طيف الخيال
من الشعراء من يصف الحسرة التي تودي برشده حين تحرمه اليقظة من الاستمتاع بالطيف،
كالذي
يقول:
وزارني طيف من أهوى على حذر
من الوشاة وداعي الصبح قد هتفا
فكدت أوقظ مَنْ حولي به فرحًا
وكاد يهتك ستر الحب بي شغفا
ثم انتبهت وآمالي تكذبني
نيل المنى فاستحالت غبطتي أسفا
ومنهم من يذكر العلة في طروق الطيف، والسبب في زيارة الخيال، كقول أبي تمام:
زار الخيال لها لا بل أزاركه
فكرٌ إذا نام فكر الخلق لم ينم
ظبي تقنَّصتُه لما نصبت له
في آخر الليل أشراكًا من الحُلمِ
وقوله من كلمة ثانية:
استزارته فكرتي في المنام
فأتانا في خفية واكتتام
يا لها ليلة تنزهت الأر
واح فيها سرًّا من الأجسام
مجلس لم يكن لنا فيه عيب
غير أنا في دعوة الأحلامِ
وكقول عبد الصمد بن المعذل:
وصلَ النوم بيننا بعد هجر
فاجتمعنا ونحن مُفترقان
غير أن الأرواح خافت رقيبًا
فطوت سرَّها عن الأبدان
منظرٌ كان لذة القلب إلا
أنه منظر بغير عيانِ
فالعلة عند أبي تمام في طروق الخيال إنما هي احتيال فكره، ونصبه أشراكًا من الحلم.
والسبب
في زيارة الطيف عند ابن المعذل هو النوم، مع إبداعه في طي الأرواح سرها عن الأبدان، خوفًا
من الرقباء!
وهناك فكرة لابن العفيف ألطف من هاتين وأطرف: وهي أن الحبيب سطع نوره وعمَّ، حتى شمل
النائمين، وتجلى لأعينهم، على بعدهم منه، ونأيهم عنه. وله في هذه الفكرة البديعة هاته
الأبيات الحسان:
يا حبذا طيفك من قادم
يا أحسن العالم في العالمِ
طيف تجلى نوره ساطعًا
حتى رأته مقلة النائم
يا غائبًا يحكم في مهجتي
عليَّ طالت غيبة الحاكم
عار على حسنك أن يشتكي
حظي منه أنه ظالمي
والبحتري على شهرته بالخيال، لم يكن ممن يعنون بذكر السبب في قدومه، والعلة في طروقه،
وإنما يجيد في وصفه انعطافه، وانصرافه، كقوله:
سقى الغيث أجراعًا عهدت بجوها
غزالًا تراعيه الجآذر أغيدا
إذا ما الكرى أهدى إليَّ خياله
شفى قربه التبريح أو نقع الصدى
إذا انتزعته من يديَّ انتباهةٌ
عددت حبيبًا راح منى أو غدا
فلم أر مثليْنا ولا مثل شأننا
نعذَّب أيقاظًا وننعم هجدا
ومن بديع الشعر في ذهاب الخيال قوله:
ألمت بنا بعد الهدوءِ فسامحت
بوصل متى نطلبه في الجدِّ تمنع
وولت كأن البين يخلج شخصها
أو أن تولت من حشاي وأضلعي
وهو غاية في الإبانة عن اللهفة، والإفصاح عن الحسرة!
ومن الشعراء من يحمد للطيف سماحه بالنعيم المباح، كقول بشار:
ولقد تعرض لي خيالكم
في القُرط والخلخال واللب
فشربت غير مباشر حرجًا
برضاب أشنب بارد عذبِ
وكقول المتنبي فيما يقرب من هذا المعنى:
بتنا يناولنا المدام بكفه
من ليس يخطر أن نراه بباله
تُجنى الكواكب من قلائد جيده
وتنال عين الشمس من خلخاله
وقد نص البحتري على ما ذكرناه من النعيم المباح بقوله:
وما نلتقي إلا على حُلم هاجد
يحلُّ لنا جدواك وهي حرام
إذا ما تبادلنا النفائس خلتنا
من الجد أيقاظًا ونحن نيام
وألمَّ به في قوله:
بنفسي خيالا من أثيلة كلما
تأوهتُ من وَجدي تعرَّضَ يُطمع
ترى مقلتي ما لا ترى من لقائه
وتسمع أذني رجع ما ليس تَسمع