سلطان باشا
ورد قبل ظهر أمس من قلِّيني بك (والمقصود به سعادة قلِّيني فهمي باشا أطال اللَّه بقاءه!) في مدينة غراتس بالنمسا تلغراف إلى سمو الخديو (محمد توفيق باشا)، يعلن له فيه أنه في صبيحة النهار المذكور انتقل إلى رحمته — تعالى — المرحوم سلطان باشا.
فتأثر سموه من هذا الخبر كل التأثر. وأمر — حفظه الله — بإرسال تلغراف إلى قلِّيني بك يأمره فيه باتخاذ الاحتياطات اللازمة لحفظ جثة الفقيد ونقلها إلى مصر حيث يُحتفل بدفنها.
ولا ريب أن الجميع يتلقون هذا الخبر بمزيد الحزن، أسفًا على فقد رجل له في التاريخ المصري شأن يُذكر. وسندوِّن في صحيفتنا زُبدة حياة هذا الفقيد، سائلين المولى له التمتع بسعادة الجنان، ولآله التعزية والسلوان.
كان المرحوم محمد سلطان باشا عَلَمًا من أعلام مصر، ورجال الدولة المعدودين في أيام كل من الخديوين إسماعيل وتوفيق.
مصري صعيدي صميم.
كان والده الحاج سلطان قرويًّا من أهالي حجازة.
هجر الوالد قريته إلى قرية «زاوية الأموات» شرق النيل تجاه بندر المنيا، وفي هذه القرية رُزق بولده محمد سنة ١٢٤٠ للهجرة.
وعُني الوالد بولده فسلمه إلى فقيه علمه القراءة والكتابة وحفَّظه جزءًا من القرآن الشريف.
ثم اشتغل كأبيه في الزراعة والفلاحة، وكان كثير النشاط، راغبًا في الثروة، فنال منها بعض ما تمنى، وصار شيخًا للقرية.
واتصل بالشيخ خالد، وتلقى عليه العهد، وصار من أولاده وأتباع طريقته.
وخلَف المرحوم حسن الشريعي باشا في نظارة قسم قلوصنا في عهد عزيز مصر محمد سعيد باشا، ثلاث سنوات.
ثم صار وكيلًا لمديرية بني سويف فمديرًا لها.
ونقل إبَّان حكم إسماعيل باشا مديرًا للغربية، فمديرًا لأسيوط، فوكيلًا لتفتيش الوجه القبلي، وناظرًا للجفالك الخديوية في الصعيد، فمفتشًا لمديريات الوجه القبلي.
ثم وشى به بعضهم للخديو، فغضب عليه وأمر بإبعاده إلى السودان رئيسًا لمجلس الخرطوم.
وشفع فيه الخديو توفيق باشا، وكان حينذاك وليًّا للعهد، فرضي عنه الخديو. وعاد إلى بلدته زاوية الأموات، ثم أُذن له بالإقامة في قصره بالعاصمة.
وعُيِّن مديرًا لبني سويف في آخر عهد الخديو إسماعيل.
وتولى رياسة مجلس شورى النواب في فاتحة ولاية الخديو محمد توفيق باشا.
وكان سلطان باشا في طليعة المقاومين للحركة العرابية وأهلها، ومقدمة الأعيان الموالين للخديو، وقد صحبه إلى الإسكندرية في أيام الثورة.
وقد كافأته تركيا على إخلاصه للخديو بأن منحته رتبة بيلربك، وقلده درويش باشا بيلوردي الرتبة بيده.
ثم قامت الحرب على ساق وقَدَمٍ بين الإنكليز والعرابيين، فندبه الخديو لمساعدة الإنكليز وإرشادهم إلى الطرق، فبذل ما في وُسْعه، وكاتب بعض مشايخ العرب والعمد ومن لهم شأن يمنيهم بالخُلَع والرتب والأوسمة على أن يبذلوا الطاعة للخديو والإنكليز.
فنجح في مسعاه ووافقه الكثيرون، فانضموا إلى الخديو سرًّا … ووقع الفشل في زمرة العرابيين، وانهزمت جموعهم، واستولى الإنكليز على مصر ودخلوا القاهرة يوم الخميس مستهل ذي القعدة سنة ١٢٩٩، فأرسله الخديو إليها نائبًا عنه، وأطلق يده في التصرف في الأعمال، فوصلها في ٢ ذي القعدة ليلًا عن طريق بورسعيد. واستبد بالأمور أربعة أيام حتى حضر النظار إليها، وباشروا أعمالهم. وقد تاه المترجَم وتجبر في هذه الأيام الأربعة، وأمر بالقبض على كثيرين ممن كان له بغية في القبض عليهم وإذلالهم.
وكافأه الخديو بالوسام المجيدي الأول، ومنحته الحكومة المصرية عشرة آلاف جنيه.
وكافأته الحكومة الإنكليزية بنيشان القديسَيْن جورج وميشيل، ووضعه على صدره السير مالت قنصل الإنكليز، بالنيابة عن جلالة الملكة فيكتوريا؛ لأنه من تقاليد منح هذا الوسام أن تقدمه جلالة الملكة بيدها لمن تنعم به عليه.
ثم انتُدب للإشراف على شواطئ النيل وجُروفه، فقبل المهمة مكرهًا. واستقلَّ الوسامين ومبلغ العشرة آلاف جنيه، وأطلق لسانه بذم الإنكليز والطعن فيهم.
وعُيِّن في أواخر أيامه رئيسًا لمجلس شورى القوانين الذي أُلِّف عملًا برأي اللورد دوفرين.
هكذا روى تيمور باشا. والعهدة على الراوي.
واشتُهر سلطان باشا بسَعَة اطلاعه على الآداب الغربية، وله قصائد ومقطوعات مشهورة في «الواو».
وبنى ثلاثة مساجد، أولها في زاوية الأموات، والثاني في النزلة، والثالث في بندر المنيا. ومات قبل أن يتم تشييد المسجد الثالث.
وأنشأ مدرسة خيرية في النزلة.
وأوقف على المساجد والمدرسة مساحة واسعة من الأراضي.
وهكذا حبس عقارات واسعة على أقاربه وذويه.
وكان يقدم إليه مخبز حنفي المشهور في المنيا كل يوم مئة أُقَّة من الخبز يوزعها على الفقراء إحسانًا.
وحج إلى بيت الله الحرام.
واتسعت دائرة أملاكه بعد الثورة العرابية، فاشترى تفتيش دماريس والبرجاية واطسا وغيرها من الأطيان، وقد خلف ستة آلاف فدان من أجود الأراضي.
رحمه الله! وأطال حياة كريمته السيدة هدى هانم شعراوي زعيمة النهضة النِّسْوية، وسبطه الدكتور فؤاد سلطان الساعد الأقوى لطلعت حرب باشا في خدمة النهضة الاقتصادية.