الأمل الضائع
نذكر في مقدمة هذا الباب رسالة كتبها صاحب البدائع، ونقلها إلى الفرنسية حضرة الأديب عبد المجيد عيسى البيه. وهي تمثل الوجد يضطرم في الصدر، بعد قسوة الإخفاق.
•••
كنت أصبر على بأساء الحياة، وأحتمل ما فيها من هم وغم، لو أن عندي بقية من الأمل أرفِّه بها أحزاني، وأدفن فيها آلامي، ولكن حال القنوط دون الرجاء، وأتى اليأس دون الطمع، فلم يبق غير الجزع من مُسعد، ولا سوى النوح من شفاء.
فيا جيرة ما كان أهنأ وردهم، وأطيب عيشهم، ويا أحبابًا ذقت الفرح بقربهم، وعرفت الهم لبعدهم، ويا من أفناني فراقهم، وكان أحياني لقاؤهم، بربكم ما الذي لقيتم بعدي، فقد لقيت بعدكم ذلًّا وهوانًا، وظلمًا وعدوانًا، ومن عسى أن يكون قد ظفر بودكم، ونعِم بحسنكم، فأصفاكم من الحب أجمله، ومن الأنس أكمله، فقد صحبت بعدكم من جحد نعمتي، وأنكر خلتي، ومن سقيته الشهد فسقاني الصاب، وأوليته القرب فأولاني القطيعة؟! فيا ليت شعري من ألوم؟ أألوم نفسي على أن لم أعق في بركم أهلي وإخواني، فأسير حيث سرتم، وأقيم حيث أقمتم.
أم ألومكم على أن تركتموني وحيدًا وآثرتم وطنكم، وأهلكم، ولم تبالوا بمن خلفتموه طريح حزنه، وأسير همه؟
أم ألوم قومًا جعلتهم منكم بدلًا فكانوا شر بدل، واتخذتهم من بعدكم ذخرًا فكانوا كالهباء، ورجوتهم حصنًا أتقي به الدهر الخائن، والزمن الجائر، فإذا هم أذل من قراد بمنسم، وإذا المتفيئ ظلهم، والراجي برهم، يطمع في غير مطمع، ويلجأ إلى شر وزَر؟!
أم ألوم دهرًا اضطركم إلى الرحلة فرحلتم، وحكم علي بالمقام فأقمت، ثم أمدنا من اليأس لبعد الدار، وشط المزار، ما جعل الأمر في التلاقي خائبًا، ورجاء التداني كاذبًا.
ما هذا الذي صنعتم؟ أخضعتم لليأس، وأذعنتم للقنوط، ولم ترهبوا العتاب إذ لم تأملوا اللقاء، فزففتم تلك الشمس إلى غيري، وآثرتم بها سواي؟!
غلب اليأس عليكم فمللتم — ولا وفاء لملول — فكان منكم ما أقَضَّ المضجع، وأورث الجفن السهاد، فهل تعلمون ما صنع اليأس بنا، ونال القنوط منا؟ ولكن هيهات بعد اليوم أن ينفع العزاء.
وقد نظرت ما قال الشعراء في الأمل الضائع، ووجدت لهم فيه أفانين، فمنهم من يأسف على أن لم يؤهله وجهه للعشق، كالذي يقول:
ومن جيد الشعر في ضياع الأمل قول عمر بن أبي ربيعة في سُكينة بنت الحسين:
ولم أر من الشعراء من بكى الأمل الضائع كما بكاهُ كُثَيِّر في قوله:
وهي صورة شعرية تمثل المحب، وقد استدرجه محبوبه، حتى أخذ الطمع بنواصي آماله، ثم تركه في اللحظة الأخيرة، يتعثر في أذيال الخيبة والقنوط.
وفي هذا المعنى يقول الشريف:
ومن الأمل الذاهب أن يكون من تحبه، من بلد غير بلدك، وقوم غير قومك، كما قال نُصيب:
ونصيب يتحدث كثيرًا عن عقم الأماني، حتى ليقول: