رجل الهامش
أنت إذا دلفت إلى دار الكتب المصرية، أو إلى دور الآثار العامة، أو قصدت بيوت الوراقين المنبثة في نواحي القاهرة؛ لرأيت رجلًا يمشي مزورًّا متأرجحًا كأنما تدهمه ريح قوية تلفه لفًّا.
أو لو طالعت وجه هذا المتردد لرأيته خليطًا بين صفرة فاقعة ودُهْمَة قاتمة.
فلو بُعث رمسيس الثاني المندرج في تابوته الزجاجي الذي كان يُشاهد من أعوام قليلة في دار الآثار المصرية، لما كان غير صحافينا العجوز.
وإنك لفي حيرة من أمر هذا العجوز المتصابي، إذا جلست في مجالس الخاصة وقد طرقها بصيحة مكتومة تسمعها قبل أن تراه، وكان حديث القوم في التاريخ وعبره وقد استغلقت على المتناظرين شعبة من شعبه حتى نفضوا أيديهم، وعلتهم السكتة التي تصيب المُناظر عقب إعيائه.
فهناك يتدفق رجل الهامش، ويفتح المستغلق، ويُربي على ما تريده الجماعة.
وإذا كنت من أصحاب السماع والمشغوفين به، وقد ملك عليك حواسك صوت منيرة المهدية أو أم كلثوم أو المرحومة توحيدة أو بمبة كشر أو الحاجة السوسية أو ألمظ أو غيرهن من أهل الفن حديثًا وقديمًا، وأردت أن تتقصى سيرهن ومنشأهن، ومن هن ولمن ينتسبن؛ لم تجد من يشفي لك هذه الغُلَّة الحادثة إلا هذا القديم العجوز كأنه كان قابلة لكل منهن.
وإن أنت أيضًا ساقتك الحاجة إلى حارة السقايين، أو درب الميضة، أو الهياتم، أو ما شئت من الأحياء القديمة المندثرة، ثم لمحت هناك طللًا قائمًا ينبئ عن عزٍّ قديم، أو مجدٍ فارط مندثر، وأردت أن تستفسره؛ لأجابك بلسان هذا الرجل الذي يعدد لك ساكنيه الذين حلُّوه، وكيف كان طعامهم، وشرابهم، ومراكبهم، ونزههم، ومجالس لهوهم.
وإذا راعتك حادثة المنشاوي باشا، وكيف سُجن هذا العين من أعيان القطر، لحدثك عنها كأنه أحد المجلودين بسوطه.
وإن أردت أن تستطلع طَلْع مأساة دنشواي لسرد لك من دقائقها وخفاياها ما يبهرك، حتى تخاله أنه كان من حَمَلة آلات الصيد الذين رافقوا الضباط في هذه الواقعة، أو أحد هؤلاء البؤساء الذين دافعوا عن قوت يومهم فكان نصيبهم الشنق!
فهو في كل مكان، وفي كل شيء، ومع كل حادثة، كأنه رسول القدر أو بريد الزمن.
رافق المكاري في حادثة المالطي يوم حريق الإسكندرية.
وصاحب عرابي يوم سكنه قصر النيل.
وزامل المفتش في نكبته.
وتغدَّى مع المماليك في القلعة.
وحمل المشاعل في أفراح الأنجال.
وحضر مقتل عباس الأول في بنها.
عاشر الأباظية في الزقازيق، وخالط عائلة حمودة في برما، ونزل على بيت أبي حسين في المنوفية.
ورحل إلى محفوظ في الحواتكة.
وتوثق من ولد سليمان في ساحل سليم.
وحمل عدَّة الختان للمطاهر.
وعرف ما يعرفه باعة اللب أين يسهر عبده وعثمان.
واعتلى خشبة المسرح مع القرداحي.
وحمل عصا الفَتْوَنة لمحمود الحكيم.
وطيب لألمظ.
وضرب النقرزان مع أهل الصُّهْبة.
ورافق المجاذيب في الدوسة.
يعرف بوظة الشجرة ومنشأها، وحانة العنبة ومنبتها، وبار السلسلة وزبائنه.
فهو رجل غريب حقًّا وضع أنفه في كل شيء، ومشى مع كل حادثة، مرة في السعادية بإسطنبول، وأخرى في كامب يوغسلافيا، وثانية في حلقة للذكر، وثالثة في حفلة جابنيوت.
•••
وها هو الكتاب، الذي نقدمه إلى قراء العربية، لسان يصيح بما سطرناه آنفًا، جال فيه صحافينا العجوز بين مواضع كثيرة وراد مجالس لم تخطر لأديب أو لمؤرخ على بال.
وأعجب العجب لهذا الخاطر الذي تراه يتنقل في كهوف اللصوص وراء أبو جلدة والعرميط، ويقتص الأثر بخبرة كلب الصيد الذي ربما جاوز خبرة كلاب اسكتلنديارد التي فشلت في مطاردة هذين اللصين الخطيرين.
والذي يدخل بك بعد ذلك في أخص حياة المغنية توحيدة بلبل ألف ليلة من سنين مضت.
ويروعك هذا الفكر العجيب عندما يطالعك بدقائق حياة اللورد جراي الخصوصية، ويبسط أمامك كيف أن هذا الرجل السياسي العظيم كان مولعًا بالطير والحيوان وإن قد شُغْف بهما أيما شغف.
ولم يلبث فكر هذا الصحافي العجوز الذي يشبه رياح الموسم في مارس وأبريل أن يتنقل بك إلى التاريخ اليوناني في حياة ديوجنس وقنديله.
وعند تصفحك هذا الكتاب العجيب الذي يجمع النقيضين ويضم بين الحار والبارد، والماء والنار، والفسيخ والشربات، على حد تعبير هذا العجوز؛ تعجب وهو يدخل بك في ظُلَّة للمرحوم عزت صقر، وقد جلس للمنادمة مع عصبة الزجالين والأدباء وأهل النكتة من ظرفاء الأدباء؛ كيف أن هذا الرجل كان دقيق الوصف حلو السياق!
ولم تقعد السن بمؤلفنا عن زيارة حلوان، وقد جلس إلى مائدة الأستاذ محمد خليل راشد، ولم يُثْنِه العيش والملح عن التشنيع بالرجل والهُزْء بخلوته العلمية الهادئة.
وما أظرف النكتة التي غلبت صحافينا العجوز، وهو يعرض سيرة المرحوم حسن حسين الموظف السابق بقلم المطبوعات، والذي أصبح اليوم في غير هذه الدنيا، كيف يدس السم في الدسم! فبينما هو يعلو بالرجل في عصاميته إلى الذروة العليا إذا به ينحدر بخبث الظريف الماكر إلى شحٍّ كان يلازم صاحب الترجمة جاوز أبطال الجاحظ في بخلائه.
وفي الحق أن صاحبنا منصف الإنصاف كله، إذا كتب عن رجل مثل محمود خاطر بك أو المرحوم شيرين بك، فقد وفَّى هذين الرجلين الكريمين حقهما من الثناء والتنويه.
وأنا جد عاجز لو جلوت كلَّ طُرف هذا الكتاب النادر، واستعجلت القارئ على أن يستوعب محتوياته في هذه التقدمة المتواضعة.
وللكتاب، كما لكل ما يسوقه صحافينا العجوز من قصص وأخبار، أسلوب فريد وحده لا أظن أنه ينسج فيه على منوال متقدم أو معاصر.
فإذا تصفحت بعض ما يكتب هذا الرجل في أي صحيفة سيارة وكان المقال غُفْلًا من الإمضاء، لمَا عدوتَه بالظن ولو كانت الصحيفة أم القرى.
وهو أسلوب يجمع بين جزالة كبار الكتاب، وبين العامية المستملحة التي تجري مجرى الأمثال، والتي كادت تندثر إلا من أفواه جداتنا في القرى والحواضر، وهو محتال ماهر في دسِّها في مناسباتها وسَوْقها في مواضعها.
وهنا أيضًا ظاهرة عجيبة تأخذك بالدهشة والحيرة، وتملك عليك مناحي تفكيرك، وتسد عليك المخرج؛ وهي سرعته الفائقة في رثاء ميت أو ذكر حي لَغَطَت به الناس أو نعته الصحف.
ولو أن هذا الرثاء وذاك الذكر كانا مجرد سَوْق الحديث السطحي لهان الخطب، ولكنه استقصاء تحليلي تعجزُ عن مظانِّه المتشعِّبة، التي تلف المترجَم له من مبدأ حياته إلى منتهاها. وإن هامش الصحافي يطلع على الناس قبل أن ترد شهادة الوفاة على أهل المتوفَّى المؤذنة بالدفن.
وعندي أن صاحب الهامش هو ابن خلكان هذا العصر، ولكن على الطريقة الأميركانية في السرعة والكياسة وحسن السبك.