أبو جلدة والعرميط
تنفست فلسطين الصعداء وهدأ روع حكومتها، باعتقال الشقي المشهور «أبو جلدة».
رجل روَّع الحكومة وأقلق بال رجالها سنتين.
عبثًا حاولت القبض عليه مستعينة بالرجال والنساء والكلاب والراديو، فكان يحاربها تارة معتصمًا بشريكه العرميط، ويزوغ من وجهها تارة ملتجئًا إلى الجبال والكهوف التي يضل فيهما الجند من إنكليز وغير إنكليز.
وكان هذا الرجل عنوانًا لفشل الحكومة وسقوط هيبتها واعتبارها بين الأهالي. فإذا قامت يومًا لتشتيت مظاهرة سلمية أو فض اجتماع وطني، وقف أعداؤها يعيرونها بقولهم: اتشطري انتي على أبو جلدة!
وأصبح أبو جلدة عَلَمًا، بل علم الأعلام، وتناقلت أخباره صحف أوروبا وأمريكا مكبَّرة معظَّمة.
أبو جلدة كنية، واسمه أحمد المحمود، وهو من أهل قرية طحون، ولكل واحد منهم كنية. يبلغ عمره اليوم الستين.
بدأ أعماله في الحياة الدنيا حمَّالًا، ثم صار رئيسًا للحمالين.
وفي أيام الحرب الكبرى طلبت الحكومة التركية ابنه للخدمة العسكرية، فأبى تسليمه بحجة أنه وحيده والقانون لا يسمح بتجنيد الوحيد، فأصرت الحكومة، وأصر أبو جلدة وأعلن عليها العصيان، واعتصم بجبال الخليل وجبال نابلس، وقاتل الجيش التركي وقتل كثيرًا من رجاله.
وبعد أن خرج الترك والألمان من سوريا وفلسطين عاد أبو جلدة إلى بلده، واشتغل بالزراعة.
وحدث منذ سنتين نزاع بينه وبين بعض أقاربه فقتل ثلاثة منهم، فحاكمته الحكومة، وحكمت عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة. ولكنه لم يلبث في سجنه طويلًا، إذ بحث السجانون عنه فلم يجدوه. وطلبته الحكومة فلم تعرف له محلًّا من الإعراب.
تجاوزت شهرة أبو جلدة حدود ما أحرزه مفتي فلسطين الأكبر، وأصبح معروفًا أكثر من مدير المهاجرة والباسبورت المستر جامسون.
والقارئ العربي المتوسط الذي هو أقرب إلى الأمية لا يريد إلا سماع تفاصيل بطولة أبي جلدة، وما تقوم به عصابته من أعمال وما ترتكبه من آثام.
وأبو جلدة شبيه بلصوص كورسيكا، في استعصاء القبض عليهم وتجنبهم إراقة الدماء وإزعاج الآمنين.
فهو موجود في كل مكان، وليس له مكان. فبينما تقول عنه البلاغات الرسمية إنه ظهر في الشمال، وارتكب كذا وكذا من الأعمال، وصال وجال في قُنَن جبال الجليل وسطوحها، إذا به يظهر بغتة قرب البحر الميت ويوقع ببعض السياح البريطانيين ويسلب مالهم ومتاعهم، ثم يشاهده المسافرون على مقربة من غزة، حيث يوقف سيارة موظفين إنكليز ويأخذ كل ما يملكونه، وبعد ذلك بقليل يسمع أهالي بئر سبع أنه وصل إليهم واجتاز الصحراء التي تفصل فلسطين عن قنال السويس.
وكان أبو جلدة ورجاله حكومة داخل الحكومة يصدر البلاغات الرسمية، وتنشرها الصحف، وفيها بيانات عن مشاغباته للحكومة، ومداعباته لرجالها، وتكذيبات لما عُزي إليه من أعمال غير مشرفة.
وقد نشرت له جريدة «الجامعة الإسلامية» يومًا نداء حارًّا بالدعوة إلى مقاومة حكومة الانتداب.
وكان يساهم من حين إلى آخر في قوائم الاكتتابات التي تفتح لمقاصد وطنية.
وشعار أبو جلدة هو: «رمي الإنكليز في البحر»، فكانت الحرب بينه وبينهم سجالًا.
جاءوه يومًا بعشرة من كلاب «سكوتلاند يارد»، ثمن الكلب الواحد ألف جنيه، وأجرته في الشهر خمسون جنيهًا، وذهبت «تشمشم» عليه وتهاجمه فقتل أكثرها، وغرمت حكومة فلسطين ثمنها لدائرة الأمن العام في لندن.
وأراد الإنكليز أن يدسُّوا له السم في الدسم، واتفقوا على ذلك مع إحدى نسائه، وأدرك الدسيسة فأرغمها على أن تأكل من الطعام، وقبل أن يفعل فيها السم فعله قتلها بمسدسه.
ومنذ أشهر هاجم أبو جلدة وزميله العرميط قوة من جنود الحكومة، ثم تركها ولجأ إلى أول تليفون وطلب إدارة الأمن العام في حيفا، وسأل مديرها أن ينجد رجاله لأنهم وقعوا في مأزق …
هذا هو الرجل أو العفريت الذي داعب جون بول وناوشه وناغشه، ولم تقوَ عليه السيارات ولا دوريات البوليس والكلاب إلى أن كبسه الجماعة وكان للكبسة أثرها في القبض عليه. وفرحت صحف لندن بالتخلص منه ومن معرَّة تغلبه على حكومة الدولة التي لا تغيب الشمس عن أملاكها.
وحوكم وحكم عليه بالإعدام شنقًا، فسار إلى المشنقة رافعًا رأسه كأنه ذاهب إلى معركة يداعب فيها أصدقاءه الإنكليز الذي أقسم بأن يلقي بهم البحر!