حول مسرحية «نزوة العاشق»
تتسم هذه المسرحية القصيرة بأهمية كبيرة من ثلاثة وجوه: فهي أولًا المسرحية الأولى في الترتيب الزمني بين مسرحيات جوته، وهي ثانيًا المسرحية الرعوية الوحيدة التي بقيت حتى الآن تغالب الزمن، وتمثِّل نوع المسرحية الرعوية كما عرفه القرن الثامن عشر، وتجد لها جمهورًا يحتفي بها، وهي ثالثًا مسرحية منبثقة من ينبوع شرقي، هو ألف ليلة وليلة.
وقبل أن نبحث في أوجُه أهمية هذه المسرحية نستعرض أحداثها. «نزوة العاشق» مسرحية في فصل واحد وتسعة مشاهد، أشخاصها أربعة: أمينة وصديقها إريدون، وإيجله وصديقها لامون. إريدون يحب أمينة حبًّا شديدًا، ولكن الغيرة تستبد به إلى أقصى درجة، فلا يقبل أن يدعها تذهب إلى الرقص، الذي لا يحس بميل إليه، وكيف يمكن أن يتركها ترقص، والرقص لا يكتمل إلا براقص رجل يشترك مع البنت في تأدية الحركات؟ كان إريدون لا يتصوَّر أن شابًّا غيره يمكن أن يمسك أمينة من يدها، ولا يتصوَّر أن تكون أمينة الجميلة مَحطَّ أنظار الشباب المعجبين. وكان تفكيره في ذلك يحزنه أشد الحزن، ويدفعه إلى نزوات غضب يوشك أن يقترب من الجنون. وبلغ تعسُّفه مداه عندما فرض على أمينة فرضًا أن تجتنب الرقص وأن تكره الشبان. ولم تجد أمينة لديها ما تردُّ به على هذا التعسُّف سوى الحب المخلص الذي لا ينتهي عند حد، ولكن حبها هذا لم يكن يزيد تعسُّف الحبيب إلا شدة. وتلتقي أمينة الرقيقة بصديقة لها نصوحة هي إيجله، تعرف لمحنتها حلًّا. هذه الصديقة تحب لامون حبًّا صادقًا مخلصًا يختلف عن حب إريدون وأمينة في أمر الغيرة والتجبُّر. إيجله ولامون لا يسرف أحدهما في الغيرة ولا في التجبُّر، حتى أن لامون ليغفر لإيجله إن قبَّلها أحد عن غير قصد سيِّئ أو رغبة أو طلب أو لهفة منها. هذه الصديقة المرنة تعرف كيف تنقذ صديقتها من صنوف الآلام وألوان العذاب التي تذوقها على يد حبيبها الغيور المتجبِّر. فتعمد إلى إلقاء شباكها حول إريدون وإغرائه وإثارته بحب تصطنعه. وما تزال تلف حوله وتدور حتى تجعله يقبِّلها. هنالك يفيق إريدون إلى نفسه، ويعرف خطأه ويعرف ما في نفسه من ضعف أمام الإغراء، ومدى ما تستطيعه إرادته وما لا تستطيعه. وتبين بفضل إيجله أنه يعذب حبيبته المخلصة النقية بدون سبب، وأنه على الإنسان قبل أن يثقل على الآخَرين، أن ينظر إلى نفسه أولًا.
هذه هي أحداث المسرحية الرعوية القصيرة نزوة العاشق. نشأت هذه المسرحية في المرحلة اللايبتسيجية (١٧٦٥–١٧٧٧م) تعبيرًا عن فصل معيَّن في حياة جوته في هذا الوقت. وقد علمنا من عرضنا لحياته أنه مرض قبل سفره إلى لايبتسج بقليل من جرَّاء حبه لجريتشن ونهاية هذا الحب نهاية أليمة، ويصح أن نعلم الآن أنه عندما نزل لايبتسج ترك لنفسه العنان، وقسَّم وقته بين الدرس والعبث، وكان في عبثه ينحدر إلى السوء والشر في أحيان كثيرة (راجع خطابه إلى صديقه الفرنكفورتي بيريش المؤرِّخ في ٢١ أكتوبر ١٧٦٥م: «الأمور تسير هنا سيرًا لذيذًا»). واختلف إلى محاضرات الأستاذ جيللرت والأستاذ جوتشد، واضطرب في أمره، ولم يعرف ما إذا كان عليه أن يعمد إلى النثر في الكتابة دون الشعر، كما استحسن الأستاذ جيللرت، ولم يعرف إذا كان الأفضل أن يطيع قلبه أو يكره قلمه على عصيان القلب والتشكل بالقوالب، كما كان الأستاذ جوتشد يعلم، في هذا الجو المضطرب بدأ حبه لأنَّا كاتارينا شونكويف ابنة صاحب حانة من حانات لايبتسج كان جوته يختلف إليه مع رفاقٍ له بانتظام. يحكي جوته في «شعر وحقيقة» القصة: «وكنت قد نقلت حبي القديم لجريتشن، إلى إنشن (صيغة التدليل من أنَّا)، التي لا أعرف ما أقوله عنها إلا أنها كانت صغيرة وجميلة ومَرِحة وظريفة حتى أنها كانت تستحق أن تُوضَع في خزانة القلب زمنًا كقديسة صغيرة، ليكرس لها التبجيل كلَّ التبجيل، كنت أراها كلَّ يوم دون ما عائق، فقد كانت تُعين في إعداد الطعام الذي كنت أتناوله، وكانت على الأقل تأتيني مساءً بالنبيذ الذي كنت أشربه، وقد تبيَّنت الجماعة الصغيرة المقفلة التي كانت تتناول طعام الغذاء في الحانة، أن هذه الحانة الصغيرة، التي لم يكن يتردَّد عليها، باستثناء أيام انعقاد السوق، إلا القليل من الروَّاد كانت جديرة بالسمعة الطيبة التي حظيت بها. وكانت فرص التسلية والكلف بها لا تفتأ تعرض. ولكن مجال التسلية كان ضئيلًا لأن الفتاة لم تكن تستطيع ولم يكن لها أن تترك البيت قليلًا. فكنا نغني أغاني الشاعر «تساخاريا» ونؤدي «الأمير ميشيل» لكروجر ونعقد منديلًا ليمثِّل البلبل. وانقضى وقتٌ على هذا النحو لطيفًا. ولما كانت أمثال هذه العلاقات، كلما زادت براءة، قلَّ تنوُّعها بمرور الوقت، فقد تملكني ذلك الداء الوبيل، الذي يُغرينا بالتماس المتعة في تعذيب الحبيبة، والإثقال عليها بنزوات التسلُّط والطغيان. واعتقدت أن لي أن أعمد إلى غيظي من فشل محاولاتي الشعرية الأولى ومن استحالة الوصول إلى شيء واضح في أمرها استحالة ظاهرية، ومن كل ما كان ينغصُّ عليَّ من أمور، فأصبه عليها، لأنها كانت تحبني من قلبها حقًّا، وكانت تفعل كلَّ ما كانت تستطيع فعله لإرضائي. فأتلفت عليها وعلى نفسي أجمل الأيام بفصول من الغيرة السمجة التي لا تستند إلى سند. وتحمَّلَتْ هي ذلك حينًا بصبرٍ لا يمكن تصوُّر مداه، وكنتُ أنا من الفظاعة بحيث أسرفت في فعلي إلى أقصى درجات السرف. ثم كان عليَّ أن ألاحظ ما أخجلني وأنزلَ بي اليأس، ألا وهو أن روحها بعدت عني، وأني أصبحت أتحمَّل نتيجة حماقاتي التي سمحت لنفسي بها دون ما حاجة أو سبب. وحدثت بيننا مشاهد فظيعة لم أجنِ منها شيئًا، وشعرتُ لأول مرة أني أحبها حقًّا وأنني لا أطيق البُعد عنها. ونمَت عاطفتي واتخذت كل الأشكال التي يمكنها في هذه الظروف أن تتخذها. وانتهيت في النهاية إلى القيام بالدور الذي كانت البنت تقوم به من قبل. وحاولت ما استطعت أن أفعل ما يجعلها ترضى، بل حاولت أن أهيِّئ لها على يدِ آخَرين المتعة والبهجة، لأنني لم أكن أقوى على كتمان أملي في استعادتها لنفسي. ولكن الأوان كان قد فات. كنت قد فقدتها فعلًا. وأدَّت حماقتي التي دفعتني إلى الانتقام لذنبي من نفسي، وإلى القسوة على جسمي بطُرق جنونية مختلفة بغية إيذاء طبيعتي الخلقية، أدَّت إلى كثير مما أصابني من أنواع البلاء الجسمانية التي خسرت فيها عددًا من خيرة أعوام حياتي، بل لقد أشرفت على الهلاك نتيجةً لفقدانها، ولكن أنقذتني الموهبة الشعرية بما لها من إمكانيات الشفاء.
