علي الغاياتي
عرفت الصديق الغاياتي سنة ١٩٠٦.
في هذه السنة سافر المرحوم إمام العبد وبعض إخوانه إلى دمياط.
وكان الغاياتي يعلم الصبيان القرآن الكريم واللغة العربية.
فما زال إمام به حتى أقنعه بأن يخرج من مقبرة دمياط ويأتي إلى القاهرة، حيث المجال واسع والدنيا عريضة لبناء مستقبله وإعلان علمه وفضله وأدبه وشعره ونثره.
فحضر الغاياتي إلى مصر، وتجرع كأس البؤس شهورًا إلى أن دخل مصححًا في جريدة اللواء، ومن اللواء إلى العلم في عهد المرحوم الشيخ عبد العزيز جاويش.
وفي أثناء عمله في التصحيح كان ينشر بعض رسائل أدبية وقصائد وطنية حماسية.
وبعد مقتل المرحوم بطرس غالي باشا (سنة ١٩١٠) جمع هذه الرسائل في ديوان باسم «وطنيتي»، وكتب مقدمته المرحوم محمد فريد بك.
وبينما كان الغاياتي مارًّا بشارع محمد علي قابل المرحوم الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، وقدم إليه نسخة من «وطنيتي» لتقريظه.
وكان صاحب المؤيد حانقًا على جماعة الحزب الوطني فانتهز الفرصة لإيذائهم، فانتقى من الديوان كل «ما يودي في داهية» ونشره في مقالة بدأها بقوله: بعد استئذان قانون المطبوعات وقانون العقوبات نقتطف من كتاب «وطنيتي» للشيخ علي الغاياتي بعض أبياته إجابةً لطلبه، غير محتملين مسئولية ما فيها.
وكانت هذه المقالة «ورقة اتهام» مهدت السبيل لمحاكمة الشيخ الغاياتي.
وأحس رجال الحزب الوطني بالخطر فهرَّبوا الشيخ الغاياتي إلى إستامبول.
وحوكم المرحوم محمد فريد بك وحُكم بحبسه ستة أشهر، وحُكم على الشيخ الغاياتي غيابيًّا بالسجن سنة.
ولم تَرُقْ «دار السعادة» في عيني شيخنا الغاياتي، فركب قطار الشرق إلى جنيف، وبدأ حياة جديدة.
عاد إلى شَظَف العيش في الغربة، وذاق الأمرَّيْن في الحصول على الكفاف، ولكنه تجلَّد واحتمل وبدأ يتعلم اللغة الفرنسوية حتى نال منها نصيبًا يمكِّنه من المخاطبة والتفاهم ثم الكتابة وتحرير الصحف.
وزرته في جنيف سنة ١٩٢١، فإذا السنوات العشر قد غيرت ذاك الشيخ الهزيل صاحب الجبة الطويلة الأردان، ورأيت شابًّا ممتلئًا صحة وعافية مبرنطًا أنيق الثياب.
الشيخ علي الغاياتي المصحح في العلم أصبح «مسيو جاياتي» المحرر في صحيفة «تريبون ده جنيف» يلخص أقوال صحف الشرق، ويحرر مقالات في المسائل الشرقية السياسية، ويعرف رجال حكومة جنيف ورجال جمعية الأمم، وله عندهم مكانة سامية.
وأخذني إلى بيته وقدمني إلى السيدة زوجته وهي شابة سويسرية، وكان له وقتذاك على ما أذكر ثلاثة أطفال.
وسمعت ممن صادفتهم حينذاك من الطلبة ثناءً جمًّا على ما يبذله الشيخ الغاياتي لهم ولغيرهم من المصريين الغرباء من خدمات أدبية ومادية.
وحاول الشيخ أن يراسل إحدى الصحف العربية في مصر أو سوريا أو غيرهما فلم يفلح، إذ كان يكتب لهذه وتلك فلا ينال منها غير مواعيد عرقوب، حتى إن السيدة زوجته لم تكن تراه يكتب رسالة بالعربية حتى تخطف القلم من يده وتمنعه من تسطير رسائل لا فائدة منها إلا إضاعة الوقت.
ومنذ اثنتي عشرة سنة أنشأ جريدة «منبر الشرق» بالعربية والفرنسوية، ولكنه أبطل القسم العربي، ولا يزال يصدرها نصف شهرية بانتظام باللغة الفرنسوية.
وقد عانى كثيرًا من التعب في سبيل تثبيتها ونشرها فنال بعض ما تمنى، وهي وإن كانت غير معروفة في مصر فهي معروفة في جنيف، وفي كثير من الأوساط السياسية التي تهتم بشئون الشرق.
وأتى الشيخ الغاياتي إلى مصر بعد الهدنة فأُلقي القبض عليه وحُجز في تخشيبة المحافظة ثم أُعيد إلى سويسرا.
ثم سُمح بدخوله إلى مصر فأتى بعد ذلك، فكان موضوع رعاية إخوانه وتكريمهم وعطفهم عليه.
هذا هو الشيخ الغاياتي الأزهري الوطني الذي قاسى كثيرًا في سبيل الوطنية.
والمصري الذي كافح وجاهد فكان خير مثال لإخوانه المصريين الراغبين في الحياة الحرة؛ غير معتمد على مساعدة فرد أو جماعة.
وفي السنوات العشرين التي قضاها شيخنا في غربته، وأخصها أيام الحرب العظمى، أخبار وحكايات وأسرار نشر الأستاذ بعضها، وأخصها طريقة تهريبه من مصر.
أعانه الله على وقته، ويسَّر له العودة إلى بلاده التي لا يزال يهجس بها في صحوه ونومه.