الملاك ميخائيل
قل إن كنت تغشى، في شهر نوفمبر، بيتًا من بيوت الأقباط الأرثوذكس حتى يقدم إليك «فطير الملاك» إلى جانب فنجان القهوة.
وفطير الملاك هو قربان زحل القديم أو بسطة النيل، إذ كان قدماء المصريين يعتقدون أن زحل هو الذي بيده زيادة النهر وما يتبع هذه الزيادة من خير.
وكان يوم ١٣ بئونة هو اليوم الذي تنتهي فيه تحاريق النيل، ثم تأخذ مياه النهر في الفيضان، فكان الآباء المحترمون يتقربون إلى زحل في هذا اليوم بالقرابين والذبائح ليبارك النهر ويزيد ماءه.
وتنصَّر قسطنطين ملك الروم في القرن الرابع للميلاد فأباح لأهل مملكته، ومنها مصر، أن يعلنوا نصرانيتهم ويستولوا على هياكل الأوثان؛ فعمد السكندروس بطريرك الأقباط التاسع عشر إلى هيكل السرابيوم في الإسكندرية وحوَّله إلى كنيسة، وحطم صنم زحل القائم أمامه، وجعل عيده عيدًا باسم ميخائيل رئيس الملائكة، وأمر بأن ترفع باسمه القرابين التي كانت ترفع باسم زحل.
ومن ذلك العهد عرف عيد الملاك ميخائيل، واتخذه الألوف من الأقباط شفيعًا لهم وحاميًا يصنعون الفطائر باسمه في كل سنة ويقدمونها إلى الفقراء، ويهدونها إلى الأصدقاء والأقرباء.
وبنيت باسم الملاك ميخائيل كنائس لا يزال بعضها قائمًا، منها كنائس طوخ طنبشا بجوار بركة السبع، وكنيسة سبرباي بقرب طنطا، والملاك البحري عند مدخل حدائق القبة، والملاك القبلي بقرب المعادي.
فعيد الملاك عيد مصري قبل أن يكون عيدًا دينيًّا.
ولما فتح عمرو بن العاص مصر أتى أهلُها إليه حين دخل بئونة من أشهر العجم (كذا)، فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سُنَّة لا يجري إلا بها. فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنه إذا كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر من أبويها فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في النيل. فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله … إلى آخر القصة المعروفة.
وقد تناقل المؤرخون الرواية كأنها حقيقة ودوِّنت في كتب التاريخ المقررة في وزارة المعارف، إلى أن نهض بعض المحققين فأثبتوا أن الرواية خرافة، ووافقتهم وزارة المعارف على ما رأوا، وأمرت بحذف خبر العروس من كتب الميري منذ بضع سنوات.
ومما اشتهر عند أهل مصر وجرَّبتُه أيضًا فصحَّ، أن يؤخذ قبل عيد ميكائيل بيوم في وقت الظهر من الطين الذي مر عليه ماء النيل قطعة زنتها ستة عشر درهمًا، وتوضع في إناء مغطى إلى بكرة يوم عيد ميكائيل وتوزن، فما زاد على وزنها من الخراريب كان مبلغ النيل في تلك السنة بقدر عدد تلك الخراريب، لكل خروبة ذراع.
ومن ذلك أخذ شيء من دقيق القمح وعجنه بماء النيل في إناء فخار عُمل من طين مرَّ عليه النيل، وتركُه مغطًّى طول ليلة عيد ميكائيل. فإذا وجد بكرة يوم العيد قد اختمر بنفسه، كان النيل تامًّا وافيًا، وإن وجد لم يختمر دلَّ على قصور النيل في هذه السنة.
ثم ينظرون مع ذلك بكرة يوم عيد ميكائيل إلى الهواء، فإن هبت طَيَابًا فهو نيل كبير، وإن هبت غير طَيَاب فهو مقصر … إلخ إلخ.
ولا بد أنك تسخر يا سيدي القارئ لغفلة الآباء والأجداد عندما تقارن بين تجاربهم هذه والطرق العلمية المتخذة قاعدة لمعرفة حالة النيل، والتوسل بالسلكي واللاسلكي لمعرفة درجات الفيضان من أعالي النيل حتى «الروضة والمقياس» يومًا فيومًا، ثم التحكم في المياه وحبسها وتصريفها وتوزيعها بالسنتي والملي ومنعها عن إغراق البلاد.
ولكن «الهندزة» لا تدخل عقول الكثيرين من المؤمنين السُّذَّج من أهل هذا العصر، الذين لا يزالون يعتقدون أنه لولا «النقطة» التي يلقى بها الملاك ميخائيل إلى النيل ليلة عيده فلا زيادة ولا نقصان!