بكاء الشباب
ولعل أشجى ما يمر بخاطر المرء أن يهجره الغيد بعد انصرام الشباب، والشباب هو شفيع
الفتى
إلى قلوب الحسان، فإذا مضى فقد أصبح بلا شفيع، والويل للمفرد المغلوب!
من أجل ذلك تفنن الشعراء في بكاء الشباب، والتنكر للمشيب، فمنهم من تبيضُّ في رأسه
شعرة
واحدة، فلا يراها قليلة، لأن قذى العين غير قليل، كما قال ابن الرومي:
طرفت عيون الغانيات وربما
أمالت إليَّ الطرف كلَّ ممِيلِ
وما شِبْتُ إلا شيبة غير أنه
قليل قذاة العين غير قليل
وابن الرومي يكثر البكاء على شبابه، ويعلل نفسه أحيانًا بأن الشيب في الرأس كالنور
على
الغصن، ويأسى كثيرًا لاحتياجه إلى الخضاب، الذي يراه أشبه بسواد الحداد، ويكاد يصرخ من
خروجه إلى الحسان في شَعر ميت، وقلب حي، والمحب يتفجر قلبه دائمًا بالحياة، وانظر كيف
يقول:
شاب رأسي ولات حين مشيب
وعجيب الزمان غير عجيب
قد يشيب الفتى وليس عجيبًا
أن يُرى النورُ في القضيب الرطيب
ساءها أن رأت حبيبًا إليها
ضاحك الرأس عن مفارق شيب
يا حليف الخضاب لا تخدع النفـ
ـس فما أنت للصبا بنسيبِ
ليس يُجدي الخضاب شيئًا من النفـ
ـعِ سوى أنه حدادُ كئيب
لهف نفسي على القناع الذي مَح
منع العين أن تقر وقرت
عين واشٍ بنا وعين رقيب
شَعَرٌ ميتٌ لذي وطرٍ حيٍّ
كنار الحريق ذات اللهيبِ
ظلمتني الخطوب حتى كأني
ليس بيني وبينها من حسيبِ
وما أروع قوله في السخر من الخضاب:
رأيت خضاب المرء عند مشيبه
حدادًا على شرخ الشبيبة يُلبس
وإلا فما يغزو امرؤ بخضابه
أيطمع أن يخفى شبابٌ مُدلس
وكيف بأن يخفى المشيب لخاضبٍ
وكل ثلاثٍ صبحهُ يتنفس
وهبه يواري شيبهُ أين ماؤهُ
وأين أديمٌ للشبيبة أملس
وقال أشجع السلمي يوصي بانتهاب اللذات، قبل أن يقف في سبيلها الهَرم والمشيب:
وما ليَ لا أعطي الشباب نصيبه
وغصناه يهتزانِ في عوده الرطبِ
رأيت الليالي ينتهبن شبيبتي
فأسرعت باللذات في ذلك النهب
رأيت بنات الدهر يخلِسن لذتي
لقد حزن سلمي وانتهين إلى حربي
وقد حوَّلت حالي الليالي وأسرَجت
على الرأس أمثال الفتيل من العطبِ
وموت الفتى خيرٌ له من حياته
إذا كان ذا حالين يصبو ولا يُصبي
وقال آخر في صدوف النساء عن صَرعى المشيبِ:
هل الأدم كالآرام والدهر كالدُّمى
مُعاودتي أيامهن الصوالحُ
زمان سلاحي بينهن شبيبتي
لها سائقٌ من حسنهنَّ ورامح
وأقسمنَ لا يسقينني قطر مُذنةٍ
لشيبي ولو سالت بهن الأباطح
وكان أستاذنا المرحوم فقيد اللغة والأدب الشيخ محمد المهدي بك كثير الإعجاب بقول أبي
منصور النميري في الجزع على شبابه المفقود:
ما تنقضي حسرةٌ مني ولا جَزَعُ
إذا ذكرت شبابًا ليس يرتجعُ
بان الشباب ونابتني بفرقته
خُطوب دهرٍ وأيام لها خِدَع
ما كنت أوفي شبابي كنه قيمته
حتى انقضى فإذا الدنيا له تبَع
تعجبتْ أن رأت أسراب دمعتهِ
في حلبة الخد أجراها حشًا وجِع
أصبحت لم تطعمي ثكل الشباب ولم
تشجَيْ بغصتهِ والعذر لا يقع
لا ألحين فتاتي غير كاذبةٍ
عينَ المكذوب فما في ودكم طمعُ
ما بالشبيبة من وان وإن رفعت
إلا لها نبوةٌ عنه ومرتدعُ
إني لمعترف ما فيَّ من أربٍ
عند الحسان فما في النفس منخَدع
قد كدت تقضي على فوت الشباب أسى
لولا أعزيك إن الأمر منقطع
ويذكرون أن الرشيد سمع هذا الشعر، وبكى له، وأنشد:
أتأمل رجعة الدنيا سِفاهًا
وقد صار الشباب إلى ذهابِ
فليت الباكيات بكل أرضٍ
جُمعنَ لنا فنُحن على الشبابِ
ومن التعليل الكاذب قول البحتري في مدح المشيب:
عذلتنا في عشقها أم عمرٍو
هل سمعتم بالعاذل المعشوق
ورأت لمةً ألمَّ بها الشيـ
ـب فريعت من ظلمة في شروقِ
ولعمري لولا الأقاحي لأبصر
تَ أنيق الرياض غير أنيق
وسواد العيون لو لم يجاور
هُ بياض ما كان بالموموق
ومزاج الصهباء بالماء أملى
بصبوح مُستحسنٍ وغبوق
أيُّ ليلٍ يَبهى بغير نجومٍ
أو سحاب يَندى بغير بروق
لكن ماذا يصنع الأشيب، إن لم يغالط الحسان بهذه المعاذير؟!