الاستعطاف
نذكر هنا حيل العشاق في لفت أنظار الأحباب إليهم، وتوجيه أفكارهم نحوهم، حتى ينالوا
طِلبتهم من القرب، وبغيتهم من الوصل، ولذلك حالات: فمن العشاق من يقبح لحبيبه المطل والخلف،
حتى يبر بوعده، ويفي بعهده، كقول ابن الأحنف:
كأن لم يكن بيني وبينكم هوًى
ولم يك موصولًا بحبلكم حبلي
وإني لأستحيي لكم من محدثٍ
يحدث عنكم بالملالة والمطلِ
وكقول الطغرائي:
ويا جيرتي بالجزع جسميَ بعدكم
نحيلٌ وطرفي بالسهاد كليلُ
عهدت بكم غصن الشبيبة مورقًا
فخان وخنتم والوفاء قليل
وأودعتكم قلبي فلما طلبته
مطلتم وشر الغارمين مَطول
فإن عدتمُ يومًا تريدون مهجتي
تمنَّعت إلا أن يقام كفيل
ومن المتيمين من يُحرم كل شيء حتى الوعد فتراه لا يطلب الوفاء ولا يقبِّح الإخلاف،
وإنما
يرجو وعدًا يجلو به كربة قلبه، ويطفئ به نار جواه، لو تغني الوعود!
وما أزال ألمح في عالم الخيال مجنون بني عامر، وقد صادف في توحشه حي ليلى، ولقيها
فجأة
فعرفها وعرفته، فصعق وخر مغشيًّا عليه، وأقبل فتيان من حي ليلى فأخذوه، ومسحوا التراب
عن
وجهه وأسندوه إلى صدورهم، وسألوا أن تقف له وقفة، فرقت لما رأته وقالت: أما هذا فلا يجوز
أن
أفتضح به ثم قالت لجاريتها: اذهبي إلى قيس فقولي له: ليلى تقرأ عليك السلام، وتقول لك
أعزز
علي بما أنت فيه، ولو وجدت سبيلا إلى شفاء دائك لوقيتك بنفسي. فمضت الوليدة إليه وأخبرته
بقولها فأفاق وجلس، وقال: أبلغيها السلام، وقولي لها هيهات هيهات! إن دائي ودوائي أنت،
وإن
حