الفصل الأول
حجرة صاحب الفندق
المشهد الأول
(زولَّر يرتدي معطفًا حريريًّا فضفاضًا من
معاطف التنكُّر ويجلس إلى مائدة صغيرة وأمامه زجاجة نبيذ.
زوفيه تجلس في مواجهته وتخيط ريشة بيضاء على قبعة. صاحب الفندق
يدخل. في مؤخرة المسرح منضدة عليها ريشة ومداد وورق، وإلى
جانبها كرسي وثير.)
صاحب الفندق
:
أعائد أنت إلى الرقص! إن أردتَ الصراحة يا سيادة زوج
ابنتي، لقد سئمتُ جنونك، وتمنيت لو باعدت بينك وبينها.
والحق أني لم أُعطِك ابنتي لتعيش على أموالي هذه
العيشة المستهترة. لقد أصبحت شيخًا مسنًّا، وتقتُ إلى
الراحة، وكنت أفتقر إلى معين، ألم أتخذك معينًا؟ أجمِل
بك من معين على تبديد القليل الذي عندي!
(زولَّر يغني أغنية صغيرة بصوتٍ
كالطنين.)
صاحب الفندق
:
نعم، غنِّ، غنِّ ما شئت، وسأغنِّي لك أنا أيضًا
شيئًا …! أنت صعلوك، مليء بالحمق، تلعب، وتسكر، وتدخن،
وترتكب أعمال المجانين، وتمضي الليل كله في العبث،
والنهار جله في الفراش. ليس هناك أمير في البلاد كلها
يمكن أن يعيش عيشة أجمل من عيشتك. ها هو ذا الكائن
العجيب يجلس بأكمامه الفضفاضة، كأنما هو الملك «رجل الأرنب»!١
زولَّر
(يشرب)
:
في صحتك، يا بابا!
صاحب الفندق
:
صحة لا أحسد عليها! وأنا أوشك أن أُصاب
بالحمى.
زوفيه
:
على رسلك يا أبي.
زولَّر
(يشرب)
:
تلك متعتك، يا حبيبتي.
زوفيه
:
متعة! ليتني أستطيع التوفيق بينكما مرة
واحدة.
صاحب الفندق
:
إذا لم يغيِّر ما بنفسه، فلن يحدث هذا أبدًا. حقيقة
إنني تعبت من هذا التشاجر الأبدي، ولكن ما يفعله كل
يوم يجعل من المستحيل على المرء أن يصمت! إنه رجل
قبيح، بارد، مسرف في البرود، جاحد، مسرف في الجحود.
إنه لا يدرك مَن يكون، ولا يفكِّر فيمَن كان، ولا يذكر
الفقر الذي انتشلته منه، والديون التي أحملها عنه. لا
البؤس يصلحه ولا الندم ولا الزمن، هذا شيء يراه كل
إنسان. مَن كان ذات مرة كلبًا مقيتًا، فإنه يظل إلى
الأبد كذلك.
زوفيه
:
بل سيتحسن بلا شك.
صاحب الفندق
:
فما له يؤجِّل ذلك فيطيل!
زوفيه
:
ذلك طبع الشباب.
زولَّر
(يشرب)
:
نعم يا حبيبتي، ما أعظم حبنا!
صاحب الفندق
:
الكلام يدخل من أذن، ويخرج على التو من الأخرى. إنه
لا يستمع إليَّ مرة واحدة. فمَن أكون إذَن في الدار؟
لقد قضيت في العمل عشرين عامًا شريفًا. هل يظن أن له
أن يستولي على ما كسبته، فيأمر به وينهى، ويبعثره
شيئًا فشيئًا؟ لا، يا صديقي، اصرف نظرك عن هذا! وليس
الأمر من السوء على ما قد ترى! لقد بقيت سمعتي الطيبة
زمنًا طويلًا، ولا بد أن تدوم زمنًا أطول. الدنيا كلها
تعرف صاحب «فندق الدب الأسود»، وأنه ليس دبًّا غبيًّا،
بل دبٌّ حفظَ فراءه.٢ سأبيض فندقي وأسمِّيه «أوتيل» وسينهمر
عليَّ الزبائن من الفرسان كالمطر وسيأتيني المال
بالكوم، وهذا يحتاج إلى الجد، لا إلى السكر حتى
البلادة. لا بد أن يذهب المرء إلى فراشه بعد أن ينتصف
الليل، وأن ينهض في الصباح مبكِّرًا، هذه هي
الطريقة!
زولَّر
:
ما زلنا بعيدين عن هذا بُعدًا كبيرًا. ليت العمل يظل
على مستواه ولا يتدهور كلَّ يوم على الدوام. أين
النزلاء الكثيرون الذين يقصدوننا؟ الغرف في الدور
العلوي خالية.
صاحب الفندق
:
وهل هناك مَن يكثر السفر هذه الأيام؟ هذا شيء طارئ،
ولكن ألا يشغل السيد ألتسست حجرتين وصالة؟
زولَّر
:
بلى، بلى، هذا شيء لا يصح إنكاره. إنه زبون عظيم.
ولكن السيد ألتسست لن يقضي سوى ستين دقيقة، هي ساعة،
حتى يعلم لماذا حلَّ هنا.
صاحب الفندق
:
ماذا تقول؟
زولَّر
:
آه، يا بابا، لقد خطر ببالي شيء. سمعت الناس هذا
الصباح يقولون إن هناك فريقًا من الشباب الشجاع في
ألمانيا يجهِّز مددًا ومالًا لأمريكا، ويقولون إنهم
كثير، وإنهم ذوو شجاعة، وإن زحفهم سيبدأ كله عند مطلع
الربيع.
صاحب الفندق
:
نعم، نعم، سمعت البعض وهم يشربون النبيذ يتفاخرون
بأنهم سيقدِّمون لأهالي الولايات الأمريكية المحاربين
كل مرتخص وغالٍ: عند ذاك علَتْ كلمة الحرية وكان كل
واحد شجاعًا جريئًا، فإذا جد الجد، لم يذهب رجل
واحد.
زولَّر
:
آه! بل هناك شبان كثيرون يتأجَّجون بالشجاعة دائمًا
… وإذا كان هناك مَن أرَّقَه الحب وأتعبه، فقد يسره،
كما تحكي القصص والروايات بل قد يرفع قدره، أن يسير
مرفوع الرأس إلى بلاد الله.
صاحب الفندق
:
لو دفع الهيام أحدًا من زبائننا إلى هناك، وكان من
الظرف والأدب بحيث كتب لنا من هناك أحيانًا، لكان ذلك
شيئا طريفًا.
زولَّر
:
ولكن المسافة بعيدة بُعدًا شاسعًا.
صاحب الفندق
:
هه، وما في هذا؟ الخطاب يستغرق في الطريق وقتًا
معلومًا. ولأصعد توًّا إلى القاعة الصغيرة وأرى على
خريطتي الصغيرة طول المسافة على وجه التقريب (يخرج).
المشهد الثاني
(زوفيه – زولَّر)
زولَّر
:
لا تحل في هذا البيت مصيبة مهما بلغت من السوء، إلا
ويخفِّفها خبر يُلقى على مسامع أبيك!٣
زوفيه
:
نعم، عليك أن تلين له دائمًا.
زولَّر
:
من حظه أن دمي لا يفور. لأن معاملته إياي على هذا
النحو السافل …
زوفيه
:
أرجوك!
زولَّر
:
لا! إنها معاملة تفقد الإنسان صبره. إني أعلم تمام
العلم كلَّ ما قاله، أعلم أني كنت قبل عام حائرًا
سفيهًا، وأنني كنت مُثقَلًا بالديون …
زوفيه
:
لا تغضب، يا حبيبي الطيب.
زولَّر
:
لقد صوَّرَني في صورة بشعة، ومع ذلك فإن زوفيه لم
تجدني منفِّرًا مقيتًا.
زوفيه
:
إن لومك الذي لا ينتهي ينغص عليَّ ساعات حياتي
كلها.
زولَّر
:
لست ألومك، بل أفكِّر مجرد فكرة. آه، إن المرأة
الجميلة تمتِّعنا متعة لا نهاية لها! كفاني هذا،
وليقُل هو ما يحلو له! انظري إليَّ، فإن للمرء صفاته
التي يعرف بها. زوفيه، ما أعظم جمالك! وما أنا من حجر،
بل أقدِّر سعادتي بزواجكِ قَدْرها! وأحبكِ.
زوفيه
:
ولكنكَ مع ذلك لا تكف عن تعذيبي؟
زولَّر
:
آه، على رسلك، ماذا تأخذين عليَّ؟ إن لي بلا شك أن
أقول إن ألتسست كان يحبكِ، وإنه كان يهيم بك، وإنكِ
أيضًا أحببتِه وكنتِ تعرفينه زمنًا طويلًا.
زوفيه
:
آه!
زولَّر
:
لا، لا أعرف مكان الشر في كلامي. إن الإنسان ليزرع
الشجرة الصغيرة فتكبر وتعلو وتطرح الثمار، آه، فمَن
يتمتَّع بها؟ يتمتَّع بها مَن كان حاضرًا. وبعد عام
تأتي أخرى. نعم، يا زوفيه، إنني أعرفكِ حق المعرفة،
ولا سبيل إلى تحوير أو تغيير. إنني أرى الأمر
مضحكًا.
زوفيه
:
لستُ أرى ما يستوجب الضحك! قلتَ إن ألتسست أحبَّني،
وإنه تأجَّجَ بالهيام بي، وإنني أيضًا أحببتُه.
وعرفتُه زمنًا طويلًا، فماذا بعد ذلك؟
زولَّر
:
لا شيء! لا أريد أن أقول إن شيئًا كان بعد ذلك. إن
البنت عندما ينمو عودها، تحب أولًا من قبيل العبث،
وإذا بها تحس حول قلبها دغدغة دون أن تعلم ما بها. ثم
تأتي القُبل، يحكم بها المنتصر في لعب الحظ،٤ وما تلبث أن تكبر وتكبر، وتصبح أعظم
وأكثر، وأحسن طعمًا، والبنت لا تعلم سببًا لتوبيخ أمها
إياها، فهي كلها فضيلة عندما تحب، وإنما تزل عن براءة.
فإذا زادت مواهبها موهبة أخرى هي الخبرة، فما أسعد
الذي يتزوجها، إذ ينال امرأة ذات مهارة وحذق!
زوفيه
:
إنكَ لا تحسن معرفتي.
زولَّر
:
ليكن! إن القُبلة بالنسبة للبنت، ككأس النبيذ
بالنسبة لنا، نبدأ بواحدة ثم نتبعها بثانية فثالثة حتى
نترنَّح. وليس لمَن لا يريد أن يترنَّح أن يقرب
الشراب. لنكفَّ عن هذا الحديث! فقد أصبحتِ لي! … ألم
تستمر صداقة السيد ألتسست لكِ وإقامته هنا بالفندق
أربعة أعوام ونصفًا؟ فكم غابَ عن المكان؟
زوفيه
:
ثلاثة أعوام، على ما أعتقد.
زولَّر
:
أظن أكثر! وها هو ذا قد عاد، منذ أسبوعين.
زوفيه
:
وما جدوى هذا الحديث يا حبيبي؟
زولَّر
:
هه، دعيني أتكلم. فإن مثل هذا الحديث لا يفرغ بين
المرء وزوجه. ما تظنينه يريد هنا؟
زوفيه
:
هه، يريد أن يتمتع!
زولَّر
:
وأنا أعتقد أن قلبه مُتيَّم بكِ. هَبِيه يحبكِ، فهل
تستمعين إليه؟
زوفيه
:
الحب يستطيع الكثير، لكن ما يستطيعه الواجب أكثر.
أتظن؟
زولَّر
:
لا أظن شيئًا، ويمكنني أن أفهم هذه الأمور. إن هذا
الرجل شيء آخَر أفضل بكثير من أولئك الفتيان الذين
يصفِّرون لكِ ويزمرون، ولا يستطيعون من الغزل غير ذلك.
وأعذَب نغمة، حتى نغمة الراعي، لا تزيد على أن تكون
نغمة. والنغمة شيء يمله الإنسان بعد حين.
زوفيه
:
نعم نغمة! تلك إذَن نغمتهم. فهل نغمتك أحسن؟ إن
السخط الذي حلَّ بكَ يزيد كل يوم زيادة مطردة، وأنت لا
تسكت لحظة واحدة عن التبكيت، والإنسان لا يكون خليقًا
بالحب، إلا إذا أراد أن يكون محبوبًا. فهل كنت الرجل
الذي يمكنه أن يُسعد فتاة؟ هل حصلتَ على حق توبيخي
أبدًا على أمور ليست في أساسها شيئًا؟ إن أركان البيت
لتهتز كلها، فأنت لا تفعل شيئًا، وأنت تصرف المال
وتسرف. وتعيش حياة الاستهتار. وإذا لم يكن بين يديكَ
مال، استدنتَ. فإذا احتاجت امرأتك إلى شيء، لم تجد في
حافظتها جولدن٥ واحدًا، وأنت لا تهتم ولا تسألها، من أين
يمكنها أن تأتي به. إن أردتَ امرأة صالحة، فكن رجلًا
بمعنى الكلمة. ائتها بما تريد، عاوِنها على قضاء
الوقت، تطمئن على كل ما عدا ذلك.
زولَّر
:
هه، كلمي الوالد!
زوفيه
:
أكلمه فيما يسره! إننا نحتاج إلى الكثير، والأعمال
كلها لا تسير على ما يرام. بالأمس اضطررت إلى رجائه في
أمر مُلِح. فصاح: هه، أليس معكِ مال وزولَّر يبعثر؟
ولم يُعطني شيئًا، وملأ أذني بالصراخ والزعيق.
فقل لي بربك من أين آتيك بالمال؟ ولستَ الرجل الذي
يصح أن تعوله امرأة.
زولَّر
:
آه، انتظري يا حبيبتي، ربما تلقيتُ شيئًا غدًا من
صديق حميم …
زوفيه
:
نعم، إن كان هذا الصديق غبيًّا. إنما يسعى الأصدقاء
الحميمون إلى الأخذ، وما زلت أتوق إلى رؤية واحد فقط
يُعطي شيئًا. لا يا زولَّر، إنك ترى أن الأمور لا يمكن
أن تسير على هذا المنوال.
زولَّر
:
لديكِ ما تحتاجين إليه.
زولَّر
:
حقًّا، وهو شيء أفضل من لا شيء. ولكن مَن لم يكن قد
جرَّب العَوز، يحتاج إلى أكثر من هذا. وما أسهل ما
تُدلِّلُك السعادة بنعمها، وقد يكون لدى الإنسان ما
يحتاج إليه، ويظن أن ليس لديه شيء. لا أقول إن لديَّ
ما لدى كل امرأة وكل بنت من رغبة، أو إني ظامئة إلى ما
تَظْمأنَ إليه، بل أقول إني لست راضية. هناك الزينة،
وهناك الرقص! فأنا امرأة على كلِّ حال!
زولَّر
:
هه، تعالي إذَن معي، ألم أقُل لكِ ذلك
مرارًا؟
زوفيه
:
حتى يتحول الفندق إلى ما يشبه متعة الكرنفال، متعة
تدوم وقتًا قصيرًا، ينتهي بعده كل شيء فجأة. خير لي أن
أقبع هنا وحدي طوال سنين عمري. إن لم تقتصد أنت، فلا
بد أن تقتصد زوجك. ولقد غضب أبي منك أعظم الغضب، وأنا
أهدِّئ غضبه، وأواسيه، فليس له في غيري سلوان. لا يا
سيدي. لن أساعدك على تبذير مالي: عليك أن تقتصد من
مصروفك لتمنحني بعضه.
زولَّر
:
دعيني يا حبيبتي أتمتع هذه المرة، وعندما ينعقد
السوق وينشط العمل نرتِّب أمورنا.
نادل
(يدخل)
:
يا سيد زولَّر.
زولَّر
:
هه، ما وراءك؟
النادل
:
السيد فون تيرينته.
زوفيه
:
المقامر؟
زولَّر
:
اطرده! ليأخذه الشيطان!
النادل
:
قال إنه يريد أن يراك.
زوفيه
:
ماذا يريد منكَ؟
زولَّر
:
آه، إنه مسافر. (للنادل): سآتي! إلى (زوفيه):
ويريد أن يودعني. (يخرج).
المشهد الثالث
زوفيه
(وحدها)
:
لا شكَّ أنه أتى ينذره. إنه يستدين في اللعب، ويضيع
الأموال، وينبغي عليَّ أن أتحمل وأعاني كل هذا! هذه هي
متعي كلها، وسعادتي التي كنت أحلم بها! أن أكون زوجة
رجل كهذا! إلى هذا الحد تدهورت وخسرت! أين راح الوقت
الذي كان فيه أحلى الشبان يرتمون زرافاتٍ عند قدمَيكِ؟
وكان كلٌّ يرى سعادته في لمحات عينيكِ؟ كنتِ مثل الربة
بيدي مفاتيح النعم وكانوا يقفون حولي يقظين خُدَّامًا
لأهوائي. فكان حقًّا على قلبي أن يمتلئ غرورًا! آه! إن
البنات في هذا مظلومات! إذا كانت الواحدة على جانب من
الجمال، لفتت نظر كل إنسان، وامتلأ رأسها طوال اليوم
بطنين المدح والإطراء. وأين هي تلك البنت التي تستطيع
مقاومة هذه التجربة النارية؟ وأنتم معشر الرجال عندما
تصطنعون الشرف تجدون فينا الميل إلى تصديق كلامكم.
وفجأة يحدث المحظور! فإذا حضر الطعام اللذيذ، أسرع
الجميع إلى التمتُّع به. أما إذا لزمت البنت جانب
الجد، فإن الرجال ينصرفون عنها. هذه هي حال رجالنا في
هذا الوقت القبيح. مرَّ على الواحدة عشرون هازلون، إلى
أن يتقدم لخطبتها نصف رجل! حقيقة إنني لم أكن في
النهاية بائرة، فبنت الرابعة والعشرين لم تفُتها
الفرصة. وأتاني زولَّر — آه — فقبلته. إنه إنسان شرير،
ولكنه على أية حال رجل. وها أنا ذي أجلس ولست أحسنَ
حالًا من شابة مدفونة في قبر. صحيح أنه يمكنني أن
أنالَ عددًا كبيرًا من المعجبين. ولكن ما عساي أفعل
بهم؟ إنهم أغبياء، ولا يزيد الإنسان على أن يعذب نفسه
معهم ويسأم. ثم هناك الوقوع في حب رجل ذكي! وهذا أمر
خطير، لأنه لن يلبث أن يستعمل نباهته للنَّيْل من
صديقته. لقد كان كل عمل يبدو لي كريهًا، عندما كان
قلبي خاليًا من الحب! والآن — يا قلبي المسكين — هل
أخذت عدتك؟ — لقد عاد ألتسست! آه، أبشِر بعذاب جديد!
نعم، قديمًا كان هنا، وكانت الأيام أيامًا من نوع آخر!
ما كان أعظم حبي له! بل ما أعظم حبي له! لست أدري ماذا
أريد. إني أفلت منه خائفة، وإنه يبدو ساهمًا، ساكنًا.
وأخاف منه، ولا شك أن خوفي له أساس. آه! ليته يعلم ما
يعتمل في قلبي الآن من أجله! إنه آتٍ، إني أرتعد! صدري
يجيش بمشاعر فيَّاضة. لست أدري ماذا أريد، وأكثر من
هذا لست أدري ماذا ينبغي عليَّ فعله.
المشهد الرابع
(زوفيه – ألتسست)
ألتسست
(يرتدي ملابسه، إلا القبعة
والسيف)
:
معذرة يا سيدتي إنْ فاجأتك على نحو لا يليق.
زوفيه
:
إنك تمزح يا سيد ألتسست؛ فهذا مكان للجميع.
ألتسست
:
إني أحس أنني أصبحت بالنسبة إليكِ ككل إنسان
آخَر.
زوفيه
:
لست أرى ما يوجب على ألتسست الشكوى من هذا.
ألتسست
:
ألا ترين ما بي يا قاسية؟ أقدر لي أن أعاني
هذا؟
زوفيه
:
بعد إذنك يا سيدي. أريد أن أنصرف.
ألتسست
:
إلى أين؟ زوفيه؟ إلى أين؟ أتشيحين بوجهكِ؟ أتحرميني
من يدك؟ زوفيه ألا تعرفيني؟ انظري إليَّ. إنه ألتسست
الذي يرجوكِ أن تُعيريه سمعك.
زوفيه
:
ويلي! ما أشد ما تزلزل قلبي، قلبي المسكين!
ألتسست
:
إن كنتِ أنتِ زوفيه، فابقي!
زوفيه
:
أرجوك، رفقًا بي! لا بد، لا بد أن أنصرف!
ألتسست
:
ما أغلظكِ يا زوفيه! اتركيني! — في هذه اللحظة فكرت:
إنها الآن وحدها، وإنك لتقترب من سعادتك. الآن، تمنيت
أن تتكلمي معي كلمة ود. ألا فاذهبي، انصرفي! في هذه
الحجرة نفسها كشفت لي زوفيه لأول مرة عن أجمل لهيب
اعتمل بقلب إنسان. هنا ضمَّنا الحب لأول مرة. وفي هذا
المكان — أما زلتِ تذكرين؟ — عاهدتني على الإخلاص لي
أبدًا!
زوفيه
:
ترفَّقْ بي.
ألتسست
:
كان مساء جميلًا — لن أنساه. تكلَّمَت عينكِ، وأنا،
وأنا تجرأت! وقدَّمتِ إليَّ وأنتِ ترتعدين شفتك
الحلوة. وما يزال قلبي يحس أشد الإحساس، مقدار السعادة
التي غمرتني. في ذلك الوقت كانت سعادتك في أن تريني،
كانت سعادتك في أن تفكِّري فيَّ. والآن لا تريدين منحي
ساعة، وإنك ترين أنني أبحث عنكِ، وترين أنني حزين —
اذهبي، يا ذات القلب المنافق، فلم تحبيني قط!
زوفيه
:
لقد طال عذابي، فهل تريد أن تزيدني عذابًا؟ أتقول إن
زوفيه لم تحبك قط؟ أيحق لكَ يا ألتسست أن تقول هذا؟
لقد كنت أمنيتي الوحيدة، وكنت أعظم ما أوتيت من نعم.
لك دقَّ هذا القلب، ومن أجلك جاشَ وانتفض هذا الدم،
ولا يمكن أن يظل هذا القلب الذي ملكته كله حينًا
غليظًا، ولا يمكن أن ينساك. آه، لكم أحزنتني الذكرى!
ألتسست، كنت أحبك، وما زلت أحبك كما كنت أحبك.
ألتسست
:
أنت ملاك! أنت أعظم قلب! (يهم بعناقها.)
زوفيه
:
أسمع مَن يخطو.
ألتسست
:
حتى الكلمة؟ لا طاقة لي على احتمال هذا! وهكذا طوال
اليوم. ما أشد عذابي. أمضيت أسبوعين هنا دون أن أستطيع
أن أقول لكِ كلمة واحدة. أنا أعرف أنكِ ما زلتِ
تحبينني. ولكنني أتألم، لأننا لا نستطيع أن ننفرد، ولا
أن نتحادث على سجيتنا. لا تمر علينا لحظة هدوء واحدة
في هذه الحجرة، تارة يأتي أبوكِ، وتارة أخرى يأتي معه
زوجكِ. لن يطول بقائي عندكِ على هذه الحال، إنها أشد
من أن أقوى على تحملها! ولكن مَن يريد يا زوفيه
يستطيع. لم يصعب عليكِ شيءٌ في الماضي، وكنتِ تجدين
لنا بسرعة من المصاعب مخرجًا … حتى الغيرة بعيونها
المائة أعميتها. فإن أردت …
زوفيه
:
ماذا؟
ألتسست
:
إنْ أردتِ أن تفكِّري في أنه لا ينبغي لكِ أن تسلمي
ألتسست إلى اليأس. أيْ حبيبتي التمسي لنا فرصة نقول
فيها كلامًا لا يسمح لنا هذا المكان هنا بقوله! اسمعي!
