سلطان الحب
هذا فصل عقدناه لما تقدم ذكره، وأسفر كالصباح أمره، إذ للناس فيه كلام من الطرفين، وتبختر من الصفين، فقائل بأنه اضطراري، وقائل بأنه اختياري، ولكل من القولين وجه مليح، وقدر رجيح، ونحن نذكر من ذلك ما يعم به الانتفاع، ونتكلم في طوله وعرضه بالباع والذراع! فمن ذلك ما قاله القاضي أبو عمرو النوناني في كتابه تحفة الظراف: العشاق معذورون على كل حال: مغفور لهم في جميع الأقوال والأفعال؛ إذ العشق إنما دعاهم على غير اختيار، بل اعتراهم على جبر واضطرار، والمرء إنما يلام على ما يستطيع من الأمور، لا في المقضي عليه والمقدور. وقد جاءَ في الحديث عن النبي ﷺ أن الحامل كانت ترى يوسف عليه السلام فتضع حملها. فكيف تراها وضعته؟ أباختيار منها كان ذلك أم باضطرار؟ لا، بل باضطرار، وفقد اقتدار. وهذا مما لا يشك فيه ذو لبٍّ، ولا يختلج خلافه في قلب.
ثم نقل عن الفُضَيْلِ بن عِيَاضٍ أنه قال: لو رزقني الله دعوة مجابة لدعوت الله بها أن يغفر للعشاق لأن حركاتهم اضطرارية. ونقل عن أبي محمد بن حزم أن رجلًا قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، إني رأيت امرأة فعشقتها. فقال عمر: ذلك مما لا يملك. قال: وما أحسن قول بعض بني عذرة وقد قال له بعض العرب: ما لأحدكم يموت عشقًا في هوى امرأة يألفها؟ إنما ذلك ضعف نفس، ورقة، وخور، تجدونه فيكم يا بني عذرة. فقال: أما والله لو رأيتم الحواجب الزج، فوق النواظر الدعج، تحتها المباسم الفلج، لاتخذتموها اللات والعزى!
ثم قال بعد كلام طويل: إن العشق يختلف باختلاف بني آدم وما جبلوا عليه من اللطافة ورقة الحاشية، وغلظ الكبد، وقساوة القلب، ونفور الطباع، وغير ذلك. فمنهم من إذا رأى الصورة الحسنة مات من شدة ما يرد على قلبه من الدهش، ومنهم من إذا رأى المليح سقط من قامته، ولم يعرف نعله من عمامته — العاقبة عندكم يا شيخ محمد! ثم قال: فهذا وأمثاله عشقه اضطراري، والمخالفة فيه مكابرة في المحسوس.
والذي أراه أن المحب مضطر غير مختار، وما ذكرت هذه التفاصيل إلا ترويحًا للنفس. أما الشعر في سلطان الحب فكثير. فمن الشعراءِ من يجعله سحرًا كالطغرائي حين يقول:
ومنهم من يذكر أنه قتل نفسه غير متعمد كقول مهيار:
ومنهم من يرى الحب يصب على القلب كالقضاء المحتوم لا مرد له كقول المتنبي:
ومنهم من يجعله قضاء من الله، كقول عمرو بن ربيعة الرقاشي:
ويدخل في هذا الباب خلود الحب. فمن الشعراءِ من يجعل سببه خلود المحاسن في الحبيب، كقول ابن الرومي:
وكما قال ابن عنين:
وكما قال أبو الأسود الدؤلي:
وهو رأي منتقد: فكل زهر إلى ذبول، وكل جمر إلى خمود، وكل حسن إلى فناء، ولا خلود للحب إذا كان داعيه الحسن الفاني والجمال الزائل.
ومنهم من يجعل السبب في خلود الحب كثرة دواعيه، كقول صردر:
وكما قال ابن الزيات:
وكما قال ابن التعاويذي:
وهذا أيضًا منتقد، فإن أمثال هؤلاء الشعراء ينسون الحب إذا نفدت دواعيه!
ومنهم من يجعل السبب في خلود الحب تغلغل الوجد في الأحشاء، كما قال الأبيوردي:
وكما قال الغزي:
وكما قال الطغرائي:
وأرجو أن لا يغفل القارئ عما في هذا الشعر من فنون الجمال.
هناك مذهب رابع يجعل خلود الحب مُواتاةً للطبع، ونزولًا عند حكم الخليقة، وهو أجمل المذاهب، ومنه قول التعاويذي:
وأظهر منه قول المتنبي:
ولا أنكر أن من الشعراء من يرى غير ما ذهبت إليه في هذا الحديث، ولكني أرى الحب الصادق حليف الخلود، وقد أوضحت هذه المسألة في كتاب «حب ابن أبي ربيعة وشعره» فليرجع إليه من شاء.