وشاية الدموع
من العشاق من يؤثر الكتمان: فهو يخشى أن تفضحه الدموع! وأشهر الشعراء في إخفاء الحب
العباس بن الأحنف، وسنبسط الكلام عن مذهبه حين نتكلم عن الكتمان، ونكتفي الآن بشعره عن
قهره
بالدموع، وقد رأيته يتوجع حينًا من عجزه عن كتم الحب وقد غلبه الدمع، فيقول:
هبوني أغض إذا ما بدت
وأملك طرفي فلا أنظر
فكيف استتاري إذا ما الدمو
ع نطقن فبحن بما أضمر
أمني تخاف انتشار الحديث
وحظي في صونه أوفر
ولو لم يكن في بقيا عليك
نظرت لنفسي كما تنظر
ويغضب حينًا على دمع عينيه فيقول:
لا جزى الله دمع عيني خيرًا
وجزى الله كل خير لساني
نم دمعي فليس يكتم شيئًا
ورأيت اللسان ذا كتمان
كنت مثل الكتاب أخفاه طي
فاستدلوا عليه بالعنوان
ويبالغ في هذا المعنى حتى ليرمي قلبه بالعداوة، فيقول:
قلبي إلى ما ضرني داعي
يكثر أسقامي وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي إذا
كان عدوي بين أضلاعي
ومن الشعراء من ييأس من كتم الهوى حين تنهمر الدموع، كما يقول البحتري:
علاقة حب كنت أكتم بثها
إلى أن أذاعتها الدموع الهوامع
إذا العين راحت وهي عين على الجوى
فليس بسر ما تسر الأضالع
وقد أفصح الأرجاني عن غاية ذلك: وهي نصر الوشاة، بقوله:
ولي نفس إذ ما امتد شوقًا
أطار القلب من حرق شظايا
ودمع ينصر الواشين ظلمًا
ويظهر من سرائري الخبايا
وأكرم من هؤلاءِ جميعًا الشريف الرضي حين يقول:
أيسمح جفني بالدموع وأغتدي
ضنينًا بها إني إذن للئيم
ولو بخلت عيني إذن لعتبتها
فكيف ودمع الناظرين كريم
وقد نظر أبو نواس إلى قول بشار بن بُرد:
يروعه السرار بكل شيء
مخافة أن يكون به السرار
ثم حاكاه بهذه الأبيات في نميمة الدمع:
قد تسترت بالسكون وبالإطـ
ـراق جهدي فنمَّت العينان
تركتني الدموع نصب المشيريـ
ـن وأُحدوثة بكل مكان
ما أرى خاليين للسر إلا
قلت ما يخلوان إلا بشاني
وهي صورة شعرية، تمثل العاشق المروع أصدق تمثيل.
ومن المحبين من تنم عليه دموعه الغزار، وأنفاسه الحرار، كالبحتري حين يقول:
إن الخطوب طوينني ونشرنني
عبث الوليد بجانب القرطاس
ما شبت من طول السنين وإنما
طول الملامة فيك شيب راسي
نمت على ما في ضميري أدمعي
وتتابع الصعداء من أنفاسي
ومن رائع الشعر في فضيحة الدمع لصاحبه قول مهيار:
طرحتُ بجمع نظرةً ساءَ كسبها
وتبعث شرًّا للعيون المطارح
فإن سترت تلك الثلاث على منى
هواي فيوم النفر لا شك فاضح
بكيت ولام العاذلات فلم تغض
على رقية العذل الدموع السوافح
وأحب أن يتأمل القارئ قوله: «نظرت بجمع نظرة ساءَ كسبها» ليعرف كيف يسوء كسب العيون،
حين
تجني على القلوب!