ما رأيكِ في الليلة؟ زوجكِ سيخرج، والناس يعتقدون أنني
سأخرج للاحتفال بالكرنفال، وما دام الباب الخلفي
قريبًا من السلم الموصل إلى حجرتي، فسأعود دون أن يلحظ
عودتي أحد، والمفاتيح معي هنا، فإن شئتِ أن تسمحي لي
…
زوفيه
:
ألتسست، يدهشني …
ألتسست
:
وأنا! أنا ينبغي عليَّ أن أصدق أن قلبك ليس قاسيًا
وأنكِ لستِ منافقة؟ أتضيعين الفرصة الوحيدة التي بقيت
لنا؟ أتعرفين ألتسست يا زوفيه؟ أتسمحين لنفسك بالتردد
في قضاء سويعة بالليل الهادئ معه تتجاذبان أطراف
الحديث؟ انتهينا، اتفقنا، أليس كذلك؟ سأزورك الليلة يا
زوفيه؟ أو إذا رأيت مزيدًا من الحرص عندي، فتعالي أنت
زوريني.
زوفيه
:
هذا إفراط!
ألتسست
:
إفراط! إفراط! آه، كلمة جميلة! ما ألعنها! إفراط!
إفراط! هل أضيع الأسابيع من وقتي هنا هباء؟ ما ألعن
هذا! كيف يمسكني هذا المكان إن لم تمسكني زوفيه؟ سأرحل
صباح الغد.
زوفيه
:
حبيبي! يا أعز الناس عندي!
ألتسست
:
لا، أنت تعرفين ألمي وترينه، وتظلين جامدة لا
تتأثرين! سأتحاشاكِ أبدًا!
المشهد الخامس
(السابقان – صاحب الفندق – زوفيه)
صاحب الفندق
:
هذا خطاب، لا بد أنه من شخص عالي المقام، فإنه حمل
خاتمًا كبيرًا جدًّا، وقد كُتب على ورق فاخر
جدًّا.
(ألتسست يفض الخطاب.)
صاحب الفندق
(لنفسه)
:
كم أود أن أعرف فحوى هذا الخطاب! ألتسست: (بعد أن تصفح الخطاب):
عليَّ أن أرحل صباح الغد مُبكِّرًا. الحساب!
صاحب الفندق
:
آه! ترحل بهذه السرعة في هذا الوقت القبيح؟ لا بد أن
هذا الخطاب مهم؟ هل تسمح بأن أتجاوز حدودي وأسأل
سيادتك؟
ألتسست
:
لا!
صاحب الفندق
(إلى زوفيه)
:
اسأليه أنتِ، فلا شك أنه سيقول لكِ.
(يتجه إلى المنضدة في آخِر الحجرة
ويخرج مِن درجه سجلاته، ثم يجلس ويحرِّر الحساب.)
زرفيه
:
ألتسست، هل هذا صحيح؟
ألتسست
:
هذا الوجه الناعم!
زوفيه
:
أتوسل إليكَ يا ألتسست ألا تترك زوفيه.
ألتسست
:
حسنًا، إذَن فعديني أن تريني هذه الليلة.
زوفيه
(لنفسها)
:
ماذا ينبغي عليَّ، وماذا يمكنني أن أفعل؟ لا ينبغي
أن ينصرف. إنه سلواني الوحيد، إنك ترى أنني لا أستطيع،
تذكر أنني زوجة.
ألتسست
:
عسى أن يأخذ الشيطان زوجك! أنتِ أرملة! لا، لا تضيعي
هذه الساعات، فلعلها أُتيحت لنا للمرة الأولى
والأخيرة. كلمة واحدة! ستجديني عند منتصف
الليل!
زوفيه
:
ولكن أبي قريب جدًّا من حجرتي.
ألتسست
:
إذَن فتعالي إليَّ! ما معنى إطالة التفكير؟ إن هذا
التردُّد يضيع الفرصة. خذي، المفاتيح.
زوفيه
:
مفتاحي يفتح بابك!
ألتسست
:
تعالي إذَن يا حبيبتي. ماذا منعكِ عني؟ هه، هل
ستأتين؟
زوفيه
:
هل آتي؟
ألتسست
:
نعم؟
زوفيه
:
نعم سآتي إليكَ.
ألتسست
(إلى صاحب الفندق)
:
لن أرحل يا سيدي.
صاحب الفندق
(مقبلًا)
:
هكذا! (إلى
زوفيه) هل علمتِ شيئًا؟
زوفيه
:
لا يريد أن يفصح عن شيء.
صاحب الفندق
:
لا شيء؟
المشهد السادس
(السابقون – زولَّر)
ألتسست
:
أين قبعتي؟
زوفيه
:
هناك! ها هي.
ألتسست
:
وداعًا، سأنصرف الآن.
زولَّر
:
أتمنى لكَ متعة عظيمة.
ألتسست
:
وداعًا أيتها الفاتنة.
زوفيه
:
وداعًا يا ألتسست.
زولَّر
:
خادمك!
ألتسست
:
لا بد أن أصعد إلى حجرتي أولًا.
زولَّر
(لنفسه)
:
إنه يزيد كلَّ يوم جرأة.
صاحب الفندق
(يحمل مصباحًا)
:
اسمح لي يا سيدي.
ألتسست
(يأخذ المصباح من يده وينحني
شاكرًا)
:
لا يمكن يا سيدي ولا خطوة واحدة (يخرج).
زوفيه
:
هل أنت ذاهب زولَّر؟ فماذا لو أخدتني معك؟
زولَّر
:
هه. سيأتي إليكِ الآن …
زوفيه
:
لا. انصرف أنت! كنت أمزح!
زولَّر
:
لا، لا، أنا أعرف إحساسك تمامًا، وأحس برغبتك في
الذهاب إلى الرقص. فإن الإنسان عندما يرى شخصًا
يتأهَّب للذهاب إلى الرقص ويكون عليه هو أن يذهب إلى
فراشه، يجد في ذلك ما يحزنه في المرة القادمة تأتين
معي.
زوفيه
:
لا بأس، سأنتظر! ولكن أرجوك يا زولَّر أن تكون
عاقلًا وأن تحترس من القمار (إلى صاحب الفندق، وكان
يقف طوال الوقت غارقًا في التفكير) تصبح على خير، يا
أبي، سآوي إلى فراشي.
صاحب الفندق
:
وأنتِ من أهل الخير يا زوفيه!
زولَّر
:
تصبحين على خير. (يتبعها
ببصره) لا، إنها والله جميلة (يجري
وراءها ويُقبِّلها مرةً أخرى عند الباب) تصبحين على
خير، يا شاتي الصغيرة.٦ (إلى صاحب الفندق) ألا تذهب أنت أيضًا
الآن إلى فراشك؟
صاحب الفندق
:
يا له من خطاب شيطاني! ليتني أتمكَّن من الحصول على
الخطاب! (إلى
زولَّر) هه، كل عام وأنت طيب٧ تصبح على خير.
زولَّر
:
شكرًا! تصبح على خير!
صاحب الفندق
:
عندما تخرج يا سيد زولَّر، أحكِم قفل البوابة
(يخرج).
زولَّر
:
نعم، لا تحمل همًّا.
المشهد السابع
زولَّر
(وحده)
:
ما العمل الآن؟ ما ألعنَ القمار! ليت غريمي يعلق
عليَّ المشنقة! لم تُفلح معه المغالطة. عليَّ أن ألزم
السكينة، فهو يضرب وينطلق على الفور — لا أعرف لي في
الأمر مدخلًا ولا مخرجًا. ماذا لو؟ — ألتسست لديه مال
— وهذه الطفاشات تفتح بابه. وهو يتوق أعظم التوق إلى
أن ينال عندي متعة، ويُلقي شباكه حول زوجتي، وهذا شيء
أكرهه منذ وقت طويل! فماذا لو نزلت عليه ضيفًا؟! إذا
انكشف الأمر، كانت العاقبة سيئة — ولكني في محنة، وهل
أمامي مخرج آخَر؟ غريمي يريد ماله وإلا ضربني ضربًا
مبرحًا. تشجع يا زولَّر، هيا! البيت كله نائم. وحتى
إذا انكشف الأمر، فظهري مسنود، وكم أنقذتِ المرأةُ
الحسناء لصوصًا! (يخرج).