ندم المفارق
أشهر الشعر في ندم المحب على فراق من يحب، ما قاله قيس بن ذريح وقد طلق لبنى. قال
محمد بن
زياد الأعرابي: لما ألح ذُريح على ابنه قيس في طلاق لبنى، فأبى ذلك قيس، طرح ذريح نفسه
في
الرمضاء وقال: لا والله، لا أريم هذا الموضع حتى أموت، أو يخليها. فجاءه قومه من كل ناحية،
فعظموا عليه الأمر وذكروه بالله وقالوا: أتفعل هذا بأبيك وأمك، وإن مات شيخك على هذه
الحال
كنت معينًا عليه وشريكًا في قتله، ففارق لبنى على رغم أنفه وقلة صبره، وبكى حتى بكى لهما
من
حضرهما، وأنشأ يقول:
أقول لخُلتي في غير جرمٍ
ألا بيني بنفسك أنت بيني
فوالله العظيم لنزع نفسي
وقطع الرجل مني واليمين
أحب إلي يا لبنى فِراقًا
فَبَكِّي للفراق وأسعديني
ظلمتك بالطلاق بغير جرمٍ
لقد أذهبت آخرتي وديني
قال: فلما سمعت بذلك لبنى بكت بكاء شديدًا وأنشأت تقول:
رحلت إليه من بلدي وأهلي
فجازاني جزاء الخائنينا
فمن يرني فلا يغترَّ بعدي
بحلو القول أو يبلو الدفينا
فلما انقضت عدتها وأرادت الشخوص إلى أهلها أُتيت براحلة لتحمل عليها، فلما رأى ذلك
قيس
داخله منه أمر عظيم، واشتد لهفه، وأنشأ يقول:
بانت لُبَيْنَى فأنت اليوم متبول
وإنك اليوم بعد الحزم مخبول
فأصبحت عنك لبنى اليوم نازحة
ودلُّ لبنى، لها الخيرات، معسول
هل ترجعن نوى لبنى بعافيةِ
كما عهدت ليالي العشق مقبول
وقد أراني بلبنى حق مقتنع
والشمل مجتمعٌ والحبل موصول
فصرت من حب لبنى حين أذكرها
القلب مرتهن والعقل مدخول
أصبحت من حب لبنى حين أذكرها
في كربة ففؤادي اليوم مشغول
والجسم مني منهوك لفرقتها
أخو هُيام مصاب القلب مسلول
أستودع الله لبنى إذ تفارقني
عن غير طوع وأمر الشيخ مفعول
ثم ارتحلت لبنى فجعل قيس يقبِّل موضع رجليها من الأرض وحول خبائها، فلما رأى ذلك قومه
أقبلوا على أبيه بالعذل واللوم، فقال ذريح لما رأى حاله: قد جنيت عليك يا بُني! فقال
له
قيس: قد كنت أخبرك أني مجنون بها فلم ترض إلا بقتلي، فالله حسبك وحسب أمي! وأقبل قومه
يعذلونه بتقبيله للتراب، فأنشأ يقول:
فما حبي لطيب تراب أرضٍ
ولكن حب من وطئ الترابا
فهذا فعل شيخينا جميعًا
أرادا لي البلية والعذابا
ولقيس بن ذريح شعر أجود مما تقدم، وأدل على لوعته وأسفه لفراق لبنى كقوله:
تبكي على لبنى وأنت تركتها
وكنت كآت غيهُ وهو طائعُ
فلا تبكين في إثر شيء ندامة
إذا نزعته من يديك النوازع
فليس لأمر حاول الله جمعه
مُشِتٌّ ولا ما فرق الله جامع
كأنك لم تقنع إذا لم تلاقها
وإن تلقها فالقلب راض وقانع
فيا قلب خبرني إذا شطت النوى
بلبنى وصدت عنك ما أنت صانع
أتصبر للبين المشت مع الجوى
أم انت امرؤ ناسي الحياء فجازع
فما أنت إن بانت لُبينى بهاجع
إذا ما استقلت بالنيام المضاجع
وكيف ينام المرء مُستشعر الجوى
ضجيج الأسى فيه نكاسٌ روادع
ولا خير في الدنيا إذا لم تُواتنا
لبينى ولم يجمع لنا الشمل جامع
ولولا رجاء القلب أن تعطف النوى
لما حملته بينهن الأضالع
له وجباتٌ إثر لبنى كأنها
شقائق برق في السحاب لوامع
نهاري نهار الناس حق إذا دجا
لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
ويجمعني بالليل والهم جامع
ألا إنما أبكي لما هو واقع
وهل جزع من وشك بينك نافع
ومن جيد شعره أيضًا هذه القصيدة:
سأصرم لبنى حبل وصلك مجملا
وإن كان صرم الحبل منك يروعُ
وسوف أسلي النفس عنك كما سلا
عن البلد النائي البعيد نزيع
وإن مسني للضر منك كآبة
وإن نال جسمي للفراق خشوع
سقى طلل الدار التي أنتم بها
بشرقي لبنى صيفٌ وربيع
يقولون صبٌّ بالنساء مُوكل
وما ذاك من فعل الرجال بديع
مضى زمن والناس يستشفعونني
فهل لي إلى لبنى الغداة شفيع
أيا حرجات الحي حيث تحملوا
بذي سلمٍ لا جادكن ربيع
وخيماتك اللاتي بمنعرج اللوى
بلين بلى لم تبلهن ربوع
إلى الله أشكو نية شقت العصا
هي اليوم شتى وهي أمس جميع
وإن انهمال العين بالدمع كلما
ذكرتك وحدي خاليًا لسريع
فلو لم يهِجْني الظاعنون لهاجني
حمائم وُرق في الديار وقوع
تجاوبن فاستبكين من كان ذا هوى
نوائح ما تجري لهن دموع
لعمرك إني يوم جرعاء مالكٍ
لعاص لأمر المرشدين مُضيع
ندمت على ما كان مني، فقدتني
كما يندم المغبون حين يبيع
إذا ما لحاني العاذلات بحبها
أبت كبد مما أجنُّ صديع
وكيف أطيع العاذلات وحبها
يؤرقني والعاذلات هجوع
عدمتك من نفس شعاع فإنني
نهيتك عن هذا وأنت جميع
فقربتِ لي غير القريب وأشرقت
هناك ثنايا ما لهن طلوع
وضعفني حبيكِ حتى كأنني
من الأهل والمال التلاد خليع
وحتى دعاني الناس أحمق مائقًا
وقالوا مطيع للضلال تبوع
ويعجبني قوله:
ندمت على ما كان مني، فقدتني!
كما يندم المغبون حين يبيع
وهو في شعره يمثل الفطرة الخالصة من شوائب التكلف، فإنه فُجع بفر حليلته، والحليلة
المعشوقة متاع عزيز.
وفي وصف أثر الطلاق يقول أحد الأعراب:
ندمت وما تغني الندامة بعدما
خرجن ثلاث ما لهنَّ رجوع
ثلاث يُحرِّمن الحلال على الفتى
ويصدعن شعب الدار وهو جميع
والتعبير بشعب الدار تعبير دقيق، ما كان يغني عنه أن يقول: (ويصدعن شعب القلب) لأن
فراق
الحليلة هدم للبيت من أساسه.
ومن شجي الشعر في ندامة المفارق عينية ابن زريق، وقد ترك ابنة عمه ببغداد ورحل إلى
الأندلس في سبيل الرزق، ثم حيل بينه وبين ما يريد، فأرسل هذه الزفرة الباقية:
أستودع الله في بغداد لي قمرًا
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعهُ
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أُودعه
وكم تشفع بي ألا أفارقه
وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى
وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله ثوب العذر منخرق
مني بفرقته لكن أرقعه
إني أوسع عذري في جنايته
بالبين عنه وقلبي لا يوسعه
أعطيت ملكًا فلم أحسن سياسته
كذاك من لا يَسوس الملك يُخلعه
ومن غدا لابسًا ثوب النعيم بلا
شكر عليه فعنه الله ينزعه
اعتضت من وجه خلي بعد فرقته
كأسا يُجرع منها ما أجرعه
كم قائل لي ذنب البين قلت له
الذنب والله ذنبي لست أدفعه
هلا أقمت فكان الرشد أجمعه
لو أنني حين بان الرشد أتبعه
لو أنني لم تقع عيني على بلد
في سفرتي هذه إلا وأقطعه
يا من أقطع أيامي وأنفدها
حزنا عليه وليلي لست أهجعه
لا يطمئن بقلبي مضجع وكذا
لا يطمئن به مذ بنت مضجعه
ما كنت أحسب أن الدهر يفجعني
به ولا أن بي الأيام تفجعه
حتى جرى الدهر فيما بيننا بيد
عسراء تمنعني حقي وتمنعه
وكنت من ريب دهري جازعًا فرقًا
فلم أوَقَّ الذي قد كنت أجزعه
بالله يا منزل القصف الذي درست
آثاره وعفت مذ بعتُ أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا
أم الليالي التي أمضت ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله
وجاد غيث على مغناك يُمرعه
من عنده لي عهدٌ لا يضيع كما
عندي له عهد صدق لا أضيعه
ومن يصدع قلبي ذكره وإذا
جرى على قلبه ذكري يصدعه
لأصبرن لدهر لا يمتعني
به ولا بي في حال يمتعه
علمًا بأن اصطباري معقب فرجًا
فأضيق الأمر لو فكرت أوسعه
علَّ الليالي التي أضنت بفرقتنا
جسمي ستجمعني يومًا وتجمعه
وإن تغل أحدًا منا منيته
لا بد في غده الثاني سيتبعه
وإن يدم أبدًا هذا الفراق لنا
فما الذي بقضاء الله نصنعه
ومما يتصل بندامة المفارق ما قاله ابن الرومي في فرصة ضاعت منه فعض من بعدها البنان،
فلنذكرها على سبيل الفكاهة، لما فيها من ظرف المجون:
أستغفر الله من تركي علانية
ذنبًا هممت به في شادن خنث
١
ظبيٌ دعتني عيناه ومنطقه
بنية صدقت عن ظاهر عبث
فلم أجبه وحظي في إجابته
لكن سكت كأني غير مكترث
لا بل فررت وظل الصيد يطلبني
والله ما كنت فيها بالفتى الدمثِ
أقسمت بالله لما كنت محتجزًا
أني انبعثت بقلب غير منبعث