الكتمان

من الشعراء من لا يهمه من الكتمان غير ستر تفاصيل الود، وأسرار القرب، ولا يرى بعد ذلك حرجًا في ذكر اسم من يحب، كما قال جميل:

وإنه لو كان يذهب إلى نكران الاسم وجحوده، تضليلًا للوشاة، لكان هذا البيت من سخف القول، وهذره. وإليك ما يقول من كلمة ثانية:

فإنه يدل على أنه لا يبالي أن يُعرف بحبها، حتى قال الناس: جميل بثينة، كما قالوا مجنون ليلى. ويذكر أبو على القالي أن البيت السالف لكثير، وأنه ذكر بثينة تورية عن حبيبته، وهذا فيما أرى غير حتم؛ لأن كثير ما كان يعدل عن عزة إلا لضرورة الشعر، كقوله:

فقد ذكر عزة عند مواتاة الشعر، وليلى عند مُعاصاته، وهو نوع من التلاعب بالأسماء الذي كثر في شعر العرب. وقال كثيِّر من قصيدة أخرى:

وهو في هذا الشعر لا يكتم اسم من يهوى، وإنما يكتم أحاديث الحب، وأسرار الصبابة، كما قال جابر بن ثعلب الجرمي:

وهذا العباس بن الأحنف كان من أكثر المحبين كتمانًا، ولكنه صرح باسم محبوبته فوز، ولقد بلغ من حسد إحدى جاراته له أن سمت جاريتها «فوز» وقد قال في ذلك:

ومسلم بن الوليد يتغنى بكتم تباريح الصبابة في قوله:

وقد عارضه ابن عبد ربه بقوله:

وهو يذكرنا بقول أبي الشيص الخزاعي:

وقول ابن نُباتة المصري:

ومن العشاق من يكتم الهوى جملة واحدة كقول ابن قلاقس:

وهو مذهب غريب، وأغرب منه مذهب من يقول:

وللعباس بن الأحنف شجون من الحديث عن الكتمان، فتارة يذكر أنه باح بحبه حين طال بلاؤه. كقوله:

وهو هنا يكتم حبه عن محبوبه، فضلًا عن الناس. وتارة يذكر أنه سيموت مكتوم السر إلا عمن يحب، فيقول:

وحينًا يذكر أنه سلا، لينصرف الناس عن التحدث بحبه رفقًا بمحبوبته فيقول:

وقد يعتذر عن هجره فيقول:

وأحلى من هذا قوله في تعيين الغرض من الصدود:

وتأمل قوله: «صدود الخدود» يريد بذلك أن كلًّا منهما يصدف بخده عن صاحبه، أما القلوب فهي في ائتلاف. وطورًا يكتفي بحديث العيون، كقوله:

وقد يسر الحزن، ويبدي السرور، مبالغة في التستر، كقوله:

وقد أفصح عن ضرورة الكتمان بقوله:

وربما تمنى لو استطاع أن يكاتم قلبه الحب، فيقول:

وقد ييأس من كتم الحب فيقول:

وقد يبالغ بالكتمان حتى يضل الناس من أجل حبه في بيداء من الظنون، ليس لليل نهار، كما يقول:

وقد ذكروا أن العباس بن الأحنف مات هو وإبراهيم الموصلي والكسائي في يوم واحد، فرفع ذلك إلى الرشيد، فأمر المأمون أن يصلي عليهم، فصفوا بين يديه، ثم سأل عنهم واحدًا واحدًا، وأمر بتقديم ابن الأحنف فصلى عليه، فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم بن عبد الله بن مالك الخزاعي فقال: يا سيدي كيف آثرت العباس بالتقدمة على من حضر؟ فأنشده المأمون هذين البيتين:

ومن جيد ما قيل في كتمان السر قول قيس بن ذُريح:

ومن الشعر الموجع في الكتمان قول جاهر بن عبد الحكيم الكلبي:

وقد يتهم المرء بحب من لا يحب، فيتمنى لو تصدق التهمة، كما قال صاحب البدائع: