ جوته حديقته، واتخذها صِلة بينه وبين الطبيعة، وكانت الطبيعة
في ذلك الوقت «موضة» بفضل جان جاك روسو،
٥٠ وكانت ذات أهمية فلسفية في نظر جوته، بعد أن فتح صديقه
هردر له الباب إلى فلسفة سبينوزا
٥١ الواحدية؛ أي التي تقول بوحدة الوجود، أو وحدة الخالق
والمخلوق والله والطبيعة. وقد اضطر جوته بعد قليل إلى مبارحة هذا
البيت الحبيب إلى نفسه، والانتقال إلى السكنى في وسط مدينة فايمار
في بيت من بيوت المدينة، بقي فيه حتى مات. ولكنه ظلَّ يذكر «العش
الضيق»، والحديقة، ذكر المحب لهما دائمًا.
وفي فايمار التقى جوته بشارلوته فون شتاين، التي رأى صورتها عند
تسمرمن، كما أشرنا. وقد كتب تسمرمن إلى السيدة فون شتاين، بعد
زيارة جوته له، في ٢٢ أكتوبر ١٧٧٥م، خطابًا يقول لها فيه: «عرضت
على جوته في شتراسبورج صورتك الظلية، بين مائة من الصور الظلية
الأخرى. فكتب تحتها بخط يده: ما أروع أن يُؤتَى الإنسان حظ
التطلُّع إلى العالم، كيف ينعكس في هذه النفس. إنها ترى العالم،
كما هو، ولكن عن طريق الحب». ونزل جوته فايمار، وخلب الألباب
بطلعته، التي وصفها الشاعر فيلاند قائلًا:
بعينَين سوداوَيْن،
عينَين ساحرتَين ممتلئتَين بالنظرات الإلهية،
لهما قوة على القتل، وقوة مثلها على خلب الألباب.
هكذا دخل بيننا، عظيمًا رفيعًا.
ملكًا حقيقيًّا من ملوك الأرواح،
ولم يسأل أحدٌ: مَن هذا؟
فقد أحسسنا من النظرة الأولى أنه «هو»!
وفي مايو ١٧٧٦م كتبت السيدة فون شتاين إلى تسمرمن
تقول: «إن جوته يُحدث هنا انقلابًا كبيرًا. فإن استطاع أن يعيد
النظام أيضًا، كان في ذاك خير لعبقريته. من المؤكَّد أن فِكره
طيِّب، ولكنَّ له شبابًا مسرفًا في الضخامة، وخبرة مسرفة في
الضآلة. ولكن لننتظر النهاية!»
وكانت النهاية أن جوته أحبَّها حُبًّا عارمًا، حيَّر الألباب
قديمًا، وما زال يحيِّرها إلى يومنا هذا. وأعظم ما قاله هو عنها
«إنها الوحيدة بين النساء، التي صبَّت في قلبي حُبًّا أسعدني.»
كانت عندما رآها لأول مرة، في الثالثة والثلاثين، وكان هو في
السادسة والعشرين، كانت متزوجة منذ أحد عشر عامًا وكانت أمًّا
لسبعة أولاد، ولم تكن رائعة الجمال، ولكنها كانت رشيقة القد ذات
عينَين سوداوَين واسعتين، وشَعر أسود، وبشرة سمراء كبشرة أهل
إيطاليا. كانت تجمع بين الرقة والصلابة، وبين القلق والحُكم
الصائب، كانت امرأة ذات تأثير، وذات إرادة، وذات قيد. كتبت إلى
جوته تقول: «لقد أصبحَتِ الدنيا حبيبة إلى نفسي، بفضلك، وكنت قد
سلختُ نفسي عنها. قلبي يلومني. وأحسُّ أني أتسبَّبُ لك ولنفسي في
العذاب. كنت قبل نصف عام مستعدة للموت، أما الآن فلم أعُد كذلك …»
وأحبَّت السيدة فون شتاين جوته حبًّا يجمع بين الغرام وبين الرغبة
في كبح جماحه وبين دفعه إلى الأمام إلى حيث مستقبله، حبًّا يجتهد
في أن يصفو، وفي أن يتجرَّد عن النفع الذاتي. ولعلَّ عنصر «كلفها
بكبح جماحه». هو أهم عنصر في علاقتها به، ويبدو أن جوته أحسَّ أن
هذا العنصر هو بالضبط ما ينقصه، وأيقن أن هذه المرأة هي الوحيدة
القادرة عليه. في ٦ مارس عام ١٧٧٦م كتبت السيدة فون شتاين إلى
تسمرمن تقول له: «منذ ساعات كان (جوته) عندي، وصارحته بأني أتمنى
لو استطاع أن يتخلَّص من جزءٍ من تهوُّره ذلك الذي يجعل الناس هنا
يسيئون تقديره …» وتضيف بعد ذلك تفصيلات هامة قائلة: «في قلبي
أشياء كثيرة كثرة عجيبة لا بد أن أقولها لهذا «اللا إنسان». ليس من
الممكن أن يشق طريقه في الدنيا بهذا السلوك …» وقد بذلت ما قدرها
عليه حبها — والخطاب الذي استشهدنا به ينطق به، وإلا فما يدفعها
إلى الكتابة معجلة بعد زيارة جوته لها بساعات فقط؟! — بذلت، ما
قدرها عليه حبها لتقوم معوجة، وقد اعترف لها جوته بجميلها، وظلَّ
حتى مات يذكره لها. وهذه الأبيات من قصيدة له كتبها إلى الصديقة،
إلى السيدة فون شتاين، في أبريل ١٧٧٦م، توضِّح جوانب العلاقة
الفريدة:
لقد استطعتِ قراءة مضموني بنظرة واحدة،
أنا الذي يشق على عين البشر أعظم المشقة النفاذ إلى
أعماقي.
وقطَّرتِ اعتدالًا على دمي الساخن
وقوَّمْتِ المشي المتهوِّر الضال.
وبين ذراعي الملاك عاد
الصدر المُحطَّم إلى الهدوء.
… … … …
أية سعادة تُساوي سعادة تلك الساعات النعيمة
التي كنتُ فيها مرتميًا إلى قدميكِ مُمتنًّا لكِ!
وفي ٨ مارس ١٧٨١م نرى جوته يكتب إلى السيدة فون
شتاين: «وأكملي حسناتك، ودعي كلَّ رباط الحب والصداقة والضرورة
والعاطفة والعادة يربطني بكِ ربطًا يتزايد كلَّ يوم
وثوقًا.»
هذا ما كان من شأن جوته وشارلوته فون شتاين. وكانت ثمرته شعرًا
كثيرًا رائعًا، وخبرة هائلة في دراسة النفس الإنسانية ستظهر في
أعمال الفترة التالية، وميلًا إلى الاعتدال اتخذ في الفن ما نستطيع
أن نسمِّيه بداية الكلاسيكية. وبهذا الاعتدال نقترب من المرحلة
التالية. على أنه ينبغي علينا قبل الانتقال إلى مرحلة تالية أن
نشير إلى الرحلات التي قام بها جوته في المرحلة الفايمارية الأولى
(١٧٧٥–١٧٨٦م) وأهمها الرحلة الأولى إلى الهارتس
٥٢ «جبال ألمانيا الوسطى» من ٢٩ نوفمبر إلى ١٦ ديسمبر
١٧٧٧م مع الأمير كارل أوجست والحاشية، تلك الرحلة التي اشتهرت
بأغنية جوته «رحلة الشتاء إلى الهارتس» ورابسودي من تصنيف برامس.
ثم الرحلة السويسرية
٥٣ من منتصف سبتمبر ١٧٧٩م إلى منتصف يناير ١٧٨٠م مرافقًا
للأمير، تلك التي شحنت وجدان الشاعر كالرحلة الهارتسية بانطباعات
عن الطبيعية، والتي قادته في طريق العودة إلى زيارة بلاط شتوتجارت
وحضور حفل توزيع الجوائز على خريجي الأكاديمية العسكرية في ١٥
ديسمبر ١٧٧٩م، وفيهم فريدريش شيلَّر، الطالب الثائر والأديب الفذ
صاحب مسرحية «قطاع الطريق»، ثم إلى زيارة فرنكفورت ورؤية الوالد
والوالدة، ثم إلى زيارة شتراسبورج — بمفرده — ولقاء فردريكه بريون،
وليلي وللاطمئنان عليهما راحة لضميره، والوقوف على قبر أخته
الوحيدة والبكاء عليها.
أثمرت هذه المرحلة الفايمارية الأولى شعرًا غنائيًّا كثيرًا،
وقصائد مناسبات عديدة، وعددًا من التمثيليات التي تحيا بها
الحفلات، ومسرحيات منها مسرحية من فصل واحد هي «أخ وأخت» (١٧٧٦م)
وانتصار الوجدانية (١٧٧٨م) والطيور (١٧٨٠م) والصياغة النثرية من
إفيجينيه (١٧٧٩م)، وأجزاء من مسرحية «إجمونت» ومسرحية «تاسو» وكتاب
«فيلهلم ما يستر».
٥٤ ولكن روح الشاعر والعالم الأصيل ما لبثت أن ثارت على
تضييعه الوقت أكثر الوقت في تدبير أعمال الدولة، وموازنة
الميزانية، وتجريد الجيوش، والبحث في أعمال التجارة والزراعة
والصناعة. ثارت روح جوته الأصيلة، فقد كان يرى الأعمال الكبيرة في
أدراجه ناقصة ولا يجد الوقت لإتمامها، وكان يحس رأسه تعجُّ بأفكار
في علوم الجيولوجيا والطبيعة والتشريح والإنسان وغيرها ولا يستطيع
تتبُّع إلا القليل منها. وهكذا بدأت نية الهروب تختمر في نفسه، حتى
جاء يوم ٣ سبتمبر ١٧٨٦م، فنفَّذ النية، وانطلق من «كارلسباد»، حيث
كان يستجم، إلى إيطاليا كالهارب، يتلفَّت وراءه خشية أن يلحق به
مَن يحمل إليه أمرًا بالعودة.
وهكذا انتهت المرحلة الفايمارية الأولى وبدأت مرحلة «الرحلة
الإيطالية» (١٧٨٦–١٧٨٨م) بدأت انطلاقة جوته إلى تلك البلاد الدافئة
التي كثيرًا ما حدَّثَه أبوه عنها، وأراه صورًا لها فيما كان يقتني
من صور وكتب، بدأت انطلاقة جوته إلى أرض الثقافات القديمة، أرض
الكلاسيكية، أرض العظمة الساكنة والبساطة الرفيعة (كما يقول عنها
فنكلمان).
لم يبلغ جوته السيدة فون شتاين بعزمه على السفر، فغضبت عليه
غضبًا أفسد علاقتهما إفسادًا تبيَّنَ بالزمن أنه لا سبيل إلى
إصلاحه، بمعنى إعادة العلاقة إلى ما كانت عليه. ولو صحَّت النظرية
التي أوَّلْنا بها علاقة جوته بالسيدة فون شتاين، يكون السبب
الوجيه، هو أن جوته كبر، وتعقَّل، واعتدل ولم يعُد به حاجة إلى
لجام السيدة فون شتاين، ولم يعُد بالسيدة فون شتاين حاجة إلى كبح
جماح قد كبح. وكانت غيبة جوته بتصريح من الأمير، وكانت نوعًا من
الإجازة الطويلة، الإجازة الدراسية، كتب في مذكراته وهو في الطريق
يقول: «ما أعظم ما تسعدني طريقتي في النظر إلى الدنيا! وما أعظم ما
أتعلَّم كلَّ يوم …! ولما كنت بغير خدم، فقد أصبحتُ صديق الدنيا
كلها. كل شحاذ يردُّني إلى الصواب! وأنا أتكلم مع كل الذين
يصادفونني كما لو كنا نعرف بعضنا بعضًا منذ زمن طويل … وربما كان
هردر على حق عندما قال عني: إنني طفل كبير وإنني سأظل دائمًا كذلك.
وأنا الآن مسرور لأنني أستطيع أن أتبع، دون عقاب أو لوم، كياني هذا
المتسم بالطفولة».
وآتته رحلته الطويلة التي استمرَّت عامين بخبرات كبيرة. عرف
«الشمس» الدافئة وقال: «الشمس تطلع دافئة، والإنسان يعود إلى
الإيمان بإله». وتطلَّع إلى التل الذي تقبع فيه مدينة بوتسن
٥٥ وهو يفيض بنور الشمس، ليسجِّل في مذكراته: «أنا مهتم
الآن بالانطباعات الحسية، الانطباعات التي لا يوصلها إليَّ كتاب أو
رسم، أنا أسعى إليها حتى أعود إلى الاهتمام بالعالَم، وحتى أجرِّب
قدرتي على الملاحظة، وأتبيَّن مقدار علومي ومعارفي، وما إذا كانت
عيني منيرة وصافية ونقية، وإلى أي مدى …» وعرف البحر لأول مرة.
عندما وصل البندقية كتب يقول: «هكذا كتب في كتاب القدر على صفحتي،
أن أرى البندقية لأول مرة في يوم ٢٨ سبتمبر في الساعة الخامسة مساء
بتوقيتنا … وهكذا لم تعُد البندقية، بحمد الله، كلمة مجرَّدة
بالقياس إليَّ، واسمها طالما أرَّقَني، أنا الذي أناصب الكلمات
الجوفاء منذ الأزل عداء الموت …» وفي المساء ركب جندولًا وسرى في
ضوء القمر على صفحة الماء، وقد اتخذ أحد المُغنِّين مقعده على طرف
الجندول، واتخذَّ زميل له مقعده على الطرف الآخَر، وراح
المُغنِّيان يتبادلان الغناء، ويذكِّران جوته بتاسو
٥٦ وأريوستو
٥٧ وعرف جوته البركان، واقترب من فيزوف وهو ثائر يريد أن
يستزيد ويملأ حسَّه ونَفْسَه بمشهد الحمم الثائرة. وعرف روما،
المدينة الخالدة، وتعلَّق بها قلبه، حتى لم ينصرف عنها، إلا كمَن
ينسلخ عن جلده. في ١٤ ديسمبر ١٧٨٦م كتب يقول: «منذ نزلت روما، وأنا
أتطلَّع دون تعب إلى كلِّ معالمها وأملأ بها فِكري …» وفي ٢٥ يناير
١٧٨٨م كتب إلى الأمير كارل أوجست: «عندما أتيت إلى روما لأول مرة،
لاحظت بعد قليل، أنني في الحقيقة لم أكُن أفهم شيئًا في الفن،
وأنني كنت حتى ذلك الحين لا أُعجَب إلا بالانعكاس العام للطبيعة في
الأعمال الفنية، فطلَّعَتْ عليَّ هنا طبيعة أخرى، وانفتح أمامي حقل
الفن الفسيح …»
واجتمع لجوته إلى جانب هذه الخبرات، مجموعة من الخبرات العلمية
في ميادين منوَّعة، فمنها ما كان في علوم الآثار، ومنها ما كان في
علم طبقات الأرض، ومنها ما كان في علوم الطبيعة، إلى آخِر ذلك.
واتصل جوته اتصالًا وثيقًا بمجموعة من الفنانين، يمارسون الفنون
التشكيلية خاصة، مثل الرسام فيلهلم نيشباين، والرسام هاينريش ماير،
والمثال تريبل
٥٨ (الذي نحت تمثالَين نصفيين من المرمر لجوته حظِيَا
بشهرة كبيرة). وكان من حُسن حظ جوته أنِ التقى بالسيدة أنجيليكا كاوفمن
٥٩ (ألمانية متزوِّجة من الإيطالي تسوكي) التي صاحبته إلى
متاحف التصوير. وقد أدَّى اشتغال جوته بالفنون التشكيلية ومخالطته
الفنانين التشكيليين أنْ فكَّرَ جديًّا في احتراف التصوير، وجرَّب
ريشته، فانتهى إلى أنه لن يصل في التصوير إلى أكثر مما يمكن أن يصل
فيه الهواة، فتوقف.
انتفع جوته من رحلته انتفاعًا كبيرًا، يحلو له أن يسميه «مولدًا
جديدًا». في خطابه إلى الأمير كارل أوجست في ٢٥ يناير ١٧٨٨م
(استشهدنا بموضع آخَر منه) يقول: «كان الهدف الرئيسي لرحلتي من
ناحية أنْ أعالج نفسي من ألوان البلاء الجسماني والنفسي التي
عذَّبَتْتي في ألمانيا وجعلتني في النهاية غير ذي نفع، ومن ناحية
ثانية أنْ أروي ظمئي الشديد إلى الفن الحقيقي. وقد وُفِّقتُ في
أغلب الناحية الأولى، ونجحتُ في الثانية كلها نجاحًا كاملا.» وأتيح
لجوته الوقت والفراغ لإتمام مسرحيته «إفيجينيه» شعرًا، وإتمام
مسرحية «إجمونت» نثرًا (١٧٨٧م) وكذلك مسرحية «تاسو» (١٧٨٧–١٧٨٩م)،
وعاد جوته بمجموعة كبيرة من المذكِّرات استند عليها في تأليف كتابه
«الرحلة الإيطالية»،
٦٠ وعاد بأفكار علمية وفلسفية ستشغل باله فترة طويلة من
الزمن. عندما رجع جوته إلى ألمانيا بعد رحلته الإيطالية، أو بعد
مولده الجديد، كان إنسانًا آخَر، زاد عُمقًا، ونضجَ في بوتقة
الكلاسيكية. وقد تمَّ تحوُّله هذا بسرعة أدهشت معارفَه جُلَّهم،
وجعلتهم يقفون في حيرة أمام فنِّه الجديد، مضمونًا وقالبًا. فما
أعظم الفرق بين الروح العاصفة في «آلام فرتر» وبين الروح العظيمة
الساكنة البسيطة الرفيعة في «إفيجينيه».
وفي ١٨ يونيو عام ١٧٨٨م عاد جوته إلى فايمار ليبدأ المرحلة
الفايمارية الثانية من حياته الحافلة (١٧٨٨–١٨٣٢م). وتمتلئ هذه
المرحلة بنشاط من نوع يختلف عن نشاط المرحلة الفايمارية الأولى.
فقد طلب جوته من الأمير كارل أوجست تخفيف الأعباء عن كاهله،
والاكتفاء بإسناد الشئون الثقافية والفنية والعلمية إليه. فتولَّى
إدارة مسرح البلاط الفايماري وأحسن القيام عليها، وتولَّى الإشراف
على جامعة يينا
٦١ فجعلها واحدة من البيئات العلمية الرائدة في ألمانيا
كلها، واجتذب إليها فلاسفة مثل فيشته، وهجل وشيللنج، واجتذب إليها
نفرًا من العلماء البارزين والأدباء المُهمِّين (برنتانو، تيك، فوس مثلًا).
٦٢
وعكف جوته على بحوث علمية فلسفية، كان قد بدأها في إيطاليا، بل
قبل ذلك، وسار فيها لا سير العالم والفيلسوف فحسب، ولكن سير الفنان
أيضًا أو قبل ذلك. له أبحاث في البصريات، وخاصة في الألوان، يبدأ
معالجتها من عرض جمال الألوان وسحرها الذي يزداد في الربيع ثم يأخذ
بطرف من نظرية نيوتن في ألوان الطيف واستحالتها إلى الضوء الأبيض،
ويشرح وجهة نظره في تكون الألوان من تضادِّ الفاتح والغامق وتعكُّر
الضوء الأبيض. وكان جوته يعقد أهمية كبرى على بحوثه في البصريات،
ويوليها درجة أعلى من أعماله الأدبية. وما يزال هناك مِن العلماء
في العصر الحاضر مَن يدرسون آراء جوته، ويستفيدون بنواحٍ
منها.
