موجبات الدموع
نذكر في هذا الباب حديث الشعراء عن أسباب البكاء، وموجبات المدامع، ثم ما يعرفون عن احمرار الدموع بعد أن كانت بيضاء، وابيضاضها بعد أن كانت حمراء!
وللدموع أسباب عامة، وأسباب خاصة، فأما الأسباب العامة فهي الحرق الدخيلة، والجوى الدفين، وما إلى ذلك من البث والحزن، واللوعة والحسرة، فمن هذا قول العباس بن الأحنف:
وما كان له أن ينسب إلى عينيها الظلم، لابتلائه بالسهاد. وخير منه قول صريع الغواني:
ولو قال:
لكان أقرب إلى الصدق وعرفان الجميل، فحسب المحب ما أهدته عينا حبيبه من ضنى الجسم، وسهد الجفون. وقال البحتري:
ولا أدري ما الذي أراده البحتري بما وراء الدموع! أهو الدم الأحمر الذي تجود به الشئون عندما تفيض المدامع، أم هي الحرق الدخيلة التي ينبئ عنها الدمع، ويفصح عن مكنونها البكاء! وقال الشريف الرضي:
ولعل هذا خير ما قيل في الاعتذار عن البكاء، بذكر موجبه، والداعي إليه، وإنه لشعر بديع. أما الأسباب الخاصة فهي كثيرة، فمن العشاق من يبكي لتلمس الأخبار، كما قال ابن هرم.
وإني ليروقني قوله: (وأسأل عنها الركب عهدهم عهدي) فإنه يدل على حيرة ووله، إذ كان يسأل من لا يعلم من أخبارها شيئًا، استرواحًا بالسؤال عنها، وكذلك يفعل المشوق! ولا يبعد أن يستنكر الغواني فيض الدموع على اللحية في هذا الشعر؛ لأن الأمر كما قال أبو تمام:
وقاتل الله الشيب، ولا عفا عن جنايته على الشباب!
ومنهم من يبكي عند ظهور المعالم، أو مطالعة الرسوم، كما قال ابن الدمينة:
وما كان الحب زفرة ولا عبرة، كما قال ابن الدمينة — ولكنه شيء به الروح تكلف — وما أحسن قول ابن أسباط القيرواني:
ومنهم من يبكي عند الوقوف بالرياض، إذ تذكره رشاقة أغصانها، وحمرة أزهارها، بالقدود الرشيقة، والخدود الوردية، كما قال ابن المعتز:
ومن الشعراء من يبكي عند هبوب النسيم، كما قال بعض الأعراب:
ومنهم من يبكي لبكاء الحمائم، وهو كثير في كلامهم. ولعل من أبدعه وأروعه قول الشبلي يصف شجو حمامة هاجت شجوه:
وهذه الأبيات من أحسن الشعر تقسيمًا، وأبرعه تصويرًا، ولقد افتتح بها الشيخ على الجارم خطبته في تأبين المرحوم الشيخ حمزة فتح الله فخرج الناس وهم يقدمونه على سائر الشعراء، ظنًّا منهم أنها له، ولولا الجهل بتاريخ الآداب العربية لما عاش الأحياء على حساب الأموات، من حيث لا يشعر الناس!
ومما ابتدعه المتأخرون في موجب البكاء، ما جعله بعضهم عقابًا للعين، جزاء بما أهدت نظراتها للقلب من شجى، والجسم من نحول، فقال:
وهو مذهب غريب، يدل على مبلغ صاحبه من إدراك الحسن، وفهم الجمال! وإلا فأي عاشق يذكر جناية النظر عليه، ولا يدعو لعينيه بطول البقاء. ولله در القائل:
ومنهم من جعل الدمع غسلًا للعين مما زنت بالنظر، فقال:
وقال الآخر:
وهو خيال فقهاء، لا خيال شعراء!
وقد نظر الأرجاني إلى قول أبي تمام:
فولد منه معنى لطيفًا، إذ جعل دموعه عند الفراق، وقد تحدرت كاللآلئ بقية ما نفثه المودعون في آذانه من حديث هو الدر النفيس. وذلك قوله:
•••
أما السبب في احمرار الدموع فلم أجد فيه أبلغ من قول صردر:
وهو مأخوذ بلطف من قول مسلم بن الوليد:
ويرى القارئ أن أصحاب هذه الأخيلة الشعرية، يرون أن احمرار الدموع إنما هو أثر للحرب القائمة بين عين العاشق وعين المعشوق، فيا لها من حرب شروس تطأ فيها أقدام الجنس اللطيف أعناق الجنس النشيط. وإنا بهذه الهزيمة لفرحون!
وكان عجيبًا أن تبيض الدموع بعد احمرارها! وقد رأينا كيف أولوا احمرار الدموع، ولنذكر أن أصدقهم سبط بن التعاويذي حين يقول:
والآن نريد أن نعرف كيف يتأولون ابيضاض الدموع بعد أن صيرها الحزن حمراء. فمن الشعراء من يرى الدمع الأبيض ماء ورد الخدود التي قطفها بعينيه.
عند الرحيل، كما قال بعض الظرفاء:
ومنهم من جعله شيبًا للدموع بعد طول عمر البكاء كقوله:
وأشجى منه قول الآخر:
وهذه الأبيات من أكثر الشعر حزنًا، وأغزره دمعًا، وهل تجد أدعى للشجو والبث من قوله:
ويذكرني هذا بقول الشريف الرضي في إتيان الدموع على العيون، والغليل على الضلوع:
ويذكر الشعراء أن الدموع حين تبيض بعد احمرارها تكون أرق من الهواء، ولهم في ذلك فنون من القول، وشجون من الحديث، وأجمل ما رأيت في ذلك قول خالد الكاتب في رفق عذاله به، وإسعادهم له: