الطبيعة في أنفس الشعراء
لقد أكثر شعراء الغرب من الحديث عن الطبيعة، حتى لتحسب أن ذلك سمة من سماتهم، لا يشاركهم
فيها أحد من العالمين.
ونريد أن نبين في هذه الكلمة أن شعراء العرب وردوا هذا المنهل، ونقعوا صداهم بمائه
العذب
الفرات، فإن الطبيعة مِلك لجميع العيون في جميع الأقطار، والشعور بها والجنوح إليها من
حاجات الفطرة، التي تسوِّي بين مختلف الشعوب، والتي تجمع حولها شتى العواطف
والأهواء.
ونحن نعلم أن شعراء الغرب أكثروا من وصف السحاب؛ إذ كانت بلادهم غزيرة المطر، وإذ
كانت
آذانهم وأبصارهم أليفة لدوي الرعد، ولمع البرق، على أن شعراء العرب لم يقصروا في هذا
الباب،
ويكفي أن نذكر قول البحتري يصف سحابة:
ذات ارتجاز بحنين الرعدِ
مجرورةُ الذيل صدوق الوعدِ
مسفوحة الدمع لغير وجدِ
لها نسيمٌ كنسيم الورد
ورنةُ مثل زئير الأسد
ولمع برق كسيوفِ الهِند
جاءت بها ريح الصَّبا من نجد
فانتثرت مثل انتثار العِقد
فراحتِ الأرض بعيش رغد
من وشي أنوار الربى في بُرد
كأنما غُدرانها في الوهد
يلعبن من حَبابها بالنرد
ومن أظهر الدلائل على سكون العرب إلى الطبيعة، وإخلادهم إلى مواردها الشهية أنهم يقرنون
الحنين إلى معاهدهم بالدعاء لها بالسقيا وتراوُح النسمات. وإليك قول الشريف:
أمعاهدَ الأحباب هل عودٌ إليَّ
مغدى نبلُّ به الجوى ومراح
يكفيك من أنفسنا ودموعنا
أن تُمطري من بعدنا وتراحي
فَلَرُبَّ عيش فيك رقَّ نسيمه
كالماء رقَّ على جنوب بطاح
وتغزل كصبا الأصائل أيقظت
ريَّا خُزامى باللوى وأقاح
كم فيك من صاحي الشمائل مُنتش
بالدَّل أو مرضى العيون صِحاح
فسقى اللوى صوب الغمام ودرُّه
وسقى النوازلَ فيه صوب الراح
وقد يقوى شعورهم «بشخصية» الطبيعة، حتى ليخاطبون الفلك الدائر، وينذرونه بالفناء!
انظر
قول البحتري:
أناةً أيها الفلك المدارُ
أنهب ما تصرَّف أم جُبارُ
ستفنى مثل ما تُفني وتبلى
كما تُبلي فيدرك منك ثار
تُناب النائبات إذا تناهت
ويدمر في تصرفه الدمار
وما أهل المنازل غير ركبٍ
مطاياهم رواحٌ وابتكار
وانظر قول أبي القاسم ابن هانئ:
تفنى النجوم الزُّهْرُ طالعة
والنيِّرانِ: الشمسُ والقمر
ولئن تبدَّت في مطالعها
منظومة فلسوف تنتثرُ
ولئن سعى الفلكُ المدار بها
فلسوف يُسلمها وينفطر
وانظر قول العتابي في وداع جارية له:
ما غناءُ الحِذار والإشفاق
وشآبيب دمعك المهراقِ
ليس يقوى الوجد منك على الوجـ
ـدِ ولا مقلتا طليح المآقي
غدَرات الأيام منتزعاتٌ
ما جنينا من طول هذا العناق
إن قضى الله أن يكون تلاقٍ
بعدما تنظرين كان تلاقِ
هوِّني ما عليك واقْنَيْ حياءً
لستِ تبقين لي ولست بباق
أيُّنا قدَّمت صروف المنايا
فالذي أخرت سريع اللحاق
غُرَّ من ظن أن تفوت المنايا
وعُراها قلائد الأعناق
كم صفيَّين مُتعا باتفاقٍ
ثم صارا لغربة وافتراق
قلت للفرقدين والليل مُلْقٍ
سود أكنافه على الآفاق
ابقيا ما بقيتما سوف يُرمى
بين شخصيكما بسهم الفراق
وإنما قلت «شخصية الطبيعة» لأدل القارئ على مبلغ ما سما إليه العرب حين كلفوا بالنظر
إلى
الوجود … وانظر قول الحسين بن وهب في وصف النار وقد نفرت منها إحدى الجواري الحسان:
بأبي، كرهت النار حتى أبعدت
فعلمت ما معناك في إبعادها
هي ضرةٌ لكِ في التماع ضيائها
وهُبوب نفحتها لدى إيقادها
وأرى صنيعك في القلوب صنيعها
بسيالها وأراكها وعدادها
شرَكتكِ في كل الأمور بفعلها
وضيائها وصلاحها وفسادها
ولينظر القارئ نظرة خاصة إلى قول علي بن شعيب:
انزعي الوشْي فهو يستر حسنًا
لم تحزْه برقمهنَّ الثياب
ودعيني عسى أقبل ثغرًا
لذَّ فيه اللمى وطاب الرُّضابُ
وعجيبٌ أن تهجرينيَ ظلمًا
وشفيعي إلى صِباك الشباب
فإنا نجده تخطى كل الأسوار الصناعية التي يحيط بها الشعراء أغراضهم، ثم هجم على المعنى
وأخذ بنواصيه، حين قال: «وشفيعي إلى صباك الشباب» ولم يقل: وشفيعي إلى صباك حبي وهيامي،
ووجدي وغرامي، وخشوعي وخضوعي، إلى آخر ما يقول المتيمون!
وانظر قول محمد البطليوسي:
غصبوا الصباح فقسموه خدودا
واستنهبوا قُضبَ الأراك قدودا
رأوا حصا الياقوت دون محلهم
فاستبدلوا منه النجوم عقودا
واستودعوا حدق المها أجفانهم
فسبوا بهنَّ ضراغِمًا وأسودا
لم يكفهم حمل الأسنَّة والظُّبا
حتى استعانوا أعينًا ونهودا
وتضافروا بضفائرٍ أبدت لنا
ضوء النهار بليلها معقودا
صاغو الثغور من الأقاحي بينها
ماء الحياء لو اغتدى مورودا
ويكاد هذا الشعر يكون عبادة للطبيعة، ولن يغيب على أحد ما فيه من سمو الخيال.
وانظر كيف يكون كمون الحتف في الجفون، وكمون الموت في السيوف، في قول السريِّ
الرفاء:
بنفسي من أجود له بنفسي
ويبخل بالتحية والسلامِ
ويلقاني بعزةِ مستطيلٍ
وألقاه بذلة مستهام
وحتفي كامنٌ في مُقلتيه
كمون الموت في حد الحسام
ويجيد شعراء العرب حين يمزجون وصف الطبيعة بالمعاني الوجدانية فكأنما يريدون أن يشركوا
الوجود في نعيمهم وبؤسهم، وهذا في ذاته ملحظ بديع، ولننظر قول صردر:
يقول خليلي والظباء سوانحٌ
أهذي التي تهوى؟ فقلت نظيرها
لئن أشبهت أجيادها وعيونها
لقد خالفت أعجازها وصدورها
فيا عجبًا منها يصدُّ أنيسها
ويدنو على ذعر إلينا نَفورُها
وما ذاك إلا أن غزْلان عامرٍ
يَثقن بأن الزائرين صُقورها
ووالله ما أدري غداةَ نظرننا
أتلك سهامٌ أم كئوسٌ تديرها
فإن كنَّ من نبلٍ فأين حفيفها
وإن كنَّ من خمر فأين سرورها
أيا صاحبيَّ استأذنا لي خُمْرها
فقد أذِنت لي في الوصال خدورها
هباها تجافت عن خليل يروعها
فهل أنا إلا كالخيال يزورها
وقد قلتما لي ليس في الأرض جنةٌ
أما هذه فوق الركائب حُورها
فلا تحسبي قلبي طليقًا فإنما
له الصدر سجنٌ وهو فيه أسيرها
أراكَ الحمى قل لي بأي وسيلةٍ
وصلت إلى أن صادفتك ثغورها
وإن فروع البان من أرض بيشةٍ
حبيبٌ إليَّ ظلها وحَرورها
ألذُّ من الورد الجنيِّ عَرارها
وأحلى من الشهد المصفى بريرها
على رسلكم في الحب إنا عصابةٌ
إذا ظفرتْ في الحب عفَّ ضميرها
ولسنا بصدد الموازنة بين شعراء الغرب والشرق في النظر إلى الطبيعة، فإن هذا باب طويل،
وإنما نشير فقط إلى أن الناس سواء في الإحساس بمظاهر الوجود، وإنما يختلفون في طرائق
التعبير، وأساليب البيان.