السيد محمد الساسي المغربي
وكذلك توفي (في يوليو سنة ١٩٣٤) الحاج محمد الساسي، التاجر المغربي المعروف في شارع الفحامين.
وشارع الفحامين كان لسنوات مضت مركز كبار التجار المغاربة، تجار الجملة والقطاعي في الأحرمة والبطاطين الجربي، والزيت المغربي، والشاي الأخضر، والبُلغ الفاسي، والنشوق، والطرابيش المغربي، والمَحافظ الجلد، وغيرها من حاصلات ومصنوعات المغرب الأقصى والأدنى، من بنغازي شرقًا إلى فاس غربًا.
ورحم الله أيام كانت تلك السوق عامرة بكبار التجار، ومنهم الحاج أحمد بنونة، وسعيد بن فايد، وابن شداخ، وقاسم الحلو، وإسماعيل بن دياب، وابن شعبان، وابن سحلية، وابن شقرون، والشيخي وغيرهم.
وكان الحاج محمد الساسي في طليعة القوم ومن رجالهم المعدودين، وقد اشتهر من بينهم بطبع كتب الدين والعلم والأدب، ونافس كبار الكُتْبية والطباعين في الحي الحسيني والنبليطة والحلوجي، ومنهم الخشاب والطوبي وعبد اللطيف والبابي الحلبي ومصطفى فهمي وسعيد الرافعي.
والحاج محمد الساسي المغربي سليل عائلة كريمة في تونس، نشأ نشأة طيبة.
ولما بلغ الثامنة عشرة تاقت نفسه إلى زيارة بيت الله الحرام وأداء فريضة الحج، فتم له ما أراد. ولما عاد من الحج إلى مصر اتخذها وطنًا ثانيًا له، واشتغل بتجارة الحرير في المحلة الكبرى.
وعاد إلى الحج غير مرة، وزار بيت المقدس.
ثم رأى أن يكون مجاهدًا في سبيل الله، فزج بنفسه في الجيش التركي في حرب تركيا وروسيا سنة ١٨٧٦، وعيِّن إمامًا لإحدى فرق الجيش، وحضر عدة مواقع أحرز فيها ثناء رؤساء الجيش ومحبتهم له، لما طبع عليه من دماثة الخلق وقوة الإيمان وعلو النفس.
ثم عاد إلى مصر، وصاهر إحدى العائلات الكريمة في المحلة الكبرى. ونزح إلى مدينة القاهرة، واشتغل في أول أمره بالتجارة في الحاصلات والمصنوعات المغربية، فاتسعت دائرة عمله وامتدت معاملاته إلى الشام وتركيا والهند وجاوه.
وسافر إلى أوروبا غير مرة، وزار المكتبات الكبرى، وخالط كبار المستشرقين.
ثم تاقت نفسه إلى طبع الكتب الدينية والعلمية.
وبدأ عمله بطبع مدونة الإمام مالك، فسافر إلى المغرب الأقصى، وبذل المال بسخاء ثمنًا لنسخة من المدونة مكتوبة على رق غزال، وعاد بها إلى مصر، وعُني بطبعها وتسهيل اقتنائها.
وكان طبع المدونة سببًا لقضية مدنية كبرى قامت بينه وبين زميله الخشاب، طال النظر فيها أمام المحاكم وانتهت بفوزه على خصمه.
ولم يكتف السيد الساسي بجلب المدونة وطبعها، بل أحضر من المغرب الأقصى بعض كتب أخرى خطية واقتنى مطبعة كبرى لطبعها.
ومن عيون المؤلفات التي طبعها كتاب المبسوط في مذهب أبي حنيفة.
وعُني كذلك بطبع الأغاني، وكانت قد عزت النسخ التي طبعت في المطبعة الأميرية وندرت. وعهد إلى الأستاذ محمد مسعود بتحقيق الفهرست والوقوف على طبعه.
وعُني كذلك بطبع «الحيوان» للجاحظ، و«المواقف» في علم الكلام، و«مقدمات ابن رشد»، و«البخلاء» للجاحظ، و«رسائل الجاحظ»، وغيرها من كتب الدين والتاريخ والأدب.
ورأى أن البلاد العربية في حاجة إلى خرائط جغرافية ملونة ومحررة بالعربية، فشمر عن ساعد الجد واضطلع بهذه المهمة، ووفقه الله إلى ما قصد. ولا تزال هذه الخرائط دليلًا على عزيمة الرجل وجهاده لخدمة العلم.
وأردف الخرائط بمصورات عربية لعلم الأشياء والتاريخ الطبيعي، مدونة كذلك باللغة العربية.
وأُعجبت وزارة المعارف بالخرائط والمصورات فقررت إدخالها في المدارس الأميرية.
ولم تلبث قليلًا حتى انتشرت في البلاد العربية كلها.
وكان الرجل مع كثرة مشاغله واتساع رزقه ووفرة ماله لا يتأخر عن طلب العلم والاستزادة منه، فلما أنشئت الجامعة المصرية لخمس وعشرين سنة كان أول من أسرع إليها لسماع المحاضرات التي تلقى بها في التاريخ والأدب.
ورأى أن مخازنه بعيدة عن داخل المدينة، ففتح مكتبة في عمارة الأوقاف بميدان العتبة الخضراء، وكتب على مدخلها أسماء مطبوعاته المشهورة.
ولكنها لم تلاقِ الإقبال الذي كان ينتظره فَقَفَلها، وحل محله فيها يونانيان يبيعان اللبن والحلوى فأزالا أسماء الكتب، وكتبا: اكميك قطايف. مهلبية. غريبة. فطاير. كنافة. بودنج. أرز بلبن.
ونالا ما لم يكن يحلم به السيد الساسي من هجوم الزبائن، ولم تمضِ عليهما سنوات حتى أثريا، وبنيا الدور والقصور. ثم وسَّعا دائرة العمل وأنشأا إلى جانب محل الفطائر والألبان قهوة تغص بالزبائن من الفجر إلى ما بعد منتصف الليل.
هذا هو الرجل الذي نَعَتْهُ الصحف كما تنعي عامة الناس الذين لم يخلفوا أثرًا ولا ذكرًا.