وكنت قبل ذلك قد أحسستُ في فترات متعدِّدة إحساسًا واضحًا بطريقتي القبيحة، كانت البنت المسكينة تثير الأسى في نفسي فعلًا، عندما كنت أراها أمامي جريحةً دون ما ضرورة. وطالما تصوَّرتُ حالها وحالي، وقابلته بحال اثنين من جماعتنا، وأتعبتُ نفسي، حتى لم يكن في مقدوري أن أحول بيني وبين تحويل هذا الموقف إلى تكفيرٍ قاسٍ واعظ عن ذنبي، وصياغته في مسرحية. وهكذا نشأ أقدَمُ عمل بقي من أعمالي المسرحية، المسرحية الصغيرة «نزوة العاشق»، التي يتبيَّن فيها الإنسان البراءة والعاطفة والمتأجِّجة جميعًا.»
وباكورة الإنتاج المسرحي لجوته تمد جذورها إلى ألف ليلة وليلة، وإلى قصة بها هي «قصة أمينة» بصفة خاصة. ويكفي أن نُنبِّه إلى أن نزوة العاشق كانت تحمل في الأصل اسم أمينة، ثم غيَّرَ جوته الاسم كما غيَّرَ الأصل تغييرًا شديدًا. في أكتوبر ١٧٦٧م كتب جوته إلى أخته يقول: «يبدو أن المسرحية الرعوية تهمكِ … إنني أعمل في كتابتها منذ ثمانية أشهر، ولكنها لا تريد أن تكتمل، ولست أمَلُّ من إعادة بعض المواقف مرتين وثلاثة مرات؛ لأني آملُ أن تُصبح بالزمن مسرحية جيدة، فقد صنعتُها على غرار الطبيعة متقنًا، وهذا شيء ينبغي أن ينظر إليه الشاعر المسرحي باعتباره واجبه الأول.» ولم تتم المسرحية الصغيرة الحجم إلا في أبريل من عام ١٧٦٨م. كانت عملية شاقة، عملية ضم الخبرة الشخصية، والخبرة المتعلِّمة من نموذج جيللرت، وألف ليلة وليلة.
ولا شك أن والدَي جوته كانا يعرفان ألف ليلة وليلة معرفة جيدة، خاصة أمه التي كانت، فيما علمنا، تحكي له ولأخته كلَّ يوم حكايات على طريقة شهرزاد. فلما تمكَّن من القراءة قرأها، وظلَّ طوال حياته يقرؤها ويعيد قراءتها، واهتم بطبعتها الكاملة التي ظهرت في عام ١٨٢٤-١٨٢٥م اهتمامًا خاصًّا. ومؤلفات جوته حتى فاوست تحمل آثار ألف ليلة وليلة.
ولا شك أن جوته كان في فترة وجوده بلايبتسج يفكِّر في ألف ليلة وليلة، ويهتم بها اهتمامًا خاصًّا، وكذلك بعد عودته إلى فرنكفورت. في ٣٠ ديسمبر ١٧٦٨م كتب جوته إلى كيتشن شونكويف يقول: «أنا أرسم كثيرًا، وأكتب حكايات …» وفي قصيدة «الليل» التي كتبها في ربيع عام ١٧٦٨م نفسه يقول:
فلما نظرتُ إليه مالَ قلبي له، ثم جاء وجلس. وإذا بالقاضي قد دخل ومعه أربعة شهود، فسلَّموا وجلسوا، ثم إنهم كتبوا كتابي على ذلك الشاب وانصرفوا. فالتفتَ الشاب إليَّ وقال: «ليلتنا مباركة». ثم قال: «يا سيدتي إني شارطٌ عليكِ شرطًا» فقلت: «يا سيدي وما الشرط؟» فقام وأحضرَ لي مصحفًا، وقال: «احلفي لي أنكِ لا تختارين أحدًا غيري، ولا تميلين إليه.» فحلفتُ له على ذلك ففرح فرحًا شديدًا وعانقني. فأخذَتْ محبته بمجامع قلبي، وقدَّمُوا لنا السماط فأكلنا وشربنا حتى اكتفينا … ولم نزَلْ على هذه الحال مدة شهر، ونحن في هناء وسرور. وبعد الشهر استأذنتُه في أن أسير إلى السوق، وأشتري بعض قماش، فأذنَ لي في الرواح، فلبستُ ثيابي وأخذتُ العجوز معي، ونزلت في السوق. فجلست على دكان شاب تاجر تعرفه العجوز. وقالت لي: «هذا ولد صغير، مات أبوه وخلَّف له مالًا كثيرًا» ثم قالت له: «هاتِ أعزَّ ما عندك من القماش لهذه الصبية.» فقال: «سمعًا وطاعة.» فصارت العجوز تُثني عليه فقلت: «ما لنا حاجة بثنائكِ عليه، لأن مرادنا أن نأخذ حاجتنا منه، ونعود إلى منزلنا.» فأخرج لنا ما طلبناه، وأعطيناه الدراهم، فأبى أن يأخذ شيئًا وقال: «هذه ضيافتكم اليوم عندي.» فقلتُ للعجوز: «إنْ لم يأخذ الدراهم أُعطِه قماشه» فقال: «والله لا آخذ شيئًا، والجميع هدية من عندي في قبلة واحدة، فإنها عندي أحسن ما في دكاني!» فقالت العجوز: «ما الذي يفيدك من القبلة؟» ثم قالت: «يا بنتي، قد سمعتِ ما قال هذا الشاب، وما يصيبكِ شيء إذا أخذ منكِ قبلة، وتأخذين ما تطلبينه!» فقلت لها: «أما تعرفين أني حالفة؟» فقالت: «دعيه يقبِّلك وأنت ساكنة، ولا عليكِ شيء، وتأخذين هذه الدراهم.» ولا زالت تحسِّن لى الأمر حتى أدخلت رأسي في الجراب ورضيت بذلك. ثم إني غطَّيتُ عيني، وداريت بطرف إزاري من الناس، وحط فمه تحت إزاري على خدي. فما قبَّلني حتى عضَّني عضة قوية حتى قطع اللحم من خدي فغُشي عليَّ. ثم أخذتني العجوز في حضنها. فلما أفقت وجدت الدكان مقفولة، والعجوز تُظهر لي الحزن، وتقول: «ما دفعَ الله كان أعظم!» ثم قالت: «قومي بنا إلى البيت واعملي نفسك ضعيفة، وأنا أجيء إليكِ بدواء تُداوين به هذه العضة فتبرئين سريعًا.» فبعد ساعة قمت من مكاني وأنا في غاية الفكر، واشتداد الخوف، فمشيت حتى وصلت إلى البيت، وأظهرت حالة المرض، وإذا بزوجي داخل، وقال: «ما أصابك يا سيدتي في هذا الخروج؟» فقلت له: «أنا طيبة.» فنظر إليَّ وقال لي: «ما هذا الجرح الذي بخدك، وهو في المكان الناعم؟» فقلت له: «لما استأذنتك وخرجت في هذا النهار لأشتري القماش، زاحمني جمَلٌ حامِلٌ حطبًا فشرمط نقابي، وجرح خدي كما ترى، فإن الطريق ضيِّق في هذه المدينة»، قال: «غدًا أروح للحاكم، وأشكو له فيشنق كلَّ حطَّاب في المدينة.» فقلت: «بالله عليك لا تتحمل خطيئة أحد، فإني ركبت حمارًا نفَرَ بي فوقعتُ على الأرض، فصادفني عود فخدش خدي وجرحني.» فقال: «غدًا