فرنسوي كوتي
نُعي من فرساي المسيو فرنسوي كوتي المالك السابق لجريدة الفيغارو، ومنشئ جريدة «صديق الشعب»، وصاحب مصانع العطور المعروفة باسمه، ومنشئ حركة التضامن الفرنسوي.
لم يكن كوتي من الشخصيات البارزة في باريس أو في فرنسا فحسب، بل كان من الأعلام البارزين في أنحاء العالم كله.
سلْ أية سيدة أو صبية من أهل الأناقة والشياكة عن كوتي، فتسمي لك نوعًا أو أنواعًا مختلفة من عطور كوتي التي تفضل أحدها على الأخرى، أو تخلط منها عطرًا بعطر بمقدار معلوم لتخرج منها مزيجًا طيبًا لا يتمتع به ولا يعرفه غيرها من زبائن ذاك «الماوردي» الباريسي معبود نساء العالم.
ماركة «كوتي» تنافس هنا وهناك بقية الماركات المعروفة فرنسوية وإنكليزية أو ألمانية من العطور الغالية الثمن.
اشتهرت عطور كوتي فبذل المال لكبار الكيماويين والمقطرين، فاستخرجوا له الأنواع المختلفة، وعهد إلى هذا وذاك من الفنيين فسموا كل عطر باسمٍ ساحر.
وكان للإعلان دوره في ترويج البضاعة الطيبة ذات الأسماء الرائعة.
اغتنى كوتي وأثرى، وامتلأت خزائنه بالذهب أولًا والبنكنوت ثانيًا، ففكر في عمل آخر يستثمر فيه ماله فلم يجد غير الصحافة.
فوضع يده على أكبر صحيفة سياسية أدبية في العالم.
وأي قارئ من قراء اللغة الفرنسوية لا يعرف «الفيغارو»؟
والذين لا يعرفون هذه اللغة يعرفون «الفيغارو» اسمًا.
والذين يجيدون اللغة ويتقنونها لا يقرءون إلا «الفيغارو»، ولا تلذ لهم مطالعة جريدة غيرها، لما امتازت به من أناقة الأسلوب حتى في الأخبار العادية.
والواقفون على حركة الأدب الفرنسوي الحاضر عامة والأدب الصحافي خاصة يعرفون أن الأقلام التي تحرر «الفيغارو» من أشهر الأقلام سواء في السياسة أو الأدب.
ومرت الحرب العالمية بأهوالها وتضاءلت أكثر الصحف الفرنسوية وغيَّر كثير منها ورقه وشكل طباعته، أما «الفيغارو» فما زالت محافظة على ورقها الأبيض الصقيل الناصع وحرفها الجلي الواضح.
وتمتاز «الفيغارو» على غيرها بالصفحة الأدبية الفنية العلمية اليومية، ثم بصفحة الأدب الأسبوعية الممتازة.
وهناك ملحق فني ﻟ «الفيغارو» فيه خبر ما يقرأ عن حركة الفنون، ومنذ سنوات أصدرت ملحقًا مصورًا بديعًا.
ثم أنشأت مجلة خاصة للأطفال والأحداث.
وهذه المطبوعات كلها لها مكانتها في الأوساط الأدبية والفنية، ويتباهى أنصار الصحافة الراقية والطباعة العصرية باقتنائها والاحتفاظ بها مجلَّدة تجليدًا فاخرًا.
وسراي «الفيغارو» وسط الشانزليزيه من السرايات المشهورة في ذاك الحي العالمي، لا مثيل لها في دور الصحف الباريسية كلها.
نعم أنشئت في المدينة عمارات على الطراز الجديد مثل عمارة الطان وعمارة الانترانسيجان، ولكن سراي «الفيغارو» معروفة عند الجميع بالقاعات الكبرى ذات الأثاث الفخم، حيث يستقبل الملوك والأمراء والعظماء من زوار باريس.
على أن «الفيغارو» وكتاب «الفيغارو» وملاحق «الفيغارو» وسراي «الفيغارو»، لا تعد شيئًا يذكر بجانب حكاية «صديق الشعب» التي أحرز فيها المسيو كوتي أعظم شهادة بأنه الصحافي الفراري الذي لا يبارى.
كانت «الفيغارو» ولا تزال صحيفة أهل الطبقة العليا.
فأراد المسيو كوتي أن تكون له إلى جانبها صحيفة شعبية تجمع كل مزايا الصحف اليومية من أخبار وصور ومقالات وتباع بنصف أو ثلث ثمن هذه الصحف، أي إنها تباع بسعر ١٠ سنتيمات (ورقًا) في باريس وضواحيها و١٥ سنتيمًا في الأقاليم، في حين أن الصحف الأخرى تباع بثلاثين سنتيمًا و٢٥ سنتيمًا.
أعلن المسيو كوتي خبر «المشروع»، فهاج الزملاء والشركاء، وهم جماعة أهل حول وطول وراءهم الشركات المالية الكبرى وعشرات الألوف من الباعة السريحة وأصحاب «الأكشاك» والمتعهدون الأصليون والفرعيون.
فوقف الجميع في وجه المسيو كوتي، وهددوه برفع دعوى أمام المحاكم طالبين منه الامتناع عن إصدار الجريدة وإنزالها إلى السوق بهذا السعر المخفض، ثم بالعطل والضرار والمصاريف و…
بنوا هذه الدعوى على أن المسيو كوتي متضامن معهم في ألا يبيع أحدهم صحيفته بأقل من ٢٥ سنتيمًا.
فرد عليهم المسيو كوتي بأنه كان متعاقدًا بصفته صاحب «الفيغارو»، أما الآن فهو يصدر «صديق الشعب» بصفته «المسيو كوتي» شخصيًّا.
وفي أثناء نظر هذه القضية، التي حُكم فيها لصالحه، وضع الخصوم العراقيل، وأقاموا الحوائل في وجه «صديق الشعب».
تضامنوا مع أصحاب المطابع الكبرى في أن لا يطبع أحدهم هذه الجريدة.
وأمروا الباعة وأصحاب الأكشاك في أنحاء فرنسا ألا يحملوا الجريدة ولا يضعوها في أكشاكهم.
واتفقوا مع شركات الإعلانات على ألا تنشر إعلاناتها في جريدة كوتي.
ولكن كوتي كان أقوى من الجميع، فلم يبالِ بتلك الحوائل والعراقيل. وأتى بعشرات الألوف من الصبيان والبنات وسرَّحهم في باريس والضواحي والأقاليم بأعداد «صديق الشعب»، ولم تلبث حتى فازت في السوق على الماتين والبتي بارزيان والبتي جرنال؛ لأن الجميع وجدوا فيها خير ما يُقرأ من مقالات تحررها أقلام كبار كتاب «الفيغارو» وغيرهم وأخبار جديدة، ونُتَف أظرف أهل الأدب.
وتم النصر لكوتي، وأقر له خصومه.
ومات كوتي، وأُنزل إلى قبره مستريحًا لأنه خدم بنات حواء وأبناء آدم بتعطير أجسامهم، وخدم الصحافة في «الفيغارو» التي تنازل عن ملكيتها منذ بضعة أسابيع، وفي «صديق الشعب» وهي اليوم أشهر صحيفة فرنسوية شعبية، وفي جمعية التضامن.
والعمر الطويل بعده لمولانا «أبو هنيدي» وإخوانه تجار التربيعة!