ريمون بوانكاريه
توفي المسيو ريمون بوانكاريه رئيس الجمهورية الفرنسوية، وأطول رجال السياسة الفرنسوية عمرًا وعملًا بعد كليمانسو.
وأنت تستعرض حياة الأمة الفرنسوية وحكومتها لخمسين سنة مضت، فتجد اسم بوانكاريه في كل أثر وحادث كبير.
ظهر اسمه في أول شبابه عضوًا في مجلس النواب.
ثم دخل الوزارات وزيرًا، ورئيسًا، ثم رئيسًا للجمهورية.
وكان لرأيه المقام الأول في حوادث دريفوس وأغادير وحرب البلقان وسياسة توثيق عرى الاتفاق بين فرنسا وروسيا.
فلما أُطلقت رصاصة سراجيفو لعشرين سنة كان الرئيس بوانكاريه في زيارة القيصر نيقولا الثاني في مدينة سان بطرسبورج.
ورأس الجمهورية طيلة أيام الحرب العظمى.
ثم استُدعي لرياسة الوزارة فلبَّى الدعوة لخدمة بلاده.
ومما يذكر عن انتخابه لرياسة الجمهورية أن المسيو كليمانسو كان أكبر مزاحم له، وظهر في الدورة الصباحية للانتخاب أن الأغلبية لبوانكاريه، فاغتاظ كليمانسو، ودعا بوانكاريه إلى المبارزة، واجتمع الشهود في الحال، واتفقوا فيما بينهم على منع هذه المعركة، فتم لهم ما أرادوا.
وفي أيام الحرب دعا الرئيس بوانكاريه خصمه الشريف كليمانسو لرياسة الوزارة.
أتاني النمر (لقب كليمانسو) هائجًا كعادته، وأخذ يكيل لي المسابَّ والمطاعن، التي لم تكن تفارق لسانه وشِدْقيه، وكنت في مقدمة من يعرفون كليمانسو، ويتقبلون أقواله الخارجة من قلب طيب ونية سليمة، وأخيرًا بعد أن قال كل ما يريده لم أجد عناء في سبيل إقناعه برياسة الوزارة.
وكانت للمسيو ريمون بوانكاريه عناية بالأدب والتاريخ والفلسفة.
وبعد أن أتم دراسته العالية في باريس اشتغل بالصحافة، وكتب في الجرائد، وظهر نبوغه في كل ما كتبه.
وقبل أن يتولى رياسة الجمهورية انتهز فرصة خلوه من مناصب الحكم، واشترك مع ابن عمه المسيو هنري بوانكاريه العالم الرياضي، والمسيو إميل فاجيه الأديب الكبير، وأصدروا سلسلة مباحث في عشرين جزءًا بعنوان «على عتبة الحياة»، قصدوا بها تبسيط كثير من المبادئ العلمية والأدبية والفلسفية، وتولت طبعها مكتبة هاشيت المعروفة، ونالت إقبالًا عظيمًا، وانتفع بها عشرات الألوف ممن قرءوها واحتفظوا بها.
وللرئيس بوانكاريه مؤلفات كثيرة في الأدب والتربية، أذكر منها مجموعة مقالات في تربية المرأة العصرية وتعليمها.
وعُني في آخر أيامه بتدوين مذكرات عن أعماله السياسية وما رأته عيناه وجرى له بنوع أخص في أيام الحرب.
وقدَّر له علماء فرنسا وأدباؤها فضله وخدمته للأدب والسياسة، فانتخبوه عضوًا في الأكاديمي.
هذا هو فقيد فرنسا اليوم.
الرئيس العالِم الذي يمثل لنا الحكام السياسيين الذين رفعوا رأس الحكومة والجمهورية لما كان اليونان والرومان في أول مجدهم وسلطانهم.