اليأس والرجاء
ليس في العشاق من لم يُرزق الأمل والرجاء، وليس فيهم من لم يُرزأ باليأس والقنوط.
وقد
تأملت ما قال الشعراء في اليأس، فرأيت منهم من يترك لأجله العتاب كقول ابن الأحنف:
سكوتي بلاءٌ لا أطيق احتماله
وقلبي ألوفٌ للهوى غيرُ نازعِ
وأقسم ما تركي عتابك عن قِلى
ولكن لعلمي أنه غير نافع
وإني إذا لم ألزم الصبر طائعًا
فلا بدَّ منه مكرهًا غير طائع
إذا أنت لم يعطفك إلا شفاعةٌ
فلا خير في ودٍّ يكون بشافع
وقد عزَّى نفسه ابن الأحنف حين يئس بقوله:
لعمري لقد جلبت نظرتي
إليك عليَّ بلاءً طويلا
فيا ويح من كلفتْ نفسهُ
بمن لا يطيق إليه السبيلا
هي الشمس مسكنها في السماء
فعزِّ الفؤاد عزاءً جميلا
فلن تستطيع إليها الصعود
ولن تستطيع إليك النزولا
وإني لأتمنى أن يرحمني الله من عذابي، بترديد هذا البيت الجميل:
فيا ويح من كلفت نفسه
بمن لا يطيق إليه السبيلا
ومن العشاق من يرى اليأس أروح من الطمع. كما قال صردر:
لا أمدح اليأس ولكنه
أروح للنفس من المطمعِ
يا ليت أني قبل وَقْدِ الهوى
أذنت للعذلِ على مسمعي
أين بدورٌ من بني دارمٍ
تبخل أن تُسفر في مطلعِ
لا في سِرار الشهر تبدو لنا
ولا ليالي العشر والأربع
أودعتهم قلبي وما خِلتهم
يستحسنون الغدر بالمودع
لو زارني طيفهمُ ما درى
من الضنى أنيَ في مضجعي
ومن المتيمين من يعتذر عن نسيانه، بيأسه وقنوطه. ولم أجد في هذا المعنى أبدع من قول
الطغرائي:
من مُبلغ الحيِّ شطت دارهم ورضوا
بالجار جارًا وما أرضى بهم عِوضَا
قد طاب عنكم فؤادٌ طاب قبلكم
عن الرَّضاع تقضَّى والشباب مضى
إن الزمان الذي كانت بشاشته
للقلب والعين ملهى بان فانقرضا
فإن نسيت فيأسٌ لم يدع طمعًا
وإن ذكرت فعرقٌ ساكنً نبضا
حكمت في مهجتي من ليس ينصفني
ولست أبلغ من تحكيمه غرضا
سيَّان عندي وأمري صار في يدهِ
قضى عليَّ بجورٍ أم إليَّ قضى
وليس بعد اليأس إلا الرجاء، وإن عجب لذلك بعض الناس. فمن المحبين من يلهج بالأمل ترويحًا
لنفسه، وترفيهًا لقلبه، كالذي يقول:
أعللُ بالمنى قلبي لعلي
أروِّح بالأماني الهمَّ عني
وأعلم أن وصلك لا يرَجى
ولكن لا أقل من التمني
ومنهم من يجعل الرجاء نصيب المبعَد الحزين كما قال ياقوت:
لله أيامٌ تقضَّت بكم
ما كان أحلاها وأهناها
مرَّت فلم يبق لنا بعدها
شيءٌ سوى أن نتمناها
ويكاد الأمل يصرخ في قول مسلم بن الوليد:
أدهرًا توَلى هل نعيمك مقبلُ
وهل راجعُ من عيشنا ما نؤملُ
أدهرًا توَلى هل لنا منك عودةٌ
لعلك يُعدي آخرًا منك أولُ
وأوجع الشعر في هذا المعنى قول ابن زريق:
لأصبرنَّ لدهر لا يمتعني
به ولا بي في حال يمتعه
علمًا بأن اصطباري معقب فرجًا
فأضيق الأمر لو فكرت أوسعه
علَّ الليالي التي أضنت بفرقتنا
جسمي ستجمعني يومًا وتجمعه
ولو سُئلت عن رأيي في اليأس والرجاء، لقدمت لسائلي هذه الدعوة المستجابة التي أدعو
بها
عقب كل صلاة: «يا ربي، إنني ما جحدت نعمتك يوم رزقتني بهم، ولا جهلت حكمتك يوم أقصيتهم
عني،
وها أنا ذا أنتظر فضلك وطولك في ردهم إليَّ، وعطفهم عليَّ، فلولا الثقة برحمتك، والإيمان
بإحسانك، لذهبت النفس عليهم حسرات، وقُطع القلب في آثارهم قِطعًا.»