أطلع لجعفر البرمكي وأحكي له الحكاية، فيقتل كلَّ حمار في هذه المدينة.» فقلت: «هل أنت تقتل الناس كلهم بسببي، وهذا الذي جرى لي بقضاء الله وقدره.» فقال: ولا بد من ذلك. وشدد عليَّ، ونهض قائمًا، وصاح صيحة عظيمة، فانفتح الباب، وطلع منه سبعة عبيد سُود فسحبوني من فرشي، ورموني في وسط الدار. ثم أمر عبدًا منهم أن يُمسكني من أكتافي وجلس على رأسي، وأمر الثاني أن يجلس على ركبتي ويُمسك رجلي. وجاء الثالث وفي يده سيف. فقال: «يا سيدي، أضربها بالسيف فأقسمها نصفَين وكل واحد يأخذ قطعة يرميها في بحر دجلة فيأكلها السمك. وهذا جزاء مَن يخون الإيمان والمودة.» وأنشد هذا الشعر:
ثم قال للعبد: «اضربها يا سعد.» فجرَّد السيف وقال: «اذكري الشهادة وتذكَّري ما كان لكِ من الحوائج وأوصي، فإن هذا آخر حياتك.» فقلت له: «يا عبد الخير تمهَّلْ عليَّ قليلًا حتى أتشهَّد وأوصي.» ثم رفعت رأسي ونظرت إلى حالي، وكيف صرت في الذل، بعد العز، فجرَتْ عَبْرتي، وبكيتُ … واستعطفته. وإذا بالعجوز قد دخلت ورمت نفسها على أقدام الشاب وقبَّلَتها وقالت: «يا ولدي بحق تربيتي لك تعفو عن هذه الصبية، فإنها ما فعلَتْ ذنبًا يوجب ذلك، وأنت شاب صغير، فأخاف عليك من دعائها.» ثم بكت العجوز ولم تزَلْ تلح عليه حتى قال: «عفوت عنها، ولكن لا بد لي أن أعمل فيها أثرًا يظهر عليها بقية عمرها.» ثم أمر العبيد فجذبوني من ثيابي. وأحضر قضيبًا من سفرجل ونزل به على جسدي بالضرب ولم يزل يضربني ذلك الشاب على ظهري وجنبي حتى غبتُ عن الدنيا من شدة الضرب، وقد يئست من حياتي. ثم أمرَ العبيد أنه إذا دخل الليل يحملونني ويأخذون العجوز معهم ويرمونني في بيتي الذي كنت فيه سابقًا … وتداويتُ فلما شفيت بقيت أضلاعي كأنها مضروبة بالمقارع … وجئت إلى أختي هذه التي من أبي … فلما صِرنا في هذا اليوم ولم نشعر إلا ونحن بين يديك … فتعجَّبَ الخليفة من هذه الحكاية … ثم إنه قال للصبية الأولى: «هل عندكِ خبر بالعفريتة؟» … قالت: «يا أمير المؤمنين إنها أعطتني شيئًا من شَعرها، وقالت إذا أردتِ حضوري فاحرقي من هذا الشَّعر» … فأخذه الخليفة وأحرق منه شيئًا، فلما فاحت رائحته اهتزَّ القصر وسمعوا دويًّا وصلصلة وإذا بالجنية حضرت … وقالت: «يا أمير المؤمنين. أنا أدلك على مَن فعل بهذه الصبية هذا الفِعل … إن الذي ضرب الصبية ولدُك الأمين … فتعجَّبَ … ثم … أحضر ولده الأمين وسأله عن قصة الصبية … فأخبره على وجه الحق … وردَّ الصبية المضروبة لولده الأمين، وأعطاها مالًا كثيرًا، وأمرَ أن تُبنى الدار أحسن ما كانت …»
هذه هي القصة، اختصرناها قليلًا حتى تتناسب مع روح ترجمة جالان التي عرفها جوته. أخذ منها جوته، كما يتضح لنا، الكثير. أخذ منها الاسم «أمينة» (اعتمادًا على ترجمة جالان) وساعده في ذلك أن اسم أمينة العربي يُشبه أسماء عديدة كانت المسرحيات والقصائد الرعوية تستعملها مثل «أمينته» و«أرمينه» … إلخ، واحتفظ لها من سماتها العربية ﺑ «الشَّعر الأسود»، وجعل صلب المسرحية قُبلة، كما أن صلب قصة ألف ليلة وليلة قُبلة. وجعل العاشق إريدون يجمع الكثير من صفات «الأمين» وخاصة الحُسن والعنف. على أن عُنف إريدون كان من نوع آخَر، من نوع عنف جوته مع كيتشن، عنف يقوم على التأنيب والتعذيب المعنوي.
والموضوع في جوهره هو موضوع الغيرة التي تدفع المحب ضيق الأفق، إلى نزوة التعذيب، وإلى إصابة الحبيبة بجروح، في نفسها أو في جسمها.
أمينة في نزوة العاشق تجمع في شخصيتها بين عناصر من قصة أمينة (ألف ليلة وليلة) وبين عناصر من شخصية أنا كاتارينا شونكوبف وآثار من شخصية «جريتشن» التي تحوَّلَت في وجدان جوته إلى «رمز الفتاة المظلومة». من قصة ألف ليلة وليلة أخذ عناصر تظهر في هذه الجمل «فأخذتني الرحمة والرأفة، فقلت: سمعًا وطاعة» … «فلما سمعت كلامها، ورأيت نفسي قد انحجزت في الدار، قلت للصبية: سمعًا وطاعة.» … «فحلفت له على ذلك ففرح فرحًا شديدًا وعانقني» … «استأذنته في أن أسير إلى السوق»، «ولا زالت تحسِّن لي الأمر حتى أدخلت رأسي في الجراب ورضيت بذلك» … «وكيف صرت إلى الذل، بعد العز» … «فجرت عَبْرتي، وبكيت … واستعطفته» … «فإنها ما فعلت ذنبًا يوجب ذلك» وليست الصورة التي تظهر أمينة في نزوة العاشق عليها غير هذه الصورة، وليست صورة كاتارينا شونكوبف إلا هذه الصورة أيضًا. صورة البنت المحبة، الممتثلة لنصيبها، المطيعة، المحبة في صدق، التي تفعل كل ما يمكن أن يُرضي حبيبها.
كذلك شخصية إريدون تشبه في كثير شخصية الأمين في قصة ألف ليلة وليلة وشخصية جوته في فترة حبه لأنَّا كاتارينا. فهو شخص جميل المنظر، جذَّاب، يتحايل على البنت الطيبة حتى تقع في غرامه. ولكنه يتصف بأمرين هما الغيرة والتجبُّر. الأمين يشترط على محبوبته شرطًا: «احلفي لي أنكِ لا تختارين أحدًا غيري، ولا تميلين إليه»، وجوته يغار على أنَّا كاتارينه «غيرة سمجة». كذلك إريدون يقول: «ليتني أستطيع تعويد نفسي على رؤية هذا في الرقص، يضغط على يدها، وذاك يتطلَّع إليها، ورؤيتها وهي تنظر إلى غيري. إنني لا أكاد أفكِّر في ذلك حتى يمتلئ قلبي بالغيظ فيكاد أن يتفتق.» بل ويطلب من أمينة أن تكره الآخرين جميعًا حتى يرتاح قلبه، وشخصية «إريدون — جوته — الأمين» تتجبَّر على المحبوبة وتعذِّبها. إريدون يعذِّب حبيبته، إذ حرمها من التحدُّث إلى الآخَرين، وإذ يحرمها من الرقص والغناء مع الرعاة وما تتم حياة الرعاة إلا بالغناء والرقص الجماعي، وهو يعذِّبها بالشك فيها وافتراض السوء افتراضًا، ثم التصرُّف كأنما لم يكن افتراضًا بل كان واقعًا. إريدون يقول لأمينة متهكِّمًا غاضبًا: «سوف تخلبين الأبصار. ستشعلين في قلوب الفتيان نار الحب وفي قلوب الفتيات نار الغيرة» … وإيجله تثور فيه: «ما هذه المتعة التي تجدها في تعذيب أمينة إلى هذا الحد؟ إذا كنت تظن أنها لا تحفظ العهد فاتركها، أما إذا كنت تعتقد أنها تحبك، فارضَ، ولا تعذبها.» وجوته أتلفَ على نفسه وعلى محبوبته «أجمل الأيام بفصول من الغيرة السمجة التي لا تستند إلى سند» … ويقول: «وكنت أنا من الفظاعة بحيث أسرفت في فعلي إلى أقصى درجات السرف … وحدثت بيننا مشاهد فظيعة.» أما الأمين فقد بلغ الذروة في القسوة على أمينته، ولم يتركها عندما ظنَّ أنها خانت العهد، بل أصرَّ على أن «يعمل فيها أثرًا يبقى عليها بقية عمرها … وأحضر قضيبًا من سفرجل ونزل به على جسدي بالضرب ولم يزل يضربني ذلك الشاب حتى غبت عن الدنيا من شدة الضرب.»
وبينما قصة ألف ليلة وليلة تُفرد مكانًا للعجوز، تلعب دور الشريرة وتلعب دور الواسطة ودور المنقذة، وصاحبة النصيحة، يُعطي جوته في مسرحيته نزوة العاشق إيجله ولامون دور العجوزة مجرَّدًا من الشر. إيجله تلحُّ على أمينة حتى تقنعها بضرورة تغيير موقفها من إريدون، وتلجأ للحيلة لتثبت لإريدون بالدليل الملموس أن العنف بالمحبوبة، وأن حبسها في قفص، لا يمكن أن يؤدِّي إلى تقوية الحب بل إلى هدمه، ولا إلى تدعيم الإخلاص بل إلى تقويضه. وقد اتخذ جوته في تصوير شخصيتَي إيجله ولامون صديقه «هورن» وحبيبته «كونستانتسه براينكوبف» نموذجًا له يجسِّم الحب الحق، الذي لا يسرف في الغيرة، والذي يحفظ للإخلاص قيمته.
وتدور مسرحية نزوة العاشق الرعوية في إطار نمطي لا يختص ببلد بعينه أو بمنطقة دون أخرى. يتميَّز هذا الإطار أولًا بأنه منظرٌ طبيعي عبارة عن مرعى به ما يميِّز المرعى من حيوان ونبات، ويتميَّز ثانيًا بأنه يتكلَّف الترفُّع عن الطبيعة بإضافة أشياء إلى حياة الرعاة ليست بين أيديهم على الدوام، مثل الورود الكثيرة والأزاهير الوفيرة، والرقص الممتاز، والغناء المطرب، والعزف على الناي خاصة. ويكتمل هذا الإطار بالحديث عن الحب، حديثًا لا ينقطع، ينتقل من إبراز ما فيه من نعيم إلى الحديث عما يسببه من آلام، وكثيرًا ما يستطرد إلى النصح والإشارة بالحيلة. لهذا كان هذا الإطار الرعوي محبوبًا في العصور التي لا تجد التعبير عن إحساساتها مجالًا مباشرًا، وفي الفترات من حياة الشعراء، التي يتوقون فيها إلى الفرار من الواقع إلى جوٍّ شاعري لا يخضع لما يخضع له عالَم الواقع من قيود، ولا تكون فيه المنغصات إلا كما تكون الأحلام. هذا الإطار يختلف في مكوناته المادية عن إطار «حكاية أمينة»، ولكنه يشبهه في جوهره.