الصحافي نجيب هاشم
مات نجيب هاشم، أقدم مخبر من مراسلي الصحف العربية المصرية.
مات وهو يؤدي عمله، إذ كان واقفًا في محطة مصر يراقب حركة الذاهبين والآيبين ويحصي الكبار منهم، ويأخذ من هذا خبرًا ويتلقى عن ذاك نبأ.
بدأ عمله صغيرًا في جريدة الأهرام سنة ١٨٨٩.
أُرسل إلى الأقاليم وكيلًا يحصل الاشتراكات ويستطلع الشئون الداخلية بمحادثة المديرين والمأمورين وكبار الموظفين.
وخرج من خدمة الأهرام إلى العمل في المؤيد مخبرًا.
وكان يزاحمه في ذاك الحين المرحوم سامي قصيري في المقطم والمرحوم كامل دياب مراسل المؤيد في الإسكندرية.
وكان نجيب هاشم المجلى في الميدان، اشتهر بالسبق في جلب الأخبار والتفنن في استلالها.
وتناقل الزملاء عنه روايات وقصصًا تدل على الذكاء والفطنة.
فقد كان يجمع القصاصات من سلال المهملات.
وكان يقرأ في المرايا ما يكون موضوعًا على مناضد الموظفين.
وكان يأخذ عن السُّعاة والفراشين.
وكان يستنتج ويستخرج المجهول من المعلوم.
وبدأت شهرته وهو في المؤيد بقضية التلغرافات المشهورة، ثم كان له في كل حادثة يد.
وتنقل في جميع الصحف اليومية العربية بالقاهرة، وكاتب الصحف العربية التي كانت تصدر في الإسكندرية.
فاشتغل في المقطم، وفي جريدة مصر زمنًا طويلًا، وفي الوطن في أول عهد المرحوم جندي إبراهيم بك، وفي جريدة الإكسبرس، وفي جريدة الراوي لصاحبها يوسف طلعت باشا، وفي الجريدة عند أول صدورها، ومع الشيخ يوسف الخازن في جريدة الأخبار سنة ١٩٠٧، وفي الأهرام، ثم المقطم ثانيًا، وفي البلاغ.
ومن أهم ما يعرف عنه روايته خبر الاتفاق الإنكليزي الفرنسوي سنة ١٩٠٤ قبل أن تشير إليه صحيفة أوروبية أو مصرية أو شركة تلغرافية.
وأنشأ لثلاثين سنة ونيف جريدة «الخزان» أسبوعية، ولكنها لم تعمَّر طويلًا.
وكان يمتاز على الأغلبية الساحقة من المشتغلين بالأخبار بمعرفة جميع موظفي الحكومة الكبار من مصريين وأجانب، والمفوضين السياسيين، والقناصل الجنرالية، وكبار التجار والأعيان. فإذا كان هناك حفل أو اجتماع أملى عليك أسماء الجميع ووظائفهم دون أي خطأ في اسم أو وظيفة أو عمل.
وكان أنيق العبارة دقيقًا في اللغة قد يمزق عشرات من الأوراق قبل أن يكتب لك خبرًا في عشرين سطرًا، ولكنه يخرج من تحت يده مشرقًا مصقولًا.
وكان يعرف ما لا يعرفه سواه من نظام الحكومة وسير الأعمال فيها. وتنقل الأوراق من مصلحة إلى أخرى ومن قلم إلى آخر، فيلاحقها حتى يظفر منها بورقة فيأخذ منها ما لا يستطيع أن يدركه سواه.
وكان وهو مقيم في العاصمة صيفًا يدون لك أخبار بولكلي وكل ما يجري في هذا المصيف كأنه مقيم في الإسكندرية.
ولكن دائرة أخباره كانت محدودة لا تتجاوز ميدان لاظ أوغلي ومصلحة سكة الحديد، ولا يريد أن يعترف بما جرى في دائرة الأخبار من تغيير وامتداد، فلم تكن تعنيه حركة الأحزاب السياسية ولا الدوائر المالية ولا ما في السفارات والمفوضيات السياسية ولا البرلمان.
وكان من المستحيل أن يعتقد أن أخبار هذه الدوائر تهم القراء كما يهمها أخبار تعديل في نولون أصناف من البضائع أو حركة تنقلات في المحاكم.
عرفته في جريدة مصر سنة ١٨٩٨، وكان يعمل معه فيها المرحوم إسكندر شاهين والأستاذ عوض واصف.
ولم يكن عمله مقصورًا على الأخبار فقط، بل كان يكتب تعليقات على الأحوال الحاضرة بعبارته الأنيقة السلسة مفعمة بالنكتة الحلوة والتذكارات التاريخية.
لقد لعب نجيب هاشم دوره في الصحافة العربية، وقام بواجبه خير قيام.
ولكن شطرًا آخر لم يجد من يعاونه على إظهاره.
فقد كان صدره يحوي ما لا يعرفه غيره من أخبار طبقات الموظفين، وأسرار الدولة، وعلاقات الموظفين بالحكومة، والمشتغلين في الصحف، لأربعين سنة مضت.
سأله غير واحد من أصحاب الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية أن يدون لهم هذه الذكريات فتكاسل وسَوَّف ووعد واشتط في طلب الأجر.
ومات وماتت معه تلك الأخبار وما فيها من نوادر وظُرف. رحمه الله، وأحسن عزاء ذويه وزملائه!