نذكر هنا طرَفًا من الشعر الموجع، الذي يمثل ثورة الوجد، ولوعة الأسى، فمن ذلك قول
أبي
تمام:
وأي حال أدعى للرحمة، وأوجب للإشفاق، من حال هذا المحب السقيم، الذي لا يموت ولا يفيق،
والذي يحزن من يراه؛ لصبره الأسير، وناظره الأريق والذي حالفَ في ضعفه الشوق، وضاجعَ
الصبابة، حتى لكأنه مما به، تُسعَّر النار في ضلوعه.
ويقرب من هذا قول ابن الرومي في فراق اثنين من خلانه:
ومما يمثِّل ثورة الوجد في الصدر، مع الغيظ مما جنتْ يد الليالي، قول المتنبي:
وكان الأبيوردي يمثل وجده بوجد الظبية تترك ولدها في طلب الكلأ ثم تعود سريعة إلى
لقائه
فتجده مات. وإليك من شعره هذه اللؤلؤة الفتانة:
وما أمُّ ساجي الطرف مال به الكرى
على عذَبات الجزع تَحسبه قَلبا
تُراعي بإحدى مُقلتيها كِناسَها
وترمي بأخرى نحوهُ نظرًا غَربا
فلاحَ لها من جانب الرمل مَرْتعٌ
كأن الربيع الطلق ألبَسه عُصبا
فمالت إليه والحريصُ إذا غدت
به سَورةُ الأطماع لم يحمَد العُقبى
وآنسها المرعى الخصيب فصادفت
مدى العين في أرجائه بلدًا خصبا
فلما قضت منه اللبانةَ راجعتْ
طَلاها فألفتْه قضى بعدها نَحْبا
أتيحَ له عاري السواعد لم يزل
يخوض إلى أوطاره مطلبًا صَعبًا
فولَّتْ على ذُعرٍ وبالنفس ما بها
من الكرب لا لُقيتَ في حادث كربا
بأوجَدَ مني يوم عجَّتْ ركابها
لبينٍ فلم تترك لذي صَبْوَةٍ لُبا
وهذه الصورة الشعرية كثيرة الأمثال في الآداب القديمة، وإنما نسبناها إلى الأبيوردي
لأنه
يرددها في شعره، فمن ذلك قوله في كلمة ثانية:
ونحب أن نلفت القارئ إلى ما في أمثال هذه الصور الشعرية من الكلف بتصوير الطبيعة،
وما
فيها من حياة الحيوان، فقد أغرم شعراء الغرب بهذا الأسلوب، فزاد شعرهم جمالًا إلى جمال.
ولولا الرغبة في الإيجاز لنقلت قطعة من شعر (ألفريد دي ميسيه) تماثل شعر الأبيوردي في
هذا
الجانب من البيان. والناس هم الناس، في كل قطر، وفي كل جيل، والتباين قليل في الميول،
وفي
تذوق ألوان الحياة، وإن عظم الفرق حينًا في التعبير عن نزعات النفوس، وشهوات العقول.
ومن خالد الشعر في ثورة الوجد نونية الوزير ابن زيدون، وقد رأينا أن نثبتها هنا كاملة
—
كما فعل المقرِّي صاحب نفح الطيب — لأنها ذكرت مفرقة في أكثر المؤلفات:
أضحى التنائي بديلًا من تدانينا
ونابَ عن طبيب لُقيانا تجافينا
من مُبلغ الملبسينا بانتزاحِهمُ
حُزنًا مع الدهر لا يَبلى ويُبلينا
أن الزمان الذي قد كان يضحكنا
أنسًا بقربهمُ قد عاد يُبكينا
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا
بأن نَغَصَّ فقال الدهر آمينا
فانحل ما كان معقودًا بأنفسنا
وانبتَّ ما كان موصولًا بأيدينا
بالأمس كنا وما يُخشى تفرُّقنا
فاليومَ نحن وما يُرجى تلاقينا
يا ليت شعري ولم نُعتب أعاديكم
هل نال حظًّا من العُتبى أعادينا
٦
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاء لكم
رأيًا ولم نتقلد غيره دينا
كنا نرى اليأس تُسلينا عوارضهُ
وقد يئسنا، فما لليأس يُغربنا
بِنتم وبنا فما ابتلَّت جوانحُنا
شوقًا إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين نُناجيكم ضمائرنُا
يقضي علينا الأسى، لولا تأسِّينا
٧
حالت لبُعدكم أيامنا فَغَدت
سودًا وكانت بكم بِيضًا ليالينا
إذ جانبُ العيش طلقٌ من تألفنا
ومورد اللهو صافٍ من تصافينا
وإذ هَصَرنا فنون الوصل دانيةً
قطوفها فجنينا منه ما شينا
ليُسقَ عهدكم عهدُ السرور فما
كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
لا تحسبوا نأيكم عنا بُغيِّرنا
إذ طالما غيَّر النأي المحبينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلًا
منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا
•••
يا ساريَ البرق غادِ القصر فاسق به
من كان صِرف الهوى والود يسقينا
واسأل هنالكَ هل عنَّى تذكُّرنا
إلفًا تذكُّره أمسى يعنِّينا
٨
ويا نسيم الصَّبا بلغ تحيتنا
من لو على البعد حيًّا كان يُحيينا
وبيت مُلْكٍ كأن الله أنشأه
مِسكًا وقد أنشأ الله الورى طينا
أو صاغهُ ورقًا محضًا وتَوَّجه
من ناصع التِّبر إبداعًا وتحسينا
٩
إذا تأود آدتهُ رفاهيةٌ
تُدمي العقول وأدمته البُرى لينا
١٠
كانت له الشمس ظِئرًا في تكللهِ
بل ما تجلى بها إلا أحايينا
١١
كأنما نبتتْ في صحن وجْنته
زُهر الكواكب تعويذًا وتزيينا
ما ضر أن لم نكن أكفاءهُ شَرفًا
وفي المودة كافٍ من تكافينا
١٢
يا روضةً طالما أجنتْ لواحظنا
وردًا جناه الصبا غضًّا ونسرينا
ويا حياةً تملأنا بزهرتها
مُنى ضروبًا ولذات أفانينا
١٣
ويا نعيمًا خطرْنا من نضارته
في وشي نُعمى سحبْنا ذيلهُ حينا
لسنا نسميكِ إجلالًا وتكرمةً
فقدرك المعتلي عن ذاكِ يُغنينا
إذا انفردتِ وما شوركتِ في صفةٍ
فحسبنا الوصف إيضاحًا وتبيينا
•••
يا جنة الخُلد أُبْدِلنا بسَلسَلها
والكوثر العذبِ زقُّومًا وغِسلينا
كأننا لم نبتْ والوصلُ ثالثنا
والسعد قد غضَّ من أجفان واشينا
سران في خاطر الظلماءِ تكتمنا
حتى يكاد لسان الصبح يُفشينا
لا غروَ في أن ذكرنا الحزن حين نهت
عنه النهى وتركنا الصبرَ ناسينا
إنا قرأنا الأسى يوم النوى سُوَرًا
مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا
أمَّا هواك فلم نعدِل بمشربه
شِربًا وإن كان يُروينا فيُظمينا
١٤
لم نَجفُ أفق جمالٍ أنتِ كوكبُه
سالينَ عنه ولم نهجره قالينا
ولا اختيارًا تجنبناكِ عن كثبٍ
لكن عدتنا على كرهٍ عوادينا
١٥
نأسى عليك إذا حُثت مشعشعة
فينا الشمول وغنانا مُغنينا
لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا
سِيما ارتياحٍ ولا الأوتار تلهينا
دومي على العهد ما دمنا محافظةً
فالحر من دانَ إنصافًا كما دِينا
فما استعضْنا خليلًا عنك يحبسنا
ولا استفدنا حبيبًا منك يُغنينا
ولو صبا نحونا من أفق مَطلعِه
بدر الدجى لم يكن حاشاكِ يصبينا
أوْلي وفاءً وإن لم تبذلي صلةً
فالطيف يقنعنا والذكر يكفينا
وفي الجواب شفاءٌ لو شفعتِ به
بيضَ الأيادي التي ما زلت تولينا
وقد أغرمَ الشعراء بتخميس هذه القصيدة، وتسديسها، وتشطيرها، وكذلك شغلت الأذهان زمنًا
غير
قليل. وقد أرسل ابن زيدون هذه القصيدة إلى معشوقته ولادة، وهي سيدة أندلسية ظريفة من
بنات
الخلفاء الأمويين، وقد كانت في جمالها شاعرة مجيدة، ومن شعرها هذان البيتان تدعو بهما
ابن
زيدون:
ولابن زيدون في ولَّادة مقطعات حسان، كقوله:
ولصديقنا الأستاذ أنيس ميخائيل ولع غريب بإنشاد قول ابن زيدون:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا
والأفق طلقٌ ووجه الروض قد راقا
وللنسيم اعتلالٌ في أصائله
كأنما رقَّ لي فاعتلَّ إشفاقا
والنهر عن مائه الفضيِّ مبتسمٌ
كما حللتَ عن اللبَّات أطواقا
يومٌ كأيام لذاتٍ لنا انصرمت
بتنا لها حين نام الدهر سُرَّاقا
نلهو بما يستميل العين من زَهَرٍ
جال الندى فيه حتي مال أعناقا
كأن أعينهُ إذ عاينت أرقي
بكت لما بي فجال الدمع رقراقا
وردٌ تألق في ضاحي منابتهِ
فازداد منه الضحى في العين إشراقا
سرى ينافحه نَيْلوفرٌ عبقٌ
وَسنان نبَّه منه الصبح أحداقا
كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا
إليك لم يعدُ عنا الصدر أن ضاقا
لو كان وفى المنى في جمعنا بكم
لكان من أكرم الأيام أخلاقا
لا سكَّن الله قلبًا عن ذكركم
فلم يطر بجناح الشوق خفاقا
لو شاء حملي نسيم الريح حين هفا
وافاكمُ بفتًى أضناه ما لاقى
كان التجازي بمحض الوُد مذ زمن
ميدان أنسٍ جرينا فيه أطلاقا
فالآن أحمد ما كنا لعهدكم
سلوتمُ وبقينا نحن عشاقا
فإنه يمثل المحب، وقد سلا أحبابه، وبقي وحده يعاني آلام الوجد، وأهوال الصدود.