سيف الفراق
نتكلم في هذا الحديث عن وصف الشعراء لفتك الفراق بالنفوس وقتله القلوب، فمنهم من يذكر
تعثره في الطريق، وضلاله عن القصد، بعد فراق من يحب، كما قال بعض الأعراب:
وما وجد مغلوبٍ بصنعاءَ موثقٍ
بساقيْه من ثقل الحديد كبُولُ
ضعيف الموالي مُسلم بجريرةٍ
له بعد نومات العيون عويل
يقول له الجلاد أنت معذبٌ
غداةَ غد أو مسلمٌ فقتيل
بأوجعَ مني لوعة يوم راعني
فراق حبيبٍ ما إليه سبيل
غداةَ أسير القصد ثم تردني
عن القصد لوعات الهوى فأميل
وهذه القطعة من غرر الشعر، وهي آية في وصف الحيرة يرمى بها المحب المشوق، بعد فراق
لا
يُرجى أن يعقبه لقاء، وتأمل كيف شبه حاله بحال مغلوب كبل بالحديد، في جريرة لا يغني في
دفعها ضعف مواليه، وقد أصبح موضع النذير من الجلاد في كل صباح ومساء، وحسب الفراق أن
يرمى
المحب في مثل هذه الحال!
وأنشد الجاحظ:
أزف البين المبين
قطع الشك اليقين
حنَّت العيش فأبكا
ني من العيش الحنينُ
لم أكن لا كنت أدري
أن ذا البين يكون
علموني كيف أشتا
قُ إذا خفَّ القطين
وكان أستاذنا الشيخ سيد المرصفي يسخر ممن يقول:
وأنا بكيت من الفرا
ق فهل بكيت كما بكيت
ولطمت خدي خاليًا
ومرسته حتى اشتفيت
وعواذلي ينهينني
عمن هويت فما انتهيت
وأنا أحسب أن البكاء ولطم الخدود أهون ما يجري بعد الفراق، ويا ويلتاه من الفراق!
وما
أصدق من يقول:
أُمزمعةٌ ليلى ببينٍ ولم تَمُتْ
كأنك عما قد أظلكَ غافلُ
ستعلم إن شطت بهم غُربة النوى
وزالوا بليلى أن قلبك زائل
ومن المتيمين من يشجيه أن يقاسي أحبابه متاعب السفر، ومشاق السُّرى، ومصاعب الإدلاج.
ثم
يرجع إلى نفسه فيتوجع لحاله بعد الفراق. كقول أبي تمام:
لو كان في البين إذ بانوا لهم دعةٌ
لكان بينهم من أعظم الضررِ
فكيف والبين موصولٌ به تعبٌ
تكلف البيد في الأدلاج والبُكر
لوَ انَّ ما يبتليني الحادثات به
يكون بالماء لم يشرب من الكدَر
أو كان بالعيس ما بي يوم رحلتهم
أعيت على السائق الحادي فلم تسِر
كأن أيدي مطاياهم إذا وخَدَتْ
يقعن في حُر وجهي أو على بصري
وهذا شعر يُذيب لفائف القلوب … وقال بعض المعذبين:
قد قلت والعبرات تسـ
ـفحها على الخد المآقي
حين انحدرت إلى الجزيـ
ـرة وانقطعت عن العراقِ
يا بؤس من سلَّ الزما
نُ عليه سيفًا للفراق
إي والله!
يا بُؤسَ من سل الزما
نُ عليه سيفًا للفراق
إنه لا محالة مقتول!
وقد يلوم المحب نفسه على فراق أحبابه، كالذي يقول:
أتظعن عن حبيبك ثم تبكي
عليه فمن دعاك إلى الفراقِ
كأنك لم تذق للبين طعما
فتعلم أنه مر المذاق
أقم وانعم بطول القرب منه
ولا تظعن فتكبَت باشتياق
فما اعتاض المفارق من حبيبٍ
ولو يعطى الشآم مع العراق
ومثله من يقول:
تطوي المراحل عن حبيبك دائبًا
وتظل تبكيه بدمع ساجمِ
كذبتك نفسك لست من أهل الهوى
تشكو الفراق وأنت عين الظالم
هلا أقمت ولو على جمر الغضى
قُلبت أو حدِّ الحُسام الصارم
وما أوجع ما قالته إحدى النساء:
وكنا كغصني بانةٍ وسط روضةٍ
نشم شذا الأزهار في عيشةِ رغدِ
فأفرد هذا الغصن من ذاك قاطعٌ
فيا فردة باتت تحنُّ إلى فَرد
ولهذين البيتين قصة محزنة يضيق عن ذكرها المجال.