توفيق مكرم
نعت الأهرام المرحوم «توفيق مكرم».
والرجل كهل في العشرة السادسة من سِنِي حياته. تلقى من العلم القدر الذي كان يتلقاه أبناء الطبقة الوسطى من أهل زمنه، ودخل فتًى في خدمة سكة الحديد، وقضى أيام شبابه في وظائف «الحركة» بالمحطات، ثم عيِّن رئيسًا لأحد أقلام قسم الهندسة، وأحيل إلى المعاش بحسب التشريع الوقتي، وأصيب منذ سنتين بمرض ألزمه الفراش حتى دعاه ربه فاستجاب الدعوة.
ليس هذا توفيق مكرم الذي أريد الكتابة عنه، فهذه الشخصية عديد أمثالها، وألوف يخدمون الإدارة والهندسة والحركة، ويأكلون ويشربون ويتزوجون وينسلون ويموتون.
ولكن «توفيق مكرم» كان شخصية أخرى، كان رجلًا لا يعرف غير ديوانه وبيته، وقضى في بيته ثلاثين سنة جادًّا مجدًّا في اختراع أو ابتكار ما سماه «الطوب المعشَّق» أو «البناء دون مونة»، وهو نوع من الحجر الصناعي يمكن أي شخص أن يبني به بيته بيده، فلا يحتاج إلى مهندس أو بنَّاء أو صانع سلالم أو مبلط؛ لأن «طوب مكرم» مصنوع بطريقة تنفع لتشييد الحيطان والسلالم والسقوف معًا بأقل من نفقة البناء العادي كثيرًا.
لم يكن توفيق مكرم مهندسًا ولا شبه مهندس، ولكنه بدأ بتجاربه من باب التسلية وقطع الوقت. وفي بيته معرض بديع لهذه التجارب وأنواع ونماذج الطوب، مصنوع بعضها من الخشب والبعض من الجبس، تبين لك تطور الابتكار وكيف كان معتدًّا حتى أصبح الآن طوبة واحدة تنفع للزوايا والشبابيك والأبواب.
فاتح بعض أقاربه وأصدقائه في الموضوع فرموه بالعَتَه والجنون والخيبة وإضاعة المال وحرمان أولاده القوت، فلم يبالِ بهم وسار في عمله. وانضم إليه نجار وبنَّاء ساعداه زمنًا طويلًا دون أجر، ولمح ماليٌّ بوارق النجاح فمده بنحو خمسمائة جنيه ذهبت كلها في التجارب والمحاولات والرسومات.
وعبثًا حاول أن يجد مساعدة من كتَّاب الصحف ومحرريها، فالبعض تكرم عليه بسطور، والبعض تمحَّل العذر بدعوى أن الموضوع فني لا يحتمل مسئولية الكتابة فيه، وقال له آخرون: إذا كنت تنتظر ربح الألوف من الجنيهات فنحن لا نكتب لك مقالة إلا بعشرات الجنيهات.
وسعى لدى كبار المقاولين فصرفوه بالتي هي أحسن لِتَأَكُّد الكثيرين منهم أنه «يبوظ عليهم الصنعة».
وتردد على وزارة الأشغال، ودعا هذا وذاك من المهندسين وسألهم أن يبدوا له رأيهم كتابة بصلاح الابتكار أو فساده فأصروا على الإباء.
وعرض المشروع على أعضاء الرابطة الشرقية بخطبة مسهبة مفصلة بنماذج من الحجر، وخرجوا من الجلسة كما دخلوها.
وشيَّد دارًا صغيرة في المعرض الزراعي الصناعي سنة ١٩٢٥ زارها مئات الألوف وسأل بعضهم عن كيانها، والله يحب المحسنين!
وسمحت له مصلحة التجارة والصناعة بإقامة «كشك» في فناء المصلحة يمر به الزائرون مرور الكرام.
ولكن ذلك كله لم يُقعد المبتكر عن تجاربه ومحاولاته، فأنفق عليها جزءًا من «بدل المعاش»، ولم يغفل وهو على فراش الموت عن العمل ليلًا ونهارًا، وذهبت الروح إلى بارئها والرجل يتألم لأنه لم يرَ ثمرة جهده، لسبب واحد هو أنه مصري، وليس في مصر واحد أو جماعة تقدِّر اكتشافًا أو اختراعًا!