الكُتْبي يوسف إليان سركيس
قبل أن يُشَقَّ الشارع الجديد الموصل بين الأزهر الشريف والدرَّاسة فالمشهد الحسيني، كان هناك شارع الحلوجي، أعمر شوارع مصر بالكُتْبية وأحفلها بالوراقين وتجار الكتب القديمة والتغايير والنواقص والمخاريم.
ولولا ما كان يتخلله من دكاكين قليلة للقصَّابين والفطاطرية، فإنك إذ كنت تمر به تظن نفسك في دار علم لوفرة العاكفين على تصفح الكتب وتقليبها ومساومة تجارها في دفع ثمنها نقدًا أو عينًا ومبادلة.
ومن الأسف أن يزول هذا الشارع صاحب الفضل العميم على علمائنا وأدبائنا دون أن يفكر واحد منهم في تاريخه ووصف ذكرياته فيه وملاطشاته للشطار من تجاره.
وعبثًا حاول شارع الفجالة أن يبَزَّ شارع الحلوجي وينافسه في تجارة الكتب، ولكن شارع الفجالة امتاز باتساع مكاتبه، وجمال فتريناتها، واختلاف درجاتها، فهو اليوم ولا نزاع شارع الكُتْبية والكتب، يقصده طالب العلم في المدارس ومحب الاطلاع على المطبوعات الحديثة والروايات الأخيرة والكتب «النص عمر»، كما يقصده نظار المدارس الأهلية للتوصية على الطلبات بالجملة وتجار الكتب في الأرياف.
فلا غرابة إذا أصبح لكل واحد من أصحاب مكاتب الفجالة اختصاص وزبائن معينون، وامتاز كل واحد منهم بدرجة معينة من العلم بفن الكتب وتجارتها.
فمنهم الجاهل الذي تضحك عليه، ومنهم الحريص الذي يكفيه نظرة واحدة إليك ليتبين درجة حاجتك إلى كتاب تقلبه بين يديك، ومنهم الخبير بالكتب النادرة والمطبوعات القديمة في مصر والشام والهند.
وكان شيخ هؤلاء التجار العلماء وأكبرهم سنًّا وأحذقهم وأدراهم المرحوم يوسف إليان سركيس الدمشقي، الذي توفي تاركًا فراغًا يعسر ملؤه ولو طال الزمن وكثر عدد المتوثبين على تجارة الكتب والنظر فيها.
ولد المرحوم سركيس في دمشق سنة ١٨٥٦، واستوطن وأهله مدينة بيروت بعد حوادث سنة ١٨٦٠.
وقضى ٣٥ سنة في خدمة البنك السلطاني العثماني كاتبًا ومديرًا في بيروت ودمشق وقبرص وأنقرة والآستانة. ثم جاء إلى مصر سنة ١٩١٢، واشتغل بتجارة الكتب القديمة والتوصية على ما يطلبه تجار الجملة وغيرهم من مكاتب سوريا وتركيا.
وبدأ عمله بمصر في شقة بأحد منازل شارع الفجالة، ثم أنشأ المكتبة المعروفة باسمه وأولاده أمام قهوة الشانزليزيه.
ولكنك قلَّ أن كنت تجده في مكتبته؛ لأنه لم يكن يفتر عن السعي و«الجري والرَّمْح» وتحت إبطيه رزمة من الكتب القديمة، فإما «لقطة» ابتاعها بالثمن البخس أو «بيعة» لدار الكتب وغيرها من الهواة.
ولم تمنعه مشاغل الوظيفة في البنك العثماني وتجارة الكتب القديمة والحديثة عن العمل لخير الإنسانية، فتولى رياسة جمعيات خيرية عدة في بيروت ومصر، وأنشأ ملجأ في بيروت لإيواء أبناء الفقراء وتعليمهم، فتخرج فيه المئات مزودين بالعلم والأدب والصناعات اليدوية المختلفة.
ووضع في أيام شبابه وكهولته عدة كتب تأليفًا وترجمة، منها: «أنفس الآثار في أشهر الأمصار» (وهي رحلته من الآستانة إلى روما في سنة ١٩٠٣)، و«الرحلة الجوية في المركبة الهوائية» مترجمة عن جول فيرن، و«عاصٍ وشجعان»، و«مائة حكاية وحكاية» بالفرنسوية والعربية، و«مختصر التاريخ المقدس» باللغتين. ووقف على طبع كتاب «الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب» لابن الشِّحْنة، وكتاب «جامع الحجج الراهنة» للمطران يوسف داود مع تذييله بنقد علمي تاريخي.
على أن أهم ما كان يمتاز به الخواجا سركيس منذ حداثته النظر العميق في الآثار وجمع النقود القديمة والعناية بالكتب القديمة والمخطوطات ودراستها.
وكتب مقالات باللغة الفرنسوية عن الآثار في تركيا، كافأته عليها الحكومة الروسية القيصرية بتعيينه عضو شرف في معهد الآثار الروسي.
وقام بخدمات جليلة لمكتبة الفاتيكان فأنعم عليه قداسة بابا روما بوسام القديس جريجوار من رتبة شفاليه.
وقد تجلى علمه بفن الكتب في كتابه «معجم المطبوعات العربية والمعربة في الأقطار الشرقية والغربية مع ذكر أسماء مؤلفيها ولُمع من تراجمهم من عهد ظهور الطباعة إلى نهاية سنة ١٩١٩»، وقد صرف في تأليفه وترتيبه عشرين سنة ونيفًا، وتفرغ في آخر حياته للعناية بطبعه.
ومع كل ما يَعْتَوِر هذا الكتاب من نقص وما وقع فيه من نقص ومن أخطاء، فلا جدال في أنه كتاب قيم يدل على سعة الاطلاع والمراجعة والترتيب والتنسيق.
وكان في نية المؤلف أن يضع للمعجم ملحقات سنوية يضمنها أسماء كل ما تخرجه المطابع العربية من المطبوعات المختلفة، وطبع من هذه الملحقات أجزاء والظاهر أنها لم تلقَ ما كان يرجو لها من إقبال فلم يصدرها بالتوالي.
هذا هو الرجل الذي فقده شارع الفجالة وخسره عالم الكتب. رحمه الله، وعوضنا خيرًا في زملائه من كُتْبية الفجالة وطبَّاعيها وناشريها!