عدلي يكن باشا
مساء الأحد ٢٢ أكتوبر سنة ١٩٣٣.
الحزن يشمل الأندية العامة التي اتصل بها نعي عدلي يكن باشا قبل أن تذيعه الصحف.
لفظ عدلي أنفاسه الأخيرة في مدينة النور التي عرفها صغيرًا وأحبها كبيرًا، بعد أن تلقَّى وهو حدث كتب راسين وكورني في مدرسة «مارسيل» معهد أبناء الذوات في القاهرة، كما تعلم التركية في بيت والده بمصر وإستانبول.
وأُغرم بالأدب الفرنسوي وهو كاتب صغير في نظارة الداخلية فسهر الليالي في الدرس، ولم ينقطع ليلة عن المطالعة وقراءة المطولات في علوم السياسة والإدارة والقانون وتعلم اللغة الإنكليزية.
فلما كان مديرًا للشرقية كان يفر من المجالس والسهرات ويعمد إلى تصفح الجرائد الحاوية نصوص المرافعات في قضية دريفوس واسترهازي ومرافعات لابوري الحرفية.
فإذا كان في باريس فهو الزبون الدائم لكشك بائعة الجرائد القريب من «الكافيه ده لا بيه»، يأتي إليه بنفسه وينتقي بيده أهم الصحف اليومية والجرائد الأسبوعية وكل ما هناك من دوريات وغير دوريات يعرف كتابها وأبحاثهم.
وعدلي الكاتب الصغير في الداخلية هو عدلي وكيل المديرية، وعدلي المدير، وعدلي المحافظ، وعدلي الوزير، وعدلي رئيس الوزارة، وعدلي المفاوض، وعدلي رئيس مجلس الشيوخ. الإنسان الصحيح، مثال الرقة والذوق والأدب والكياسة و«الجنتلة» بأقصى معانيها.
بعد اسم «سعد زغلول» تبرز في صفحة النهضة الوطنية ثلاثة أسماء كبيرة: رشدي، وعدلي، وثروت.
الوزراء الوطنيون الثلاثة الذين حرسوا الأمانة في أيام الحماية، وكانوا طليعة المؤيدين للدعوة إلى الاستقلال.
في ١٠ أكتوبر سنة ١٩١٧ أصدر عظمة السلطان فؤاد (صاحب الجلالة الملك فؤاد) أمره إلى المرحوم رشدي باشا بتأليف الوزارة، فثبَّت وزارته التي كانت قائمة منذ ١٩ ديسمبر سنة ١٩١٤.
وفي الوزارة الجديدة كان عدلي باشا كما كان في الوزارة السابقة وزيرًا للمعارف.
وقدمت الوزارة استقالتها في أول مارس سنة ١٩١٩، إذ رفض المعتمد البريطاني الإذن للوفد المصري بالسفر إلى لندن لرفع مطالب مصر.
وبقيت البلاد بلا وزارة حتى سُمح للوفد المصري بالسفر إلى لندن، فألَّف رشدي باشا وزارته الرابعة في ١٩ أبريل سنة ١٩١٩، واختير عدلي باشا وزيرًا للداخلية.
وفي عهد هذه الوزارة وصل رجال الوفد المصري إلى باريس، وطرقوا باب مؤتمر فرساي ورفعوا صوت مصر وقدموا مطالبها. واعتصب موظفو الحكومة، وعبثًا حاول المرحوم حسين رشدي باشا إرجاعهم إلى أعمالهم فرفع استقالته في ٢١ أبريل سنة ١٩١٩.
وبقي «مثلث رشدي عدلي ثروت» بعيدًا عن الحكم في الوزارات الإدارية الثلاث التي أُلِّفت بالتوالي، برياسة محمد سعيد باشا فيوسف وهبة باشا فمحمد توفيق نسيم باشا.
ثم عاد المثلث إلى الوزارة التي أُلِّفت في ١٦ مارس سنة ١٩٢١ برياسة عدلي باشا، وعيَّن فيها صدقي باشا نائبًا للرياسة، وثروت باشا وزيرًا للداخلية.
وسافر الوفد الرسمي برياسة عدلي باشا إلى لندن في أول يوليو سنة ١٩٢١، وفاوض اللورد كرزون، وأسفرت المفاوضة عن المشروع الذي رفضه الوفد فرفع عدلي باشا استقالته في ٨ ديسمبر سنة ١٩٢١ وقُبلت في ٢٤ من الشهر المذكور.
وبقيت الحكومة بلا وزارة حتى أول مارس سنة ١٩٢٢، ثم توالت وزارات ثروت باشا، ونسيم باشا، ويحيى إبراهيم باشا، فوضعت الدستور وأجرت الانتخابات.
وأَلَّف سعد باشا الوزارة الدستورية الأولى، ثم سقطت على أثر مقتل السردار، وعقبتها وزارة زيور باشا.
وشكل عدلي باشا وزارته الثانية في ٧ يونيو سنة ١٩٢٦، وهي الوزارة الدستورية الائتلافية التي استعفى عدلي باشا من رياستها في منتصف شهر أبريل سنة ١٩٢٧.
وعاد فشكل وزارته الثالثة في ٤ أكتوبر سنة ١٩٢٩ على أثر إسقاط وزارة محمد محمود باشا، فاستصدر مراسيم ملكية بإلغاء القوانين الاستثنائية التي سنتها وزارة محمد محمود باشا، وأجرى الانتخابات لمجلس النواب.
وقال دولته حينذاك في حديثٍ له مع مكاتب جريدة «شيكاغو تريبيون»: «إني أتمنى من صميم فؤادي أن يقبل البرلمان الجديد المعاهدة، فإنا لم نتقدم تقدمًا يذكر في السنوات العشر الماضية في شئوننا الداخلية بسبب التغييرات الوزارية والقلاقل السياسية، وها قد سنحت لنا الفرصة الآن للخروج من حالة لا تطاق.»
لم يشهد مجلس الشيوخ عهدًا منظمًا مطمئنًّا مثل الفترة التي جلس فيها عدلي يكن على كرسي رياسة هذا المجلس، وعرف كيف يضبط الجلسة ويدير المناقشة ويفض المشاكل الكلامية دون أن يغضب عضوًا أو يغري عضوًا بعضو.
ناحية أخرى من حياة عدلي باشا القومية، هي رياسته لأكبر جمعية خيرية في مصر، هي الجمعية الخيرية الإسلامية.
أبعدها عن السياسة وعن الحزبيات، وقبض على دفة ماليتها، فكبرت ونمت وتشعبت فروعها وعلت صروح مبانيها ومعاهدها.
كان عدلي في الوزارة ومناصب الحكم مثله وهو خارج الحكم الرجل النبيل المفكر.
كانت الأمة في انتظاره لينقذ الموقف ويقود البلاد في حركتها القادمة.
ولكن هذه البلاد تعسة فقيرة في رجالها.
وليس فينا من يمكنه أن يردد قول الشاعر: إذا مات منا سيد قام سيد.