بلايا الغيرة
نذكر هنا ما جرى في سبيل الغيرة من الدموع، ونتقدم ذلك بقول بعض الأندلسيين وقد قبَّل من يهواه:
ألست ترى الرعب وقد استولى على هذا الشاعر من أن ينعم بحبيبه سواه، فجعل يتمنى، لو تنفع الأماني، أن لا يراقبهم غير النرجس، وأن لا يصحبهم غير الشمعة، وأن لا يقبل محبوبه غير الكأس أو المسواك؟!
وقد جُن العرب بالغيرة جنونًا، فتخيلوا غسان بن جهضم ينشد زوجه من عالم الأرواح، وقد زفت إلى غيره بعد موته بقليل:
وتخيل رواة العرب أن موسى الهادي جاء إلى جاريته (غادر) وقد أقبلت من بعده على أخيه هارون فأنشدها وهي نائمة هذه الأبيات:
بعد هذا التمهيد يستطيع القارئ أن يدرك لِمَ حملت الغيرة عبد السلام بن رغبان على قتل غلامه وجاريته، وحديث هذا الشاعر عجيب؛ فقد ذكروا أنه اشترى غلامًا وجارية، ثم شغفاه حبًّا، فكان يجلس للشراب والجارية عن يمينه والغلام عن شماله، ثم خشى أن يموت قبلهما فينعم غيره بما لهما من روعة وجمال، فذبحهما وأحرقهما وصنع من ترابهما آنيتين للشراب! وكان ينشد حين يشرب من الآنية التي صنعها من تراب الغلام هذه القطعة الباكية:
ثم ينشد حين يشرب من الآنية التي صنعها من تراب الجارية هذه القطعة التي يندر أن نجد أحر منها في الرثاء:
ولعل الظلم لم يرزق حجة أقوى من هذه الحجة، ولا برهانًا أسطع من هذا البرهان! وكانت السيدة سكينة تعيب على جرير قوله:
وكانت تقول: قاتله الله ما أقساه! هلا قال: ادخلي بسلام.
فلو سمعت السيدة سكينة بهذا المحب السفاح لطال بكاؤها على صرعى الغيرة، وقتلى الإشفاق، ولئن كان الجنون فنونًا كما يقولون، فهذا ورب الكعبة أغرب فنون الجنون، وكنا نود لو حدثنا التاريخ عن أثر هذه الأعجوبة في أنفس من عاصروا ابن رغبان لنعرف رأيهم في الجناية على الجمال، ألم يكفهم أن الحسن حال تحول، ودولة تدول، حتى تسوق غيرتهم إليه الفناء؟ وبعد، فقد سمي عبد السلام بن رغبان هذا «ديك الجن» وإنه في فعلته هذه لشيطان مريد!
هذا، ومن الشعراء من يغار من عود البَشام حين يَستاك به الحبيب، ومن العقد يطوق به الجيد، ومن النقاب يحجب به الوجه الجميل، كما قال الشريف:
ومنهم من يغار من قميص حبيبه، كما قال خالد الكاتب:
وكما قال بعض الأعراب:
ومنهم من يغار على اسم محبوبه، فيكني عنه، لئلا تتمتع به الآذان، كما قال البها زهير:
وقد يغار المحب على حبيبه من نفسه، كما قال أبو تمام: