الرقاصة شفيقة القبطية
ماتت شفيقة القبطية، الراقصة الغنية عن الوصف والتعريف.
ماتت في غرفة حقيرة في درب البرقي أحد الدروب الملتوية في شارع كلوت بك.
ماتت فقيرة بائسة بعد أن لعبت بالذهب لعبًا.
لم تُنْعَ في صحيفة، ولم يشيع جنازتها أحد ممن نعموا برقصها وأدركوا سر فنِّها وسحره.
من لم ير شفيقة القبطية فقد سمع باسمها.
كان اسمها يملأ القطر المصري من أقصاه إلى أدناه.
بل كان يُذكر إلى جانب أعلام الطائفة.
فيقال: الأنبا كيرلس البطريرك، البطريرك القديس.
وبطرس غالي باشا، السياسي المحنك.
والمعلم برسوم المجبر، الآسِي النِّطَاسِيُّ.
وشفيقة القبطية، الراقصة البارعة.
إن نساء قدماء المصريين كنَّ يرقصن في الفرح والتَّرَح على السواء. وتوجد في المقابر المصرية في بني حسن بمديرية المنيا صور عديد تمثل الراقصات وهن يتمايلن طربًا وسرورًا على نغمات الدفوف والعيدان.
ولا يختلف رقص بعضهن عن رقص البطن المعروف عند المصريين الآن.
أضف إلى ذلك أن لباس الرقص عند بعضهن كان عبارة عن نسيج رفيع من القطن مفصل بشكل الجسم، ومنه يُرى النحر والبطن والساقان.
وكان بعضهن يرقص بهيئة قبيحة وفي أيديهن الدفوف والصاجات.
وروى بعض المؤرخين أن المصريين تعلموا رقص البطن من الفرس عندما أتوا إلى مصر فاتحين، فأتقنته نساؤهم، وبرعْنَ في حركاته وسكناته.
ولبثت الراقصات موضعًا لاحترام العامة والخاصة حتى فتح المسلمون مصر فدَالَتْ دولة الرقص، وانتقل هذا الفن من مصر إلى تونس.
وأتى المرحوم مانولي يوانيدس، صاحب «ألف ليلة»، بفريق من النسوة التونسيات إلى مصر، وفتح قهوة راقصة في أول شارع كلوت بك سنة ١٨٨٧.
وعن أولئك التونسيات تعلمت الفن وأتقنته غير واحدة من المصريات، ومنهن زهرة العربية، وشوق، وشفيقة القبطية، ومعتوقة المغربية، وأمينة الزياتة، ونفوسة عزام، وزكية الفقية، وعزيزة الجربانة.
وكانت شفيقة من أهل حارة الزويلة في شارع بين الصورين، واسمها الأصلي «فرحة»، وكان زوجها كمساريًّا في السكة الحديد رجلًا ابن حظ، فكان يدعو إخوانه إلى حفلات يقيمها في منزله، ويدعو امرأته لمنادمتهم والرقص أمامهم، فزين لها أحدهم أن ترقص في الحفلات العمومية، وأوصلها إلى أحد أصحاب القهاوي الراقصة، فرقصت وخلبت الألباب.
وبلغ من شهرتها أن أحد معامل كبريت الشمع في السويد رسم صورتها على علب الكبريت التي يصدرها إلى البلاد الأجنبية عامة ومصر خاصة، فكان الإقبال عليها فوق ما يتصوره العقل، حتى إن الذين لا يدخنون كانوا يشترون علب الكبريت للتمتع بصورة «شفيقة القبطية».
رقصت في الألدرادو القديم عند الخواجا أنطون أبو شنب، وفي قهوة النوفرة عند الخواجا إلياس، وفي قهوة نقولا مكرم بالرويعي، وعند محمد فرج في بير حمص، وأخيرًا في ألف ليلة عند مانولي.
لم تكن في حاجة إلى البَلف أو القنص، بل كان الذهب يُلقى بين يديها وتحت رجليها جزافًا، يلقيه العمد والأعيان والتجار والشبان الوارثون.
وكانت إذا خرجت للنزهة في الجزيرة تقدم عربتها ويتبعها عشرة من أظرف شبان العصر على خيولهم وأفراسهم.
وكانت بارَّة بأهلها وذويها، تواسيهم في أحزانهم وتشاركهم في أفراحهم، وهي التي تدفع كل نفقات المآتم والأعراس بسخاء.
ومالت الأيام، وذهبت أيام العز، وظهرت الأجسام النحيفة الهزيلة «الألامود»، وأرادت شفيقة القبطية لعشرين سنة أن تعود إلى الرقص فلم تفلح.
فتنقلت بين شبرا وعابدين وكلوت بك، وقد تنكر لها ذووها وانصرف عنها عشاقها ومحبوها، حتى أتاها هادم اللذات فلبَّته طائعة.
والبقية الباقية في راقصة المدرسة القديمة السيدة منيرة المهدية، ولعنة الله على الرومبا والكاريوكا.