نوح الحمام

لقد ألممنا إلمامةً قصيرة بنوح الحمام عند أسباب المدامع، واليوم نفصل مذاهب الشعراء في هذا الباب: فمنهم من يحن إلى الحمائم الشادية، ويتمنى لو عُدن إليه، فإذا عدن أسلمنه إلى البكاء، كما قال المجنون:

ومن الشعراء من يذكر أن الحمائم الباكية تبعث الهوى في قلب الخليِّ، فكيف بالشجيِّ، وأن أنغامها ليست دموعًا ولكنها أمضى من الدموع، كما قال أبو تمام:

ومنهم من يستريح إلى نوح الحمام، ويراه تداويًا من الداء بنفس الداء، كقول ابن عبد ربه:

ويسمون الحمامة «مطوقة» لطوقها المخضب الجميل، كما قال ابن عبد ربه:

ومن الشعراء من يقارن بينه وبين الحمامة الباكية، فيذكر أنها تبكي بلا دمع، وأن إلفها منها قريب، كما قال أبو محلم الشيباني من قصيدة اقترحها عليه طاهر بن الحسين، وقد كبرت سنه، وطالت غربته:

ومما يجدر أن يكون «صورة شعرية» في وصف الحمامة الباكية قول الطغرائي:

وهذه القصيدة من أبدع ما قال الشعراء في الحمائم الشاديات. وهي أنموذج لملاحة التقسيم، وبراعة التصوير، وحلاوة التعبير، ويقرب منها قول ديك الجن:

وقد يحسن لفت النظر إلى الخرافة القديمة في نوح الحمام: فإن العرب يذكرون أنه كان لهن ملك في عهد نوح يسمى (الهديل) فهن يبكينه إلى الآن! وهو المعني بقول نصيب:

وممن ذكر الهديل حُميد بن ثور في هذه الأبيات الحسان:

قال أبو بكر بن دريد: خرجنا من عُمان في سفر لنا، فنزلنا في أصل نخلة، فنظرت فإذا فاختتان تزقوان في فرعها، فقلت:

ومن جيِّد الشعر في الموازنة بين العاشق وبين الحمامة الشادية قول ابن سنان الخفاجي:

وقد ينكر الشاعر على الحمامة أن تشكو الفراق، وهي كثيرة الألَّاف، وحالية بالطوق والخضاب، كقول ابن سنان صاحب الأبيات السالفة:

ولكن الأرجاني يصفها بصدق اللوعة، فيذكر أنها مزقت أثواب الحِداد، وأن صدورها ضاقت بأنفاسها ففضت مجامع الأطواق وأنها نزفت دمعها وأفنته بطول البكاء، وذلك في قوله:

ولم يكثر الشعراء الحديث عن غناء الكروان، ويظهر أنهم لم يتمتعوا بأغانيه الجميلة على ضفاف النيل في سِنتريس، والدهر كله فداء للحظة واحدة من الأصائل، أو العشيَّات، أو الأسحار، في مغاني سنتريس.

ويعجبني في وصف الكروان قول الأستاذ عباس العقاد:

ومن خير ما وُصفت به الحمامة من ناحية الخِلقة الجميلة، قول بعض الأعراب:

ويعجبني خطاب عبد البر بن فرسان الغساني لطائر مغرِّد ضم أفراخه إليه:

وقد أبدع الرصافي شاعر الأندلس حين تغنى يومًا من أيام شبابه وقد خلا فيه بمن يهوى في روضة لم يشاركهم في سكناها غير الهديل، وأبياته الآتية غاية من غايات الحسن في وصف الشمس وهي تجنح للغروب:

ومما يقرب من هذا الباب وليس منه قول القاضي أبي حفص القرطبي: