العالمان سميكة وعكوش
أنعمت الحكومة البريطانية بنيشان الإمبراطورية من رتبة كومندور على صاحب السعادة مرقس سميكة باشا أمين المتحف القبطي.
ودعاه جناب المستر بيترسون إلى دار المندوب السامي، وقلده النيشان، وخاطبه بعبارة رقيقة قال فيها: «إن جلالة الملك تفضل فأنعم على سعادتكم بهذا الوسام جزاء الخدمات الجليلة التي أديتموها مدة سنين طويلة للمتحف القبطي الذي أنشأتموه، وما بذلتموه من الخدمات في مستشفى ذكرى اللورد كتشنر.»
ومنحت وزارة المعارف الفرنسوية رتبة أوفيسيه دا كادمي إلى الأستاذ محمود عكوش المعيد في المعهد العلمي الفرنسوي لآثار الشرق بالقاهرة.
والإنعامان دليل على تقدير حكومتين عظيمتين لمجهود علمي وأدبي يقوم به رجلان مصريان كلاهما قدير في الفن الذي تخصص له.
•••
مرقس سميكة باشا خير مثال لقول المرحوم قاسم أمين: «الوطنية الحقيقية تعمل كثيرًا، وتتكلم قليلًا».
بل هو الرجل الذي يعمل ولا يتكلم.
خدم بلاده في مناحي الفنون والآداب والإنسانية والتربية والتعليم.
ولم يترك أو يبتعد إلا عن شيء واحد هو السياسة.
بعد أن أتم علومه الابتدائية، وحذق اللغتين العربية والفرنسوية، دخل في خدمة سكة الحديد المصرية، وترقى من أصغر درجاتها إلى أعلاها.
كان في عمله صغيرًا وكبيرًا مثال الجد والاجتهاد والمثابرة والقيام بالواجب.
عشق صغيرًا الآثار المصرية عامة، والآثار القبطية خاصة.
فكان يختلط بجماعة السياح، ويرافقهم في زياراتهم لهذه الآثار، ويرشدهم إلى ما لا يعرفه جماعة المترجمين والأدلَّاء.
فارتبط بعدد من كبار السياح برباط الصداقة، وبينهم غير واحد من نخبة العلماء والباحثين في الآثار والوزراء والأسرياء.
واشترك في شبابه في الحركة المِلِّية القبطية، وكان من الأعضاء المؤسسين لجمعية التوفيق القبطية والعاملين على نفي البطريرك السابق إلى ديره لاثنتين وأربعين سنة خلت.
واشترك في المجلس الملي الذي أُلِّف عقيب نفي البطريرك.
وكان موضوع ثقة أبناء الطائفة فكرروا انتخابه لعضوية المجلس الأعلى غير مرة.
وعلى أثر خروجه من خدمة الحكومة انتُخب عضوًا في مجلس شورى القوانين.
وفي الجمعية العمومية وقف وقفته المشهورة مخالفًا الأعضاء في رفض تجديد التعاقد مع شركة قنال السويس، وأبى إلا تسجيل أقواله كلها في محضر الجلسة.
وفي الجمعية التشريعية وقف وقفة أخرى في مشروع قانون «مدارس معلمات الكتاتيب»، فطلب أن تكون للمصريات كلهن بدون فرق في الدين، فوعده المرحوم سعد زغلول باشا باسم الحكومة المصرية أن يساعد أية مدرسة من هذا النوع ينشئها الأقباط.
وانتُخب عضوًا في مجلس المعارف الأعلى، فكانت له آراء قيمة في إصلاح برامج التعليم.
واشترك في لجنة مستشفى كتشنر، ولا يزال عاملًا فيها.
ودعا إلى إنشاء كلية لبنات الأقباط، وبذل مجهودات تذكر في الحصول على أرض الكلية ووقفيات للصرف عليها. وما زال يتعهد المشروع بنفوذه وسعيه حتى أثمر الغرس. وعرف المصريون فضل هذه الكلية وفضلوها على المعاهد الأجنبية.
وانتُخب لعضوية لجنة الآثار العربية، ويتولى الآن رياستها الفنية، ويديرها بخبرة أقر بها الأجانب قبل المصريين.
على أن أكبر أعمال سميكة باشا وأجدرها بالإعجاب المتحف القبطي الذي ربط به سلسلة المتاحف المصرية، وصار حلقة الاتصال بين متحف الآثار اليونانية الرومانية ومتحف الآثار العربية. وما زال يجد ويسعى حتى وضع هذا المتحف تحت رعاية الحكومة وجعله متحفًا وطنيًّا ينفق عليه من مال الدولة.
ووضع أخيرًا دليلًا عربيًّا لهذا المتحف، هو الكتاب العربي الوحيد الذي يعرف القارئ بالفن القبطي وتطوراته وذخائره.
•••
والأستاذ محمود عكوش ابن المرحوم مصطفى عكوش باشا مفتش جفالك الخديو إسماعيل.
كان جده من أهالي قوله الذين أتوا مع محمد علي.
وتربى الأستاذ عكوش في مدرسة الأنجال التي أنشأها الخديو توفيق لولديه الأميرين عباس ومحمد علي، ولم يبق من تلاميذها إلا أفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة، وقُفلت سنة ١٨٨٦.
ومن مدرسة الأنجال تنقل الأستاذ عكوش بين المدرسة الخديوية ومدرسة محمد علي.
وقد بدأ حياته بالخدمة في الدائرة السنية كاتبًا في قسم القضايا، تحت رياسة صاحب السعادة محمد طلعت حرب باشا.
ثم أُبقي في وظيفته بعد تصفية أملاك الدائرة.
ودخل في امتحان عُقد سنة ١٩٠٥ لوظيفة مترجم في لجنة الآثار العربية ففاز بالوظيفة، وكان خير مساعد للمرحوم علي بهجت بك في مباحثه فأُعجب به.
واحتاج المعهد الفرنسوي للمباحث الأثرية إلى أستاذ معيد، فانتدب بهجت بك الأستاذ عكوش لهذه المهمة.
وقضى الأستاذ عكوش في لجنة الآثار ٢٥ سنة مترجمًا وسكرتيرًا منتدبًا.
وكان لرجال اللجنة وكبار موظفيها، وفي مقدمتهم سعادة سميكة باشا، ثقة تامة بالأستاذ عكوش ومباحثه، وما ينقله من اللغة الفرنسوية إلى العربية وبالعكس، ويحرره في اللغتين.
ولم يقتصر الأستاذ عكوش على عمله الإداري، بل عمد إلى الدرس والاستقصاء فتجد اسمه في مؤلفات الكابتن كريزول والسيدة ديفونشير.
-
كتاب الجامع الطولوني.
-
ترجمة كتاب حفريات الفسطاط.
-
ترجمة رسالة القبة والطير.
-
ترجمة سلسلة تاريخية للآثار العربية.
-
رسالة في الآثار الإسلامية.
-
تاريخ العمارة في الإسلام.
-
بحث في عمل ماسبيرو (ينشر في مجموعة للمعهد الفرنسوي).
ولا يذكر اسم واحد من علماء المعهد الفرنسوي للآثار في مصر إلا مقترنًا باسم الأستاذ عكوش، فعليه يقرأ هؤلاء العلماء بعض الكتب العربية، فيفسر لهم غامضها ويشرح متنها ويرشدهم إلى ما يرجعون إليه في إتمام مباحثهم.
وقد كان لهذه الخدمة الجليلة أثرها في نفس العالم الكبير المسيو بيبر حوحيه مدير المعهد، فطلب الإنعام عليه بوسام الأكاديمي ولبَّت وزارة المعارف الطلب.
وأقيمت في المعهد حفلة شاي خاصة أُهدي فيها الوسام وبراءة الرتبة إلى الأستاذ عكوش.
ويقضي الأستاذ عكوش يومه في التدريس بالمعهد العلمي صباحًا، والتأليف والدرس بعد الظهر، ثم النزول إلى شارع عماد الدين أو شارع فؤاد الأول لمسامرة بعض إخوانه في إحدى القهوات، والتقاط بعض المؤلفات والمصورات من الباعة المتجولين.
فإذا كانت الساعة السابعة عاد إلى داره في مصر الجديدة، لمعاودة البحث والدرس وتحميض بعض أفلام الفتوغرافية.
•••
لقد اشترك سميكة باشا والأستاذ عكوش سنوات في خدمة الآثار العربية، ويقضيان الآن حياة متشابهة في الدرس والاستقصاء. وهكذا يجب أن تكون حياة العاملين.