كذلك أنشأ جوته علمًا جديدًا، أسماه علم المورفولوجيا، أي علم
الشَّكْل، ويبحث هذا العلم في شكل النبات والحيوان ونشأته. وكان
جوته قد فكَّر وهو في صقلية أثناء رحلته الإيطالية في النباتات
كظواهر متأخرة، وراح يبحث عن الظاهرة الأولى التي تطوَّر منها،
وتوصل إلى أن الجزء الخضري من النبات أصله واحد، وهو الورقة، وأن
هذه الورقة تحوَّرَت وتعدَّدَت، وخرجت من الظاهرة الأولى البسيطة،
ظواهر كثيرة متعدِّدة. هذه الورقة هي أول ما وجد، ومن الورق
تفرَّعَت أعضاء التذكير والتأنيث التي تضمها الزهرة مثلًا، حتى
يكون هناك بقاء. قانون الطبيعة هو إذَن: كائن أول بسيط تنشأ عنه
الكائنات العديدة المنوعة بطريق التحوير. ولا ينطبق هذا القانون
على النبات فحسب، بل ينطبق على الحيوان كذلك، هناك الحيوان الأول
الذي تحوَّر إلى الأنواع الكثيرة التي نراها. هذا التحوُّل يتم
تدريجيًّا، خطوةً بعد خطوة، في تسلسل متماسك، لا يسمح بطفرة،
«فالطبيعة لا تبلغ ما تريد صناعته إلا في تسلسل، ولا تنطلق في
قفزات، فلا يمكن أن تُنشئ الطبيعة حصانًا مثلًا، إلا إذا سبقه حشد
الحيوانات الأخرى كلها، التي تتسلق عليها إلى هيئة الحصان،
تسلُّقًا شبيهًا بتسلُّق السلم درجةً بعد درجة.» وكان الرأي عن
جوته أن عالم النبات وعالم الحيوان متصلان، ولعله لو أوتي ما بين
يدي العلماء آلاف من معدات، لتوصَّلَ إلى الخلية، واعتمد عليها في
تأكيد نظريته عن وحدة الخليقة. وتكتمل نظرية جوته المورفولوجية،
بقانون القطبَين، الذي يعتبر وجود قطبين متقابلين متضادين، شرط
الحياة وشرط استمرارها، لا بد من الصالح والطالح معًا، والقوي
والضعيف، والدافئ والبارد، لا بد من الشهيق والزفير معًا، لا بد من
الذكر والأنثى معًا.
ابتلع النشاط العلمي الفلسفي أعظم وقت الشاعر، وانتهى إلى الورق
في صورة كتابات علمية، وفي صورة قصائد، وكمنَ في وجدانه المُبدِع
ليندمج في المؤلفات القادمة. وليس معنى هذا أن جوته لم يكتب أدبًا
بعد عودته من إيطاليا، فقد كتب قصيدة «تحور النبات»
٦٣ ومثلًا كتب «إيليجيات رومانية»،
٦٤ ومسرحيات خفيفة مثل مسرحية «الهائجون».
٦٥
عندما رجع جوته من إيطاليا في عام ١٧٨٨م عاد ليعيش في عزلة، فقد
فشل في إعادة علاقته بالسيدة فون شتاين على ما كانت عليه، وفضل هو
أن يبتعد عن الأضواء، وأن يتأمَّل. وقد أحسَّ أصدقاؤه القُدامى
بأنه بعد أن أقام في إيطاليا عامين، تغيَّرَ وأصبح لا يصلح
لفايمار، وأصبح حزينًا، يحنُّ إلى الرحيل، ويهفو إلى روما. وأحسَّ
هؤلاء الأصدقاء أيضًا أنه أصبح إنسانًا غريب الأطوار. حتى التقى
جوته بكرستيانه فولبيوس،
٦٦ وربط نفسه بها، فزاد نفور الأصدقاء منه، وكتب هردر إلى
زوجه يقول إنه يغضب لهذا التصرُّف من جانب جوته أكثر مما يدهش له،
ويبدي هردر أسفه مؤكدًا أنه شخصيًّا لا يمكن أن يسمح لنفسه بشيءٍ
من هذا بأية حالٍ من الأحوال (٢٨ مارس ١٧٨٩م). فما هي هذه العلاقة؟
ومن هي كرستيانه فولبيوس؟
كان جوته في حديقة بيته، بعد عودته من إيطاليا بأربعة أسابيع،
فتقدَّمَت إليه صبية فقيرة بسيطة توشك أن تكون أمية تعمل في مشغل
لصناعة الزهور الصناعية، في الثالثة والعشرين من عمرها
(١٧٦٥–١٨١٦م) بطلب من أجل أخ لها، فنظر إليها ورأى ضالته:
لاحَتْ لي بنتٌ سمراء، شعرُها
يتدلَّى غزيرًا داكنًا على جبينها
وخصائله القصيرة تلتف حول جِيدها الرقيق
وغير المضفور منه ينفض عند الفرق ويرتفع.
هكذا وصفها في الإيليجية الرومانية الرابعة.
ودعاها إلى التردُّد عليه، وملاقاته في حديقته، ثم أخذها وأختها
وقريبة لها إلى بيته، ولم يستطع أن يُعلن زواجه بها، خوفًا من لوم
البلاط، فما كان للوزير أن يتزوَّج من بنتٍ أمِّيةٍ وضيعةِ الأصل،
لا تعرف من العلم إلا «فك الخط»، ولا تستطيع حتى مجرَّد نُطق أسماء
مؤلَّفات الأديب الكبير نُطقًا صحيحًا. ولكن جوته أراد أن ينعم على
يدَيها بالهدوء، وأن يوفِّر على نفسه مشقة الحياة مع رفيقة تقف منه
موقف الند للند (ربما بعد يأسه من السيدة فون شتاين، وكانت ذات علم
وأدب وحُكم صائب وذوق رقيق). وقد نال ما أراد؛ فقد وجد امرأةً
تناديه أمام الناس ﺑ «يا صاحب السعادة»، وتُحسن إعداد المائدة،
وتلزم الصمت عندما يتلو عليها أعماله، وتجتهد في الارتقاء بنفسها
ما استطاعت، وتمثِّل أمامه — في صحوها ونومها، في جدِّها وهزلها —
الطبيعة النضرة. وقد ظلَّت نِعم الرفيقة حتى ماتت في عام ١٨١٦م،
وكان جوته قد تزوَّجَها شرعيًّا قبل ذلك بعشر سنوات، بعد أن
وهبَتْه ابنًا — أوجست — وكبرَ هذا وبلغ السابعة عشرة، وبعد أن
أظهرت شجاعة كبيرة في الذَّوْد عنه أيام هجوم الجنود الفرنسيين
الثائرين على بيت جوته.
في عام ١٧٨٩م قامت الثورة الفرنسية وتوالت أخبارها على فايمار،
فاستقبلها البعض مرحِّبِين (هردر وكنيبل وفيلاند مثلًا). واستقبلها
جوته حانقًا أشدَّ الحنق، ووصفها بأنها أبشع حدث، فقد كان كما
عرفناه في دراساته المورفولوجية، مُحبًّا للتطوُّر، كارهًا رافضًا
للطفرة والثورة. كان يرى أن النظام الطبيعي هو أن يكون هناك حاكم
ومحكوم، وأن يظلَّ كلٌّ في مكانه، يؤدِّي دوره. وخشي على فرنسا من
الفوضى، ومن الاضطراب ومن شيوع الفظاعات والمذابح. ولما تجمَّعَت
الملكيات الأوروبية لنجدة الملكية الفرنسية المغلوبة، كان على
فايمار أن تُسهم بنصيب. وهكذا أتيح لجوته في عام ١٧٩٢م الاشتراك في
الحرب، ومعرفة معناها ومبناها.
وحضر جوته معركة فالمي التي انتهت بالفشل، وجعلته يكوِّن مفهومًا
آخَر عن الثورة الفرنسية يتمثَّل في جُملته المشهورة. «من هذا
المكان، ومن هذا اليوم يبدأ عصرٌ جديد في تاريخ العالم.»
وقد ظهر أثر الثورة الفرنسية في مؤلَّفات جوته في الحال وفيما
بعد. فأما ما ظهر من أعماله في التوِّ فنذكر منه حملة فرنسا وحصار ماينتس،
٦٧ ثم مسرحية قائد المواطنين
٦٨ (والمواطنون اسم أتت به الثورة الفرنسية بدلًا من اسم
الرعية)، وأما ما ظهر فيما بعد فنذكر منه ملحمة هرمن ودوروتَيه
(١٧٩٦-١٧٩٧م) التي ذكرنا في هذه الدراسة أن الدافع المباشر لها كان
ما نَمَا إلى عِلم جوته من أن صديقة صباه ليلي اضطرت إلى الفرار من
شتراسبورج مع زوجها وأولادها، أمام الزحف الفرنسي.
وفي ١٧٩٤م أخرج جوته قصة الثعلب راينكه،
٦٩ التي ترجع في أصلها إلى العصور الوسطى — وربما إلى قبل
ذلك — في صورة جديدة، أخرجها مُنصِتًا إلى دافعٍ في نفسه دفعَهُ
إلى التفكير في أخلاق الناس وسلوكهم، وخاصةً بعد أن شهدت فرنسا ما
شهدت من أحداث. وقد قال جوته عن هذه القصة: إنها عملٌ صدرَ عن
اضطرابه وحيرته في سنوات الثورة الهائجة. كذلك أخرج ما أعاد صياغته
من فاوست وأسماه «فاوست، شذرة».
٧٠
قضى جوته أيام المرحلة الفايمارية الثانية إلى أن بدأت صداقته
الوطيدة بشيلَّر في فايمار لم يغادرها إلا إلى رحلة قصيرة إلى
روما، وأخرى إلى بولونيا في عام ١٧٩٠م، بالإضافة إلى مرافقته
الأمير مرتين إلى معارك ضد الثورة الفرنسية، وقضائه عدة أيام في
زيارة عائلية في فرنكفورت.
أما الصداقة الوطيدة بين جوته وشيلَّر، فقد بدأت عام ١٧٩٤م.
وشيلَّر هو شاعر الكلاسيكية الألمانية الثاني، صاحب المسرحيات
الرائعة (قطاع الطرق ودون كارلوس وفيلهلم تل، وماريا ستوارت وعذراء
أورليان وفالنشتاين … إلخ)، والقصائد البديعة، والدراسات التاريخية
(والجمالية) الممتازة. وُلد هذا الشاعر عام ١٧٥٩م (ومات في عام
١٨٠٥م) ورآه جوته في ديسمبر ١٧٧٩م دون أن يلتفت إليه، في حفل توزيع
الجوائز على خريجي الكلية العسكرية في شتوتجارت، فلم تكن تلك فرصة
تعارُف أدبي، وأنَّى لذلك أن يحدث ولم يكُن شيلَّر قد أتمَّ
مسرحيته الأولى قطاع الطرق. ومرَّت السنوات، وتطوَّر كلٌّ في
طريقه، وتأكَّدَ تباعدٌ في الطريقَين، كان شيلَّر يأخذ على جوته
«تدللـه» و«ترفُّهه» وكان جوته لا يجد في إنشاء شيلَّر إلا سكرة
صبا عاصف، تجاوزه هو وكبر عليه. في خطاب كتبه إلى كورنر في ١٢
أغسطس ١٧٨٧م يقول: «يتميَّز جوته وحزبه جميعه هنا (في فايمار)
باحتقار فلسفي متكبر لكل تأمُّل، وبنوعٍ من السذاجة الفنية في
عقلهم …» وفى ٧ سبتمبر عام ١٧٨٨م حدث أول لقاء بين جوته وشيلَّر في
حضور السيدة فون شتاين، ولكنه كان لقاءً أقرب إلى التكلُّف منه إلى
التقارُب، ولكنه أثمرَ، على أية حال، اهتمام جوته بشيلَّر، وعمله
على تعيينه أستاذًا للتاريخ في جامعة يينا (١٥ ديسمبر ١٧٨٨م)، في
منصب أستاذ خارج الهيئة، لا يتلقى راتبًا. فلم يكُن لشيلَّر في ذلك
رضاء تام. ولم يحدث تقارب كبير. ظلَّ شيلَّر ينكر من أمر جوته
الكثير. في أول نوفمبر عام ١٧٩٠م كتب إلى كورنر
٧١ يقول: ولست أحبُّ فلسفة جوته حبًّا كاملًا: إنها تستمد
الكثير من عالم الحواس، بينما أستمده أنا من العقل. وتفكيره — بصفة
عامة — له طريقة مسرفة في الحسية، مسرفة في اللمس (في تقديري) ولكن
فِكره يعمل وينقِّب في كل الاتجاهات، ويسعى إلى إنشاء كل متكامل،
وهذا ما يجعله في نظري رجلًا عظيمًا. واستمرَّت العلاقة على هذا
النحو، إلى يوم ١٤ يوليو من عام ١٧٩٤م، حيث انعقدت جلسة جمعية
البحوث الطبيعية في يينا، ونشبت مناقشة بعدها بين جوته وشيلَّر حول
نظرية التحوُّر، وكان رأي شيلَّر أن «النبات الأول» الذي يقول به
جوته، ليس «خبرة» بل «فكرة». وأحسَّ الرجلان أنهما لازمان أحدهما
للآخَر، جوته بقوة انطباعاته الحسية، وشيلَّر بقوة أفكاره العقلية،
جوته بواقعيته وشيلَّر بمثاليته. وقد كتب شيلَّر إلى جوته خطابًا
في ٢٣ أغسطس ١٧٩٤م له أهمية كبيرة لأنه يرسم صورة رائعة لعبقرية
جوته، ولأنه يحض الشاعر الذي توقَّف عن الإنتاج على العودة إلى
النشاط. في هذا الخطاب يقول شيلَّر: «في حدسك الصائب كل شيء، وفي
شكل أكمل بكثير مما يسعى إليه التحليل. ولكن لما كان كل شيء يمكن
فيك ككل متكامل، فإن ثروتك في هذه الناحية تظل متوارية؛ لأننا لا
نعلم للأسف، إلا ما نظهره … إنك تأخذ الطبيعة كلها في مجموعها
لتنال ضوءًا تُلقيه على مفرداتها. وإنك تبحث في تكامل أنواع
ظواهرها عن العلة التي تفسِّر كل فرد من أفرادها». وفي ٣١ أغسطس
١٧٩٤م أيْ بعد مرور أسبوع واحد على الخطاب السابق، يكتب شيلَّر إلى
جوته قائلًا:
«وإني لآمل أن نسير ما بقي من طريقنا معًا، ولآمل أن يكون في ذلك
نفع أكبر، فإن رفاق السفر الذين يلتقون متأخِّرًا بعد رحلة طويلة
يكون لديهم بقَدْر التأخُّر ما يحكيه بعضهم للبعض الآخَر.» وقد
تحقَّق هذا الأمل. وبدأ تعاونٌ وثيق بين العملاقين، وعاد جوته إلى
النشاط، أو على حدِّ قوله وُلد من جديد، وأنتجَ طائفة من أروع
روائعه.
بدأ جوته من عام ١٧٩٤م استجابةً لرجاء شيلَّر في نشر قصص من نوع
ألف ليلة وليلة في مجلةٍ أخرجَها شيلَّر أسماها «دي هورين»
٧٢ (على اسم ربات الفصول عند الإغريق). وفي السنتين
التاليتين أخرج جوته كتابه الشهير «سنوات تعلُّم» فيلهلم مايستر
٧٣ وهو رواية تدور حول التربية والثقافة (من نوع إميل،
لجان جاك روسو — فيما بعد: هاينريش الأخضر للأديب السويسري كيللر،
والتربية العاطفية للأديب الفرنسي فلوبير، ولعبة الكريات الزجاجية
للأديب الألماني هرمن هسه). وألَّف قصائد أسماها «طرائف فينيسية»
لمجلة «موز نألماناك»
٧٤ التي أخرجها شيلَّر، عام ١٧٩٦م. وفي عام ١٧٩٧م ملحمة
هرمن ودرروتيه التي كان شيلَّر يعتبرها ذروة الأدب الألماني كله.
وفي عام ١٧٩٧م نفسه اشترك مع شيلَّر في تأليف أشعار «الحكم»،
ونشرها في مجلة شيلَّر «موز نالماناك» على العام نفسه. ثم جاءت
مسرحية الابنة غير الشرعية
٧٥ في عام ١٨٠٣م، وكان المفروض أن يتبعها جوته
بمسرحيَّتَين على النهج نفسه، لتكتمل ثلاثية، ولكن ذلك لم يحدث،
فلم تتم سوى الابنة غير الشرعية. وعمل جوته بجدٍّ في مسرحية عمره
فاوست، وقد تناول الصياغة الأولى لفاوست وعدَّل فيها وبدَّل،
واقتطف منها جزءًا، نشره باسم فاوست، شذره في عام ١٨٠١م. وكان من
خيرة ثمار المنافسة بين جوته وشيلَّر مجموعة من القصائد القصصية الرائعة.
٧٦
وفي ٩ مايو عام ١٨٠٥م فقدَ جوته وهو في منتصف العقد السادس من
عمره، صديقه العظيم شيلَّر، أثقل عليه مرضه الرئوي، حتى أهلكه.
وجزع جوته أشدَّ الجزع وقال: «لقد ضاعَ مني بضياعه نصفُ وجودي …»
وحكى هاينريش فوس في خطاب له، أن المقرَّبين من جوته أسقط في يدهم،
ولم يعرفوا طريقة لإبلاغ جوته نبأ وفاة صديقه، وكان جوته في ذلك
الوقت مكتئبًا، يبدو مُكفهِرًّا باكيًا كأنما كان يحس بيد القدر
تقترب من نصف كيانه. وتشجعت زوجه كرستيانه، وأبلغته أن شيلَّر مريض
جدًّا، فحزن ولم يشُكَّ في شيءٍ. وفي اليوم التالي سألها عن شيلَّر
الذي قالت له بالأمس إنه مريض جدًّا، وضغط على كلمة «جدًّا»،
فانفجرت باكية، فسألها: لقد مات؟ فردت عليه: لقد قلتها بنفسك! فرفع
يديه إلى وجهه وغطَّى عينَيه وبكى.
بموت شيلَّر بدأت شيخوخةُ جوته. وكان المرض قد حلَّ به، أصابه
مرض الحمرة في وجهه، والمغص الكلوي من حصوة، واشتدَّ به مرةً حتى
أوشك على الموت، هذا بالإضافة إلى ترهُّل مظهره نتيجةً للسمنة،
وسقوط أسنانه الأمامية. وأكثر من التردُّد على الحمَّامات، وخاصةً
حمَّام «كارلسباد»، فأفاده ذلك بعض الفائدة. لكن الشيخوخة لم
تتمكَّن من عقل جوته المنتج إلا من فترات متقطِّعة، وظلَّ يؤلِّف
حتى اختطفه الموت.
كانت المدة بين موت شيلَّر وموت كرستيانه، مدة مليئة بالأحداث
الصاخبة الصعبة، فبعد موت شيلَّر بعام، خلع القيصر الألماني فرانتس
الثاني تاجه، وخسرت بروسيا معركة يينا، وتبع الهزيمة تعرُّض فايمار
للنهب والسلب والتخريب، وكان بيت جوته من بين البيوت التي انتهك
الجنود السكارى حرمتها، وأوشك هؤلاء أن يبسطوا أيديهم إلى جوته
نفسه، لولا أنْ تدخَّلَت كرستيانه بهمة غليظة ودافعت عنه. وقد دفع
تصرُّف كرستيانه الشجاع جوته إلى أن يتزوجها علنًا أمام الكنيسة،
وكان ابنه منها، أوجست، آنذاك في السابعة عشرة. وقد تبع محنة
الهزيمة، موت الأميرة الأم في عام ١٨٠٧م، حزينة على إمارتها، التي
أصبحت ذليلة تحت سيطرة الغاصب «نابليون»، وكان على الإمارة أن تطيع
وأن تمد نابليون بكل شيء حتى بالجنود ليتم فتوحاته. ثم في عام
١٨٠٨م ماتت أم جوته دون أن يتمكَّنَ من رؤيتها قبل وفاتها. ثم
تلَتْ تلك الأحداث تحرُّكات الأمة الألمانية في مناطق عديدة
لمناهضة الغاصب، حتى اشتعلت نار حروب التحرير عام١٨١٣م.
كذلك أثقلت على جوته الشيخ خبرة غرامية عجيبة، فقد ترك لقلبه
العنان فتعلَّق بمينا (مينشن) هيرتسليب
٧٧ وهي ربيبة الناشر فرومن في يينا، وكانت في السابعة
عشرة — أي في سن ابنه أوجست — وظنَّ أنها تُبادله حبًّا بحُبٍّ،
حتى تبيَّن في عام ١٨٠٧م أنها إنما تنظر إليه نظرة الحفيدة إلى
جدها، وأن قلبها معلَّق بشاب من الوجهاء، فحزن أشدَّ الحزن. وكتب
في حبه هذا وفي حزنه شعرًا جميلًا خاصةً في قالب الصونيت.
على أن هذه الفترة شهدت إنتاجًا عظيمًا. في عام ١٨٠٨م نشر مأساة
فاوست في صيغتها النهائية، التي نعرفها اليوم باسم الجزء الأول،
والتي حفزه شيلَّر على إتمامها. وفي عام ١٨٠٩م أخرج مسرحية باندورا.
٧٨ وفي العام نفسه أخرج روايته «التبادلات المزدوجة»
٧٩ التي نقل فيها ظاهرة التبادلات المزدوجة المعروفة في
الكيمياء إلى مجال العلاقات بين الناس، وعلاقات الحب خاصة. وفي
العام نفسه بدأ يكتب سيرته الذاتية «من حياتي. شعر وحقيقة»،
٨٠ ونشر الجزء الأول عام ١٨١١م، والجزء الثاني في العام
التالي. والجزء الثالث بعد عامين أيْ في عام ١٨١٤م. أما الجزء
الرابع فقد عمل فيه في هذه الفترة أيضًا ولكنَّه حبَسَه عن النشر
لتعرُّضه لأشخاص على قيد الحياة، ولم ينشر الجزء الرابع إلا في عام
١٨٣٣م. كذلك بدأ تصنيف كتابه الرحلة الإيطالية، عن رحلته الشهيرة
التي تعرَّضْنا لها، وانتهى منه في عام ١٨١٦-١٨١٧م.
ونظرة على مؤلفات الفترة التالية لعام ١٨٠٩م تبيَّن أن جوته بدأ
يحس بنضوبِ مَعِينِه الإبداعي، وأنه راح يحكي تاريخ حياته، وفي
حكاية تاريخِ الحياةِ الذاتية هربٌ من الواقع أو الحاضر من ناحية،
وفيه من ناحية ثانية اعتقادٌ بحلول الشيخوخة. ولكن الشاعر ذا الحظ
السعيد مرَّ بخبرة غرامية جديدة أعادت له شبابه، أو أعادت مولده —
كما كان يحب أن يقول — وفجَّرَت فيه ينبوع الابتكار، وكانت ظروف
الحياة القاسية التي صورناها في إيجاز، قد دفعته إلى التفكير في
النهاية، والتعجيل بإتمام «التبادلات المزدوجة»، باعتبارها العمل
الختامي، أو حُسن الختام. أما الخبرة الغرامية التي ردَّتْه إلى
الحياة النشيطة، فهي حبه لماريانه
٨١يونج، وما ارتبط بهذا الحب من رحلة الخيال إلى
الشرق.
في عام١٨١٢م ترجم المستشرق النمساوي الشهير يوزف فون هامر بورجشتل
٨٢ «ديوان محمد شمس الدين حافظ» الشاعر الفارسي الفذ،
الذي يجمع في شعره بين الصوفية والحسية، بين الشيخوخة في الأفكار
والشباب في الميول والأفعال … وقرأ جوته الديوان في ربيع عام
١٨١٤م، وتصادف أن قام — بعد تحرُّر الأراضي الألمانية من الفرنسيين
وعودة السلام — برحلة إلى المنطقة حول فرنكفورت، مسقط رأسه، ومرتع
شبابه، والتقى بالحبيبة. فتحوَّلَت هذه الخيوط الكثيرة إلى نسيج
رائع هو الديوان الشرقي للمؤلِّف الغربي، (أو الديوان الغربي الشرقي)
٨٣ الذي يحتل المكان الثاني في الأهمية بين مؤلفات جوته
كلها، بعد فاوست.
تعرَّف جوته على ماريانه (١٧٨٤–١٨٦٠م) الفنَّانة الحسَّاسة ذات
الفؤاد الرقيق والحس المرهف، والوجدان المتأجِّج بالإبداع، في بيت
صديقه رجل المال الفرنكفورتي يوهان فون فيلِّيمر، وكانت ماريانه في
بيته، كربيبةٍ له، ثم ما لبث أن تزوَّجَها بعد زيارة جوته بقليل،
وكانت في الثلاثين، وكان هو في الرابعة والخمسين. وكان بين جوته
وماريانه لقاءات، وكان بينهما مداعبات، ومباريات في قرض الشعر،
وكان بينهما حب كبير، تبعه فراق. وأرَّق الفراق الشاعر الولهان،
كما أضجَّ الحب مضجعه من قبل، ثم أتى موت كرستيانه زوجه، وأشاع
الانقباض حول، ولم يكن يفرِّج عنه إلا البريد الذاهب بأخباره إلى
الحبيبة، أو الآتي بأخبارها إليه. وظلَّت الصلة قائمة حتى مات
الشاعر وهو مخلص لها. كان دائمًا يذكر ماريانه، وكان من خواتيم
أعماله أنه ردَّ إليها خطاباتها قبل موته بأسابيع قليلة ومعها
قصيدة حب وتقدير.
والديوان الشرقي للمؤلف الغربي، مُقسَّم كديوان حافظ إلى أبواب
أو كتب، هذا للحب وهذا للحكمة وذاك للخمر إلى آخِر ذلك، ولكنه
يعتبر كُلًّا متكاملًا: رحلة إلى الشرق والإسلام بكل ما في الشرق
والإسلام من نواحٍ تجذب الشاعر الغربي، حتى ينتهي إلى الجنة ذات
الحور العين، ويلتمس الدخول من الحورية الواقفة على الباب ويجري
هذا الحوار:
الحورية
:
اليوم أقوم بالحراسة
أمام باب الفردوس
ولست أعرف كيف أتصرَّف معك.
فإنك تثير فيَّ الشبهة!
فهل أنت ترتبط بأتباعنا من المسلمين
أيضًا برباط قرابة صحيحة؟
هل جهادك وسعيك
يوصلك إلى الفردوس؟
أتعد نفسك من هؤلاء الأبطال؟
فأرِني جراحك
التي تبيِّن لي أعمالًا مجيدة
وأنا أدخلك.
الشاعر
:
لا داعي للكثير من التعقيدات!
دعيني أدخل؛
فقد كنت إنسانًا
وهذا يعني أني كنت مجاهدًا.
وخرج الديوان في عام ١٨١٩م. وعلم الناس أن شخصية حاتم فيه هي
شخصية جوته، ولكنَّ أحدًا لم يعرف مَن تكون زليخا، حتى كشفت
ماريانه قبل وفاتها بعام واحد السر لهرمن جريم، وعرف منذ
الحين.
ماتت كرستيانه في عام ١٨١٦م وبدأت الحقبة الأخيرة من حياة الشاعر
الكبير. كانت شهرته قد ملأت ألمانيا، وأوروبا كلها خاصة، وكان
المعجبون يرسلون إليه الخطابات من كل مكان. وكان كثيرون يأتون
لزيارته، حتى ضاق بهم، وأغلظ لمَن كان يعرفه منهم. وبدأ يعد طبعة
نهائية لأعماله كاملة ليحفظها للإنسانية. وكانت أعماله قد تُرجمت
إلى اللغات الأوروبية. وحاول جوته أن يعيد جوَّ الحياة العائلية
إلى بيته، فدفع ابنه أوجست إلى الزواج، فتزوَّج عام ١٨١٧م من
أوتيليه فون بوجفيش (١٧٩٦–١٨٧٢م)، ورُزق جوته بأحفاد فالتر (وُلد
عام ١٨١٨م، ومات دون أن يتزوج عام ١٨٨٥م بعد أن أحسن القيام على
تَرِكة جده وأهداها إلى ولاية فايمار، كما أهدى أرشيف الأسرة إلى
الأميرة زوفيه، أميرة ساكسونيا) وفولفنج (وُلد عام ١٨١٩م، ومات دون
أن يتزوج عام ١٨٨٣م) وألما (ماتت عام ١٨٤٤م).
٨٤ ولكن زواج الابن لم يكن سعيدًا ولم يخلق لجوته الجو
العائلي الذي تمنَّاه، وإنْ أسعدَه بالأحفاد. فقد كان ابن جوته
يدمن السُّكْر، وكانت زوجه حادة الطبع مسرفة.
وظلَّ جوته يشرف على الثقافة في فايمار، ويهتم بالمسرح خاصة،
ويخرج مجلة «الفن والثقافة القديمة»، ويكتب في «مجلة العلوم
الطبيعية عامة، والمورفولوجيا خاصة». ويضع أسس الرصد الجوي كعلم،
وينظم الشعر مثل «كلمات أورفية أصلية»
٨٥ (أورفية، نسبة إلى المغنِّي الإغريقي القديم أور
فيوس). وكان جوته يتردَّد للاستشفاء على الحمَّامات، مثل حمَّام
كسارلسباد وحمَّام مارينباد.
٨٦ وهناك التقى بالصغيرة أولريكة فون ليفيتسو
٨٧ وهامَ بها، وكانت في الثامنة عشرة، وكان هو قد تجاوز
السبعين، وفكَّر في الزواج بها، ولكن ابنه نهَرَه، فبقي حُبُّه لها
بلا أمل! واجتمع له إلى ذلك اتصاله بالبولونية سيمانوفسكا
٨٨ التي كانت تهيم به وتعزف له موسيقى البيانو لتخفِّف
عنه ما به. واجتمع له أيضًا احتفاله بمرور خمسين عامًا على ظهور
روايته «آلام فرتر». فأنشأ «الثلاثية العاطفية» (١) إلى فرتر (٢)
إيليجية مارينباد (٣) صلح
٨٩ التي كان لا يتلوها إلا اغرورقت عيناه بالدموع.
وتناول جوته مادة سنوات تجوال فيلهلم مايستر
٩٠ وظلَّ يعمل فيها ويغيِّر حتى فرغ من الصيغة الأولى عام
١٨٢١م، ثم أتمَّ الكتاب في الصياغة النهائية عام ١٨٢٩م. وإذا كان
موضوع سنوات تعلُّم فيلهلم مايستر هو تعليم فرد، فإن موضوع سنوات
تجوال فيلهلم مايستر هو تعليم الإنسانية كلها. والتطوُّر الذي
يرسمه طريق فيلهلم مايستر في ابتكار الشاعر، هو تطوُّر فلسفة
الشاعر نفسه، من فردية إلى قومية، إلى إنسانية؛ فقد كان جوته الشيخ
يحرص على أن يكون بعمله ملكًا للإنسانية كلها، لا لنفسه، ولا لأمته
فحسب.
وفي سنة ١٨٢٨م أتمَّ «الأقصوصة».
٩١ وفي عام ١٨٣٢م أتمَّ الجزء الثاني من مأساة فاوست.
٩٢ تلك المسرحية التي ظلَّت ستين عامًا تشغله، والتي
صوَّر فيها الإنسان وعلاقته بالدنيا والآخرة، وبالله وبالشيطان،
وبالملائكة والأرواح، وعبَّر فيها عن أفكاره في موضوعات شتى. في
الفلسفة: إذ يرى أن الله في الكون، لا خارج عنه، وأن الله يظهر في
الطبيعة إذ تتبدَّى لنا، وأنه ليس ربًّا شخصيًّا منفصلًا عن
الطبيعة. وهو في هذا يتأثَّر بسبينوزا في الدين؛ إذ يؤمن برب ويؤمن
ببعث وآخرة، ولكنه لا يقف عند حدود المسيحية، التي ينزل عليها بنقد
شديد، بل يتجاوزها إلى عناصرها من الأديان السماوية وغير السماوية،
يجمعها في باقة منسجمة هي دينه الذي يؤمن به.
وفي منتصف شهر مارس عام ١٨٣٢م أُصيب جوته بنزلة برد واعترته رعشة
وحُمَّى وآلام في الصدر وضيق. وكانت أوتيليه زوج ابنه أوجست (الذي
مات قبل أبيه بعامَين تقريبًا) ترعاه، وتقوم على أمره مستعينةً
بخادمٍ له يُدعى هاينريش. وقد شهد الاثنان بأن جوته قال لهما:
افتحا مصراع شباك الحجرة الآخَر، حتى يدخل مزيد من النور، وأن
«مزيد من النور» كانت آخِر عباره قالها. وفي ٢٢ مارس من عام ١٨٣٢م
قرب الظهر انثنى جوته في ركن كرسيه الوثير ولفظ أنفاسه الأخيرة،
مات بعد حياة حافلة دامت اثنين وثمانين عامًا، أنتج فيها ما رفعه
إلى الصف الأول من العظماء. وشاهد قبره يحمل سطورًا كتبها عام
١٨١٤م تقول:
صبيًّا، كنت عزوفًا عنيدًا
شابًّا، كنت مغرورًا مبهورًا
رجلًا، كنت للأعمال مريدًا
شيخًا، كنت ذا طيش ورعونة!
وعلى شاهد قبرك سيقرأ الناس:
أنك كنت بحق إنسانًا.
في ختام عرضنا لحياة جوته نبرز مراحلها مخططة حتى
تكون بمثابة الهيكل الذي نتصوَّر حوله أحداث حياته وأعماله:
-
المرحلة الفرنكفورتية الأولى: من ١٧٤٩م إلى
١٧٦٥م.
-
المرحلة اللايبتسيجية: من ١٧٦٥م إلى ١٧٦٧م.
-
المرحلة الاشتراسبورجية: من ١٧٧٠م إلى ١٧٧١م.
-
المرحلة الفرنكفورتية الثانية: من ١٧٧١م إلى
١٧٧٥م.
-
المرحلة الفايمارية الأولى: من ١٧٧٥م إلى ١٧٨٦م.
-
المرحلة الإيطالية: من ١٧٨٦م إلى ١٧٨٨م.
-
المرحلة الفايمارية الثانية: من ١٧٨٨م الى ١٨٣٢م.