اللورد كتشنر
في تلغرافات «الأهرام» الأخيرة أن كاتبًا إنكليزيًّا شرع في كتابة رسائل عن حياة اللورد كتشنر لمناسبة ذكرى غرقه سنة ١٩١٦.
ويقول «المقطم» إن كاتب هذه الرسائل هو المستر ستورس الموظف المعروف في دار الوكالة البريطانية قبل الحرب.
وهذه الناحية من حياة اللورد كتشنر التي يكشف عنها المستر ستورس، لا تزال مجهولة مع كثرة ما كُتب عن اللورد جنديًّا وفاتحًا وقاهرًا للدراويش والبوير والهنود في حملاته المعروفة.
ومع كثرة هذه الكتب، فإنك تبحث عن كتاب في اللغة العربية عن اللورد كتشنر فلا تجد إلا كتيبًا صغيرًا للزميل عبد الحليم الغمراوي المحرر في «البلاغ»، ثم ما ورد عنه في كتاب «تاريخ السودان» للمرحوم نعوم شقير بك، والمقالات المبعثرة التي نشرت عنه في بعض جرائدنا ومجلاتنا، وأخصها ما ظهر عقب حادثة غرقه التي لم يُرفع الستار عن سرها حتى الآن.
على أن هناك أثرًا سياسيًّا عربيًّا للورد كتشنر، هو تقاريره عن أحوال مصر والسودان لما كان معتمدًا لبريطانيا العظمى من سنة ١٩١١ إلى سنة ١٩١٤، حيث سافر قبل نشوب الحرب وبقي في بلاده يعمل لتقوية الجيش الإنكليزي بالتطوع والتجنيد لمحاربة الألمان وأشياعهم.
في هذه التقارير الثلاثة، اقتفى اللورد كتشنر أوف خرطوم أثر سلفيه السياسيين كرومر وغورست في تدوين أحوال البلاد، مقتبسة من التقارير والمذكرات التي كان يرسلها إليهم الإنكليز الموظفون في الحكومة المصرية.
وتساوي هذه التقارير في أحجامها تقارير السير ألدون غورست.
وتقرؤها في الإنكليزية فتجد الفرق بين لغة كرومر الدسمة البليغة ولغة كتشنر العسكرية ذات الألفاظ المحدودة، لكل كلمة معناها.
بعدما غبت إحدى عشرة سنة عن مصر، حيث خدمت مدة في وظائف عسكرية وشبيهة بالعسكرية، سُررت سرورًا عظيمًا عند عودتي إليها، بتجديد معاشرة كثيرين من المصريين الذين تقادم عهد الصداقة بيني وبينهم، وتيسر لي إدراك التقدم والتغير الذي تغيرته مصر أكثر — على ما يظن — مما يدركه الذين استمرت إقامتهم فيها تلك المدة.
فلا جرم أنه يحق لسمو الخديو ونظَّاره وسائر موظفي دواوين الحكومة ومصالحها قبول التهاني بنجاح سعيهم في تحسين حالة الأهالي وتوفير اليسر والخير لهم.
على أن بلادًا كمصر لا تزال تحتاج طبعًا إلى سعي كثير، وإن يكن ذلك أضحى الآن أسهل مما كان عليه من الماضي.
والفضل في هذا التسهيل لمشورات ذوي العقل والحكمة التي تقلبت على سواها، ووطَّدت مالية البلاد على أركان المتانة والفلاح.
فإن ما أبداه اللورد كرومر والسير ألدون غورست كلاهما من صحة الحكم ومَضَاء العزيمة في الأمور المالية، كان عظيم القيمة في توفير أسباب الخير وارتقاء البلاد في المستقبل.
لما عدت إلى مصر بعد غياب طويل عنها أثَّر كثيرًا في نفسي أن الذين فارقتهم وهم معشر متجانس من عقلاء المسلمين المعدودين طائفة قائمة على قاعدة سنن اجتماعية ثابتة؛ قد انشقوا وانقسموا إلى فرق وأحزاب سياسية.
إن ترقية أخلاق الشعب وإعلاء سجاياه يتوقف معظمها على نمو ضبطه لنفسه وتسلطه على نَزَق طباعه، حتى لا يطاوع أول دافع له من نفسه، وعلى تعوده الاعتماد على نفسه بلا تطفل وفضول، وعلى ممارسة المثابرة والثبات والجَلَد، فجهاد الأحزاب في مناظرة بعضها البعض لا يفيد اكتساب صفة من هذه الصفات التي يُنال بها التقدم.
نعم إن الاهتمام بالمسائل السياسية اهتمامًا مقرونًا بالهدوء والتأمل نافع للهيئة الحاكمة.
وأما الاهتمام الكاذب الذي يبنى عادة على تحريف الأقوال عن مواضعها وتصوير الأمور بغير صورها، فلا خير فيه لتوسيع العقل وتربية الأخلاق في شعب من الشعوب الشرقية.
لقد عرفنا اللورد كتشنر، لأول عهده بمصر في مطلع أيام الاحتلال، مفتشًا للبوليس في العاصمة يكسر «الدكك» ويقذف بالكراسيِّ في الشوارع؛ لأن أصحاب القهوات كانوا يصُفُّون هذه الكراسي وتلك الدكك بطريقة مخالفة للنظام ومعرقلة لحركة السير على الأرصفة.
ثم عرفناه ضابطًا في المخابرات بالجيش المصري.
وأخذ يرتقي حتى صار سردارًا للجيش.
وكانت أبرز حادثة له موقفه المعروف أمام سمو الخديو السابق في حلفا، محتجًّا على حاكم البلاد الشرعي لانتقاده الجيش، ثم كان فتحه للسودان وابتعاده عن مصر.
فعودته إلينا تلقي على أحزابنا السياسية الدروس، وتعلمهم واجباتهم بمثل الطريقة التي يكتب بها اليوم اللورد جورج لويد حذوكَ النعل بالنعل.
ربما لا يعرف المستر ستورس عن اللورد كتشنر أكثر مما يعرفه عنه ضباطنا الكبار الأحياء، أمثال محمد كامل باشا، وأحمد كامل باشا، وعبد الرحيم فهمي باشا، وعبد المجيد فريد باشا، ومحمود عزمي باشا، وعلى أحمد باشا، وموسى فؤاد باشا.
ولكن ستورس إنكليزيًّا يعرف كيف يقسم وقته بين الأكل وشرب الشاي والويسكي ولعب الكريكت والبريدج ومطالعة كتب أوليفر لودج وشعر بايرون وكلوريدج. ثم يجد لديه الوقت الكافي لكتابة الفصول الممتعة عن الرجل العسكري السياسي الذي عاش حياته أعزب لا يعرف للحياة الاجتماعية والمعيشة البيتية طعمًا.
أما ضباطنا الكرام فإن حياتهم في المعاش سر لا يحبون أن يعرفه أحد، ولا يصح أن نقول لهم عندكم وقت لتدوين شيء عن ناسف قبة المهدي.