البرنس أمير الشعراء
توجوا «البرنس» أميرًا على الشعراء ورئيسًا.
كانت مؤامرة حيكت في بعكوكة أدب معروفة.
لماذا يؤمِّرون فلانًا على الشعراء، ويُرئِّسون فلانًا على الأدباء؟ ولماذا لا يكون «البرنس» أميرًا مثلهم؟
وانتهت المناقشة بأن يُحتفل بتأمير «البرنس» ليساوي في المجد فلانًا وفلانًا.
وكانت الحفلة مظهرًا من مظاهر الأدب والدعابة والفكاهة و«القفش» معًا.
اشترك فيها الهراوي والأسمر وبشاي والقاياتي وحسين شفيق والكيلاني، وغيرهم من نخبة الشعراء الظرفاء الذين يجمعون في شعرهم بين القديم والحديث.
وبايعوا البرنس برنسًا، وثبَّتوا ذاك اللقب الذي منحه له أهله صغيرًا، وأيَّده صاحب العظمة السلطان حسين كامل لما زار دار الكتب المصرية.
«البرنس» وما أدراك من «البرنس»؟!
رجل مغربي الأصل مصري المولد والنشأة.
كان أبوه من رجال قاسم بك الحلو.
ودخل البرنس مكتبًا أوليًّا ثم مدرسة القربية ومنها إلى الأزهر ومن الأزهر إلى دار الكتب نسَّاخًا.
ينسخ للدار وينسخ للزبائن.
وسواء جلس كاتبًا أو مشى صامتًا فهو «غرض الإكالة»، يداعبه القراء الملازمون والنساخون المأجورون وكبار الموظفين وصغارهم، ويتجاذب أطرافه الأساتذة أحمد محفوظ ورامي والهراوي ونسيم وعبد الله حبيب والشيخ زين والعم عبد الرسول والمدير برادة بك، ويعطفون عليه حينًا ويجرون شكله حينًا آخر.
… قصير القامة، غليظ البطن، واسع العينين، يرتدي الجبة والقفطان والطربوش.
تراه في خطواته البطيئة ومشيته المتهالكة يتمتم ببعض الأدعية والأوراد.
ثم تراه أمام الضريح الزينبي يمسك بيده قلمه الرصاص القصير، ويكتب على ورقة صغيرة أبياتًا من الشعر يبين فيها السبب الذي جاء من أجله:
وهو بعد قليل أمام ضريح الإمام الحنفي يكتب له أبياتًا أخرى، ويضعها عند مقامه من أجل مسألة أخرى.
ثم يعود إلى أصحاب الحاجات فيبلغهم أنه أوصل رسالتهم إلى الأولياء، وأنهم سيرون بعد أيام نفحات الإمام الحنفي والسيدة زينب والسيدة نفيسة.
… والبرنس شاعر، ولكنه ليس شاعرًا متواضعًا يعرف حقيقة منزلته بين الشعراء.
فهو شاعر متمرد الشيطان، لا يرى واحدًا من الشعراء يفضله غير المتنبي.
فرامي شاعر الشباب أحد تلاميذه.
هكذا يزعم البرنس.
وبهذه العقيدة يخاطب رامي.
يدخل عليه مكتبه في بعض الأحيان غاضبًا عاتبًا: يا ابني يا رامي قصيدتك اللي منشورة النهارده في الأهرام نصها مسروق من شعري.
– أهلًا يا أستاذي البرنس، معلهش يا سيدي المسامح كريم. ويضحك رامي مع من حوله. ثم يعود البرنس إلى كراساته ينسخ فيها كتبه المخطوطة.
والبرنس عدا ذلك يعتبر نفسه شاعرًا مجددًا، أدخل على اللغة العربية كلمات جديدة. ويستشهد على ذلك بقوله:
ويريد بكلمة «شلن» أعطني شلنًا.
وإذا انتقده رامي في هذا التعبير، فهو جاهل بأصول التجديد لا يعرف مصطلحاته. وتشتعل نار الجدال بينهما، فلم يكن يفصل فيها غير المرحوم حافظ بك إبراهيم، فيخرج «الشلن» فيذعن البرنس لرأيه ويرضى بحكمه. أما رامي، فله الويل تلميذ عاقٌّ، لا يرعى عهد تلمذته للبرنس، ولا يعرف التجديد.
يستطيع البرنس — دون مبالغة — أن ينظم في اليوم خمسين قصيدة، ففي الليلة الكبيرة لمولد الحنفي أو الإمام الشافعي ينتحي البرنس ناحية ويبدأ في نظم قصائده.
ولا نمضي غير ساعة أو ساعتين حتى يكون قد أعد عشرين قصيدة، يمتدح بها الأعيان النازحين من البلاد والتجار القائمين بإحياء المولد.
ثم يعود آخر الليل «يحصِّل» ثمن هذه القصائد الحسان.
وهو لجميع أفراح العاصمة الشاعر الذي لا يشق له غبار.
لم يكتف الأستاذ عبد الله حبيب بهذه «التصويرة» الحلوة، بل رأى أن يزيدها فقال إن لقب «برنس» عُرف به صاحبنا منذ كان صبيًّا يقود أستاذًا ضريرًا يقصد سراي الجزيرة ليلقن سمو السلطان حسين دروسًا في الفقه … إلخ إلخ.
وهي رواية بعيدة عن الحقيقة؛ لأن «البرنس» لا تزيد سنه اليوم على الخمسين — حسب روايته — وهو يقول إنه لم يعرف السلطان حسين إلا عندما شرَّف دار الكتب فأنشده قصيدته التي مطلعها:
والبرنس يعيش حتى اليوم أعزب، ويقطن غرفة في رَبْع لمواطنيه أولاد «بنونة» بأول العباسية.
هو بوهيجي أصلي تمام.
حياته يومًا بيوم، يصرف كل ما يأتيه في نهاره، غير مفكر في ما يأتي به الغد.
يستيقظ مبكرًا، ويذهب إلى المسجد الحسيني أو الزينبي أو السلطان الحنفي لصلاة الصبح، ثم يقصد دار الكتب للنسخ.
ويتناول طعامه في أحد مسامط الحسينية المعروفة.
لا يُعنى في ثيابه إلا بحذائه، وهو «تغييرة فاسي» صفراء فاقع لونها، وهو يسميها بلفظه المعسول «بغلة».
ولو أنه ملك يومًا عشرة جنيهات، لطار بها إلى الفحامين واقتنى بها أكبر عدد من البغال «شيالة الحمول».
ولا يقتني من الكتب إلا ديوان المتنبي.
ولما أحاط به الشعراء في حفلة التتويج وبايعوه أميرًا عليهم، وقف وسطهم وأنشدهم قصيدة غراء قال فيها:
فهنيئًا للبرنس بإمارة الشعراء ورياسة الأدباء الذين أمَّروه عليهم، ورأَّسوه اعترافًا بنبوغه وأدبه ورزانته وصبره على المكاره.