المغنية توحيدة فخر
عُرضت على الدائرة الثانية في محكمة مصر المختلطة القضية التي رفعها أولاد نقولا فخر مطالبين فيها بنصيبهم في ميراث «لطيفة فخر».
وهذه القضية هي إحدى قضايا أخرى معروضة على المحاكم الأهلية والشرعية والملية.
قَلَّ من يعرف من هي «لطيفة فخر».
ولكن إذا قلنا إنها «الأسطى توحيدة، مغنية ألف ليلة».
قال الكل: اسم الله!
مانولي، توحيدة، ألف ليلة!
عناصر ثلاثة متفقة مؤتلفة، لبثت خمسًا وعشرين سنة نقطة دائرة الطرب والرقص في أزبكية القاهرة المحمية.
وفدت لطيفة فخر إلى مصر لثلاثين سنة إثر موقعة كانت تذكرها لطيفة كلما أرادت تعليق الحلق في أذنيها.
ولم تلبث أن اعتلت عرش «ألف ليلة»، وهي فتاة مياسة القوام، لدنة المعاطف، هيفاء، دعجاء، تقطر شفتاها رحيقًا.
وكان للرقص البلدي دولته، فأتقنته لطيفة، وفازت في ميدانه.
كانت مغنية ألف ليلة السيدة بهية، وكبيرة الراقصات أختها نظيرة، وتأتي معهما من حين إلى آخر أختهما فاطمة.
ولاحظ الخواجا مانولي أن محاميًا وطنيًّا كبيرًا، رحمة الله عليه، اتصل بالسيدة بهية فارتاب الخواجا، وبث عيونه وأرصاده، فجاءوه بالخبر اليقين وهو أن المحامي يفاوض المغنية في ترك ألف ليلة بعد انتهاء الكونتراتو على أن يفتح لها ولأختها قهوة خاصة.
واحتاط مانولي للأمر، فخلع عن لطيفة حزام الرقص وسلمها إلى أساتذة الفن محمود البولاقي رحمه الله، وعطية محمد، وعوض الجرجاوي، فلقنوها ما تيسر من مبادئ الغناء والعزف على العود.
وظهرت بعد ستة أشهر «الأسطى توحيدة»، يحيط بها عطية بالعود، والبولاقي بالرق، والجرجاوي بصوته الصَّبا، وأبو غنيمة بالكمنجة، وخمسة من السنيدة المعروفين.
وصبر السميعة الأصوليون سنوات حتى شبطت توحيدة في الفن وعرفت كيف تحرك أوتار العود وتهز الرق، وتخرج الآهات سليمة.
وقيد الخواجة مانولي السيدة توحيدة بشروط، وتعاقد معها على أجرة الغناء ونصيبها في «الفتح»، وأركبها عربة فخمة خاصة يجرها جوادان كبيران.
وكانت ليالي «الفتح» في عزها.
كل ليلة عشرات من زجاجات الكونياك والأستوت والشمبانيا تفتح للسيدة توحيدة، وتأخذ من كل زجاجة قيراطًا، وترشف من كل كاس شفطة، وثمن كل زجاجة جنيه نقدًا وعدًّا.
وذهبت ألوف الجنيهات في سبيل «الفتح»!
وتوحيدة تأخذ أجر غنائها، وتأخذ نصيبها من الفتح، وتتناول من هذا ومن ذاك باليمين واليسار، لها حسابها الخاص وللخواجا مانولي حسابه الخاص.
والشغل شغل، على ما يقول الإنكليز.
أما السيدة بهية فقد خرجت من ألف ليلة، وأنشأ لها المحامي قهوة راقصة في شارع وجه البركة، ولكنها لم تعمر طويلًا فتزوجها المحامي الكبير.
وبقيت السيدة توحيدة تغني، وإلى جانبها الرقاصات. كل شهر راقصة جديدة، ومغنية ألف ليلة لا تتغير ولا تغيب عن التخت إلا ساعات معدودة في ليالٍ معدودة، هي الليالي التي كانت تحييها في الأوبرا لبعض الجمعيات الخيرية.
وكانت تذهب مع تختها لإحياء هذه الليالي بدون أجر، وتقدم في آخر الليلة مبلغًا معاونة للجمعية مساهمةً منها في عمل الخير.
وفي هذه الليالي كان ينوب عن السيدة توحيدة في ألف ليلة بعض كبار المغنين مثل: سيد الصفتي ومحمد سالم العجوز وداود حسني.
وأخذت دولة الرقص تدول في أيام الحرب الكبرى، إذ قيدت السلطة العسكرية حركات الراقصات وسكناتهن وملابسهن بقيود شديد، وعطلت عدة قهوات راقصة، ولم يبق غير ألف ليلة ومغنيتها المشهورة.
•••
ومات الخواجا مانولي لسبع سنوات خلت.
وقُفلت قهوة ألف ليلة، ثم أعاد ورثته فتحها ولكنها لم تنل شهرتها الماضية.
وهكذا كان أمر توحيدة، فقد لزمت الحداد زمنًا على الخواجا مانولي، ثم مالت نفسها إلى العودة للتخت، فانتقلت من ألف ليلة إلى شارع عماد الدين.
وكان «للصبا نجم أفل» على ما يقول ابن الوردي.
فلم تقوَ حنجرة توحيدة على منافسة حناجر نجاة علي وبثينة وفاطمة سري، ولم يقوَ جسمها على محاربة الأجسام الألامود.
وعرفت أن الله حق فلزمت بيتها.
ثم انتقلت إلى رحمة الله.
وكاد الناس ينسون اسمها حتى ذكرتنا به مرافعة المحامين في محاكمنا المختلفة.