مرقس حنا باشا
نعي صباح يوم ٢٨ يونيو سنة ١٩٣٤ المرحوم مرقس حنا باشا.
كان أقدر الوفديين في وزارة عدلي باشا. وهو ابن قسيس قبطي، تعلم في مصر ثم رحل إلى باريس حيث أتم دراسته. وكان قد نجح في المحاماة وحصَّل منها أعلى مركز مالي حسن. أما في السياسة فإنه كان من أول الأعضاء الذين انضموا إلى الحزب الوطني لتأييد مصطفى كامل مؤسسه الحقيقي، وبعد الحرب انضم إلى سعد. وفي سنة ١٩٢٢ اصطدم بالسلطة العسكرية البريطانية، وبعد مدة حكم عليه بالإعدام لقيامه بأعمال ثورية، ثم خففت الحكم إلى خمس سنوات في الأشغال الشاقة، وأخيرًا فرِّج عنه في مايو سنة ١٩٢٣. وهو رجل زكيٌّ رضيُّ الأخلاق مهذَّب الإشارة، وله مقام كبير بين طائفته. ولكن التسامح أو سعة الأفق في الرأي ليسا من صفاته، ولم يكن لهما أثر الرقابة على أعماله العامة.
لولا هذا «الاستدراك» الأخير في كلام المندوب المحافظ، لكانت كلماته خير وصف مجمل لمرقس حنا.
ولكن اللورد المستعمر لا يقصد التاريخ، بل لا بد له من التصوير والتلوين السياسي باللون الذي يراه من وراء نظارته الاستعمارية.
المرحوم القمص يوحنا والد الأصولي مرقس أفندي حنا، وكان يدعى أولًا نقولا أفندي وصفي، ابن المعلم مرقس أسعد دميان من المنصورة. رسم قسيسًا لطنطا بعد أن كان ناظرًا لمحطة تلا يوم ١١ هاتور سنة ١٥٩١، وتوفي يوم ١٠ برمهات سنة ١٥٩٦ ودفن بطنطا.
أدخل مرقس حنا صغيرًا إلى مدرسة النورمال التوفيقية في عهد المرحوم بلتيه بك.
وكان من زملائه فيها المرحوم ويصا واصف والمرحوم ثروت باشا والأستاذ مرقس فهمي وحسن حافظ باشا.
ثم أُرسل إلى أوروبا فتلقى الحقوق على نفقة أهله.
وعاد إلى مصر لأربعين سنة ونيف.
وشارك الشبان المصريين الذين تحمسوا للخديو عباس، فهاجموا عربته وحلوا خيولها وجرُّوها إعلانًا لفرحهم بتوليه عرش مصر، وتأييدًا لسياسته الوطنية المضادة للإنكليز.
واشتغل زمنًا وكيلًا للنيابة في دمنهور، ووضع كتابًا شرح فيه القانون الإداري المصري، كان الأول من نوعه.
ثم استقال من النيابة، واندمج في سلك المحاماة بأسيوط.
وانتقل من أسيوط إلى مصر، فاشترك مع المرحومين ويصا واصف وأنطون يزبك في مكتب بأول شارع الفجالة.
وساهم مرقس حنا في جميع الحركات الطائفية والسياسية والاجتماعية والأدبية التي جرت بمصر في الخمس والعشرين سنة الماضية.
كان عضوًا عاملًا بارزًا في المجلس الملي القبطي العام، وله مع البطريرك السابق الأنبا كيرلس الخامس وقفات معروفة.
واشترك مستترًا في الحملة التي أقامها الشبان الأقباط على الدير المحرَّق، وتولى الدفاع عن المتهمين فيها فبُرِّئت ساحتهم كلهم ما عدا «الصحافي العجوز» وكان قائد الحملة وموقد نيرانها، فحُكم عليه بالحبس شهرًا مع إيقاف التنفيذ.
ولم يَنِ عن الدعوة إلى تعليم البنات وتثقيف ألبابهن.
فكان القبطي الوحيد من الأعيان وأهل الرأي الذي وافق على دعوة الدكتور مرقس صادق لإعطاء البنت حق الولد في الميراث.
وله مرافعة بديعة ومذكرة أنيقة في قضية الآنسة أسما منصور، وقد تطوع للدفاع عنها في مطالبتها بدخول البنات في امتحان الكفاءة.
ثم قام بالدعوة إلى إنشاء كلية البنات القبطية في خطبة ألقاها في احتفال توزيع الدبلومات بكلية البنات الأمريكية، وأُلِّفت لجنة لإنشاء الكلية فاشترك فيها وبذل كل جهد في مساعدتها بماله ونفوذه ولسانه.
وكان عضوًا عاملًا في لجنة المؤتمر القبطي الذي عقد في أسيوط، وأبدى فيه آراء قيمة للتوفيق بين العنصرين.
وكان عضوًا عاملًا كذلك في جمعية الكشافة الأهلية تحت رياسة النبيل إسماعيل داود.
وكان في طليعة الذين لبوا الدعوة إلى إنشاء الجامعة المصرية سنة ١٩٠٨، واكتتب لها بمبلغ ١٠٠ جنيه، وانتُخب عضوًا عاملًا في أول مجلس إدارة لها.
وعرف إخوانه وزملاؤه المحامون الوطنيون فضله فانتخبوه غير مرة نقيبًا لهم، فكان خير عامل لترقية الصناعة وإعانة الزملاء الذين أعجزتهم السن والمرض عن مزاولة الصناعة.
وساعد اللجنة التي ألفها مجتمع الإصلاح القبطي لإقامة معرض للصور سنة ١٩١٨ واشتركت فيه السيدة زوجته وبناته، فكان وجودهن فيه باعثًا للفتيات المصريات على إظهار مواهبهن الفنية في الجفر والتصوير والرسم والنقش والزخرفة.
واشترك في الحركة الوطنية منذ نشأتها، فكان عضوًا في الوفد، وكان خطيبًا في الأزهر الشريف، وكان داعية للاعتصاب والاضطرابات، وكان النائب الوفدي في البرلمان والوزير في الوزارات الوفدية.
كان يشتغل في شئون طائفته ومصالح وطنه بعقله وأعصابه لا يبالي بوقت يضيعه ولا بمال يقذف به هنا وهناك في سبيل الخدمة العامة.
ولم يكن يعرف حق صحته عليه فأنهكه العمل ولزم فراشه منذ سنوات، وقد فقد كل شيء إلا الذكر العاطر والسمعة الطيبة رددها كل من عرف الرجل صغيرًا وكبيرًا، محاميًا ووزيرًا.