قساة القلوب
والعشاق يرمون أهل الحسن بقسوة القلب، وغلظ الكبد، ويحسب ابن الأحنف أن قلوب الحسان
قُدت
من الصخر، فيقول:
أظن وما جربت مثلك إنما
قلوب نساء العالمين صُخور
ذريني أَنَمْ إن لم أنل منك زوَرة
لعل خيالًا في المنام يزور
بكيت إلى سِرب القطا حين مر بي
فقلت ومثلي بالبكاء جديرُ
أسرب القطا هل مَن يعير جناحه
لعلي إلى من قد هويت أطير
وقد نظر المرحوم إسماعيل باشا صبري إلى استعارة الجناح فقال:
يا سرحة بجوار الماء ناضرةً
سقاك دمعيَ إن لم يوفِ ساقيكِ
عار عليك وهذا الظل منتشرٌ
فتك الهجير بمثلي في نواحيك
هل من معيري جناحَي طائر غردٍ
كي أقطع العمر شدوًا في أعاليك
فلا أُنفَّر عن أرض غُرستِ بها
ولا يرن بسمعي غير واديك
ومن المحبين من يصف قلب محبوبته بالطمأنينة والهدوء، في حين أن قلبه يتلظى على جمر
الصدود. كما قال بشار:
١
أيها الساقيان صُبَّا شرابي
واسقياني من ريق بيضاء رودِ
إن دائي الصدى وإن دوائي
شربة من رضُاب ثغرٍ برودِ
ولها مبسمٌ كغرِّ الأقاحي
وحديث كالوشي وشي البرودِ
نزلت في السواد من حبة القلـ
ـب ونالت زيادة المستزيد
ثم قالت نلقاك بعد ليالٍ
والليالي يبلين كل جديد
عندها الصبر عن لقايَ وعندي
زفراتٌ يأكلن قلب الحديد
وما أظرف قول أبي نواس في معشوقته جنان:
جِنان تسبني ذكرتْ بخيرٍ
وتزعم أنني رجل خبيث
وأن مودتي كذبٌ ومَيْنٌ
وأني للذي أهوى بَثُوثُ
وليس كذا ولا رد عليها
ولكن الملولَ هو النكوث
ولي قلب ينازعني إليها
وشوق بين أضلاعي حثيث
رأت كلفي بها ودوام عهدي
فملتني كذا كان الحديث
وأبدع ما قيل في قسوة قلب الجميل قول خالد الكاتب:
ليت ما أصبح مِن
رقة خديك بقلبك
ولقساة القلوب يقول صاحب البدائع:
لقد صددنا كما صددتُم
فهل ندمتم كما ندمنا
وشفنا الوجدُ مذ جفوتم
فأظهر الدمع ما كتمنا
وهبت روحي وقلت عطفًا
فما عطفتم وما رجعنا
ملكتموها وما وصلتم
لقد غنمتم وما غَنِمنا
وما ازددت خوفًا على فؤادي
إلا وزدتم رضى وأمنا
وما رجائي وقد قويتم
على جفائي وزدت وهنا
قتلت نفسي على جفاكم
وما قرعتم علي سنا
لهفي على السالف المفدى
لو كان يجدي الفدا لجُدنا
فما ذكرنا الذي تقضَّى
إلا على حسنه انتحبنا
•••
لو كنت أشكو الهوى لصخر
لحنَّ وجدًا وَأَنَّ حُزنا
وذاب من هول ما أراه
فقد برانا الهوى وذبنا
إن كان ذنبٌ فسامحونا
ويشهد الله ما أسأنا
وصاحب البدائع هو الذي يقول:
أيها الظالم الجميلُ سلامٌ
من أسير قيدته بجفاكا
كيف أصليتني من الهجر نارًا
وحرمت العيون من أن تراكا
ليت من شاء أن يطول أسانا
في سبيل الهوى أطال أساكا
سوف أنجو من الغرام وأغدو
مطلق النفس من قيود هواكا
فاسقني المر من صدودك واحكم
جائر الحكم في ظلال صِباكا
وقد حسب بعض الناقدين أن في هذا الشعر نذيرًا بنقض العهد، وجحود الود، وليس الأمر
كما
يحسبون، وإنما هي صورة لحالة من حالات النفس، حين يثور الوجد، ويتمنى المحب ليأسه لو
أفلت
من أشراك هواه، وهيهات هيهات!