الأستاذ محمد خليل راشد
تعرفت منذ أسابيع إلى الأستاذ محمد خليل راشد المدرس في مدرسة حلوان الثانوية للبنات.
والأستاذ راشد مدرس ومؤلف وصنايعي معًا، يصدر في كل شهر تقريبًا كتابًا أو كتيبًا أو رسالة في الكيميا والطبيعة والاقتصاد والأدب.
ويعالج صناعات كثيرة، من الكهرباء إلى دباغة الجلد إلى صنع العطر.
دعاني يوم الجمعة إلى تناول الطعام على مائدته في حلوان، فأدركت سر هذه الحركة الدائمة.
عشرات من خزائن وأدراج ورفوف للكتب والدفاتر والدوسيهات والفِيَش، مرتبة محكمة، في لمحة بصر يخرج منها الأستاذ ما يشاء للفحص أو المراجعة أو إضافة أشياء جديدة.
ومن المدرسة إلى البيت، ولا تبعد المدرسة عن البيت إلا نحو مئة متر، فالأستاذ الشاب لم يرَ محطة حلوان إلا أربع أو خمس مرات، ولم يسِرْ في شوارع المدينة ولم يغشَ قهواتها أو كازينها.
لا يعرف القهوة ولا الدخان، ويشارك الصديق العزيز الأستاذ غلوش في مقاومة المسكرات ومحاربتها، فهي لم تدخل فمه يومًا ولا يطيق أن يرى «مجالس الشَّرِّيبة» وأمامهم أنواع الكوكتيل.
كل هذه أشياء طيبة ما عدا السجن الانفرادي، وهجران الشوارع والميادين والقهوات.
قال اللورد أفبوري في كتابه «مسرات الحياة» ما معناه: لماذا تحزن أيها القارئ وأمامك الشوارع الواسعة والحدائق الزاهرة والأنوار اللامعة، أينما سرت تستمتع بها مجانًا؟
وأنا أرى أن العلم غير محصور في جلود الكتب وغلافاتها، فلا بد من اللف والبرم والسياحة ومخالطة الناس ومعاشرتهم والاقتباس من صغارهم وكبارهم.
أضف إلى ذلك فائدة المشي وقطع المسافات الطويلة كل يوم موتورجل.
من المصادفات الغريبة أنني بعد انصرافي من بيت الأستاذ راشد وقعت بين يدي صحيفة قرأت فيها نبذة عنوانها «هل تفقدنا المدنية فائدة أقدامنا؟» جاء فيها: لا شك في أن للسير على الأقدام لذة كبيرة … وله أيضًا نفعًا عظيمًا.
ولكن كثرة وسائل المواصلات في هذه الأيام، وسهولتها، وسرعتها مع رخص أجورها جعلتنا نغفل رياضة السير على الأقدام، ولا مبالغة إذا قلنا إن المدنية الحديثة ستفقدنا الفائدة الجميلة التي وجدت من أجلها أقدامنا.
بل إن كثيرين منا الآن لكثرة استعمالهم وسائل النقل في كل مكان يقصدون إليه سواء كان قريبًا أم بعيدًا؛ فقدوا لذة المشي من جهة، ومن جهة أخرى لا يعرفون كيف يمشون المشي الصحيح.
ويصرح الأطباء الآن بأن المشي الرديء أو بعبارة أخرى المشي غير الصحيح يسبب لأصحابه العلل والأمراض الخفية.
وكما أن الأسنان و«اللِّوز» في الحنجرة تسبب كثيرًا من الأمراض التي يظن في بادئ الأمر أن لا علاقة لها بها، فكذلك المشي الرديء يسبب للمرء كثيرًا من الآلام والأمراض.
وإن رصف الطرقات وتمهيدها قد أفسدا على القدم فائدة النَّط، والوثب، والخطوة، وهذه العمليات الثلاث كان لا بد منها لتنشيط مفاصل الدم والساق، والآن وقد عطلت المدنية هذه العمليات فإنا ندفع الثمن غاليًا، ندفعه باضطراب أعصابنا، وبعض أعضائنا.
ويعالج الأطباء الآن مرض الأقدام والسيقان الذي ينشأ عن عطلها عن تأدية واجبها الطبيعي بالكهرباء والمكمدات.
وبمناسبة الحديث عن الأقدام والسير عليها، نذكر أن أحد مصانع الأحذية المشهورة في أوروبا صرح بأن الطلبات انهالت بكثرة على الأحذية الكبيرة في الأيام الأخيرة.
ولكن الأطباء يقولون بأن قدم المرء محال أن تكبر بعد بلوغه سن الرشد، وأنها في هذه الحالة مثل أنفه ويده وسائر الأعضاء البارزة.
وصرحت إدارة أحد مصانع الجوارب بأن السيدات في الأيام الأخيرة بدأن يفضلن الجوارب الحريرية على غيرها، وليس ذلك لبدانة «سمنة» أرجلهن وإنما لأن الجورب الحريري يعطي الطول المطلوب المريح للقدم، وترى السيدات أنه كلما كان الجورب طويلًا واسعًا كان ذلك أدعى لراحة أقدامهن.
•••
لكن هذا الكتاب يصف الصحافي العجوز أدق وصف.
يصف هذا الجسم الطويل النحيل، وهاتين الساقين اللتين لا تملان من ذرع أنحاء القاهرة، وتتوقان لو أتيح لهما أن تذرعا أنحاء العالم طرًّا.
فأنا مغرم بالمشي، أعرف فائدته ولذته. وقد آلمتني شكوى الأستاذ محمد خليل راشد، وتخوفه من السكون، واعتياده الركود وسط كتبه وأوراقه وفِيَشه.
ولكن هذه الآراء والملاحظات إن أرضت الناس كلهم فإنها لا تدخل عقل أخينا صاحب «ما قل ودل»؛ لأنه لا يستهوي لبه إلا أن يسوق سيارته بأقصى سرعة ولو أزعج الألوف من المارين، ولو كان الأمر بيده لصرع كل يوم شخصًا أو أكثر؛ لأنهم يمشون وهو يركب.