حمل السلام
للشعراء فنون مختلفة في نجوى الحبيب البعيد، فمنهم من يقصد إلى غرس الرفق في قلوب
أحبابه،
بوصف ما هو عليه من الخطر، كقول الطغرائي:
ويا أيها الغادي تحمل رسالة
على ما بها إن الحديثَ طويلُ
وقل لِلأُلَى حلوا الحمى سُقي الحمى
عزاءكم فالعامري قتيل
ومنهم من يوصي الرسول بملاطفة المحبوب واستدراجه. وأطرف ما قيل من الشعر في هذا المعنى
قول الوأواء الدمشقي:
بالله ربكما عوجا على سَكنى
وعاتباه لعل العتبَ يعطفه
وحدثاه وقولا في حديثكما
ما بال عبدك بالهِجران تُتلفه
فإن تبسمَ قولا في ملاطفة
ما ضر لو بوصال منك تسعفه
وإن بدا لكما في وجهه غضب
فغالطاه وقولا ليس نعرفه
وهو مأخوذ من قول عمر بن أبي ربيعة في وصف قوادة:
فأتتها طبة عالمةٌ
تمزج الجِدَّ مرارًا باللعب
تُغلظ القول إذا لانت لها
وتراخى عند سورات الغضب
قيل إن ابن أبي عتيق قال لعمر لما سمع هذا الشعر: ما أحوج المسلمين إلى خليفة يدير
أمورهم
مثل قوادتك هذه.
١ ولعله تذكر قول معاوية: لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. قيل: وكيف ذاك؟
فقال: إذا شدوا تراخيت، وإن تراخَوا شددت.
وقد تلطف إليها زهير في وصية الرسول بقوله:
فيا رسولي إلى من لا أبوح بهِ
إن المهمات فيها يعرف الرجل
بلغ سلامي وبالغ في الخطاب له
وقَبِّل الأرض عني حينما تصل
بالله عرِّفه حالي إن خلوت به
ولا تُطل فحبيبي عنده ملل
وإنك لتضحك بملء فيك حين تتأمل قوله:
إن المهماتِ فيها يُعرف الرجل
فكأنما هي قيادة حربية، لا قيادة غرامية!
ومنهم من يحمل النسيم تحياته إلى من يهوى، كما قال بعض الظرفاء:
فيا نسيم الصبا أنت الرسول له
والله يعلم أني منك غيرانُ
بلغ سلامي إلى من لا أكلمه
إني على ذلك الغضبان غضبان
لا يا رسوليَ لا تذكر له غضبي
فذاك مني تمويه وبهتان
وكيف أغضب لا والله لا غضب
إني لما رام من قتلي لفرحان
أكل يوم لنا رسلٌ مرددةٌ
وكل يوم لنا في العَتب ألوان
أستخدم الريح في حمل السلام لكم
كأنما أنا في عصري سليمان
وقد ذكر أمين الدين بن عطايا السبب في اختيار النسيم لحمل الرسالة حين قال:
أنا أهوى غصن النقا وهو لاهٍ
وفؤادي بحبه في التيه
يا نسيم الصبا ترفق عليه
وتلطف به ولا تؤذيه
وتحمَّل رسالة ليس إلا
كَ أمينا في حملها أرتضيه
وإذا لم يكن رسولي نسيما
نحو غصن النقا فمن يثنيه
وأظهر من ذلك ما حُكي أن ابن سعيد المغربي مشى مع جماعة من أدباء المصريين وفيهم أبو
الحسين الجزار، فمروا في طريقهم بمليح نائم تحت شجرة، فهبت الريح فكشفت ثيابه عنه، فقال
الجزار: قفوا، لينظم كل منا شيئًا في هذا. فقال ابن سعيد:
الريح أقودُ ما تكونُ لأنها
تُبدي خفايا الردف والأعكان
وتميل بالأغصان عند هبوبها
حتى تقبل أوجه الغدران
ولذلك الأحباب يتخذونها
رسلا إلى الأحباب والأوطان
وهو شعر حسن، غير أنه لا وجه لذكر الأوطان في هذا الموطن إذ لا علاقة لها بالقيادة،
ولو
قال الخلان أو الأخدان لكان أنسب وأقرب إلى المراد. وقال ابن الخياط:
يا نسيم الصبا الولوع بوجدي
حبذا أنت لو مررت بهندِ
ولقد رابني شذاك فبالله
متى عهده بأظلال نجد
ومنهم من يوصي الركبان بحمل سلامه، وتبليغ شكواه، كقول الشريف:
دعا بالوحاف السود من جانب الحمى
لديغ هوى لبَّيْتُ حين دعاني
تعجَّب صحبي من بُكائي وأنكروا
جوابي لِما لم تسمع الأذنان
فقلت نعم لم تسمع الأذن دعوةً
بلى إن قلبي سامع وجَناني
ويا أيها الركب اليمانون خبروا
طليقًا بأعلى الخيف أني عاني
عِدُوه لقائي أو عِدوني لقاءه
ألا ربما دانيت غير مدان
وهذا شعر موجع، يغري القلب بالحزن، والعين بالدمع، وأشجى منه قول مهيار:
تحرش بأحقاف اللوى عمر ساعةٍ
ولولا مكان الريب قلت لك ازددِ
وقل صاحبٌ لي ضل بالرمل قلبه
لعلك أن يلقاك هادٍ فتهتدي
وسلم على ماءٍ به بُرد غُلتي
وظِلِّ أَراكٍ كان للوصل موعدي
وقل لحمام البانتينِ مهنئًا
تغن خليًّا من غرامي وغردِ
أعندكم يا قاتلين بقيةٌ
على مهجة إن لم تمت فكأن قد
ويا أهل نجد كيف بالغور بعدكم
بقاء تِهامي يهيمُ بمنجد
ملكتم عزيزًا رِقُّه فتعطَّفوا
على منكرٍ للذل لم يتعوَّد
وحدث أبو العباس محمد بن يزيد قال: خرجت مع الحسن بن رجاء إلى فارس فلما صرنا إلى
موضع
يعرف بشعب بوان رأيت على حائط مكتوبًا بخط جليل:
إذا أشرف المكروب من رأس تلعة
على شِعب بوَّانٍ أفاق من الكربِ
وألهاه بطنٌ كالحريرة مسه
ومطرد يجري من البارد العذب
وطِيب ثمار في رياض أريضةٍ
وأغصان أشجار جناها على قرب
فبالله يا ريح الجنوب تحملي
إلى شعب بوان سلام فتى صب
وإذا تحت ذلك الخط الجليل بخط أدق منه:
ليت شعري عن الذين تركتنا
خلفنا بالعراق هل يذكرونا
أم لعل المدى تطاول حتى
قدُم العهد بيننا فنسونا
ولا يفوتنا أن نمتع القارئ بقول الشريف:
حيِّ بين النقا وبين المصلَّى
وقفات الركائب الأنضاء
وتعهد ذكرى إذا كنت بالخيـ
ـف لظبي من بعض تلك الظباء
قل له هل تراك تذكر ما كا
ن بباب القُبَيبة الحمراءِ
قال لي صاحبي غداة التقينا
نتشاكى حر القلوب الظماء
كنت خبرتني بأنك في الوجـ
ـد عقيدي وإن داءك دائي
ما ترى النفر والترحل للبيـ
ـن فماذا انتظارنا بالبكاءِ
لم يقلها حتى انثنيت لما بي
أتلقى دمعي بفضل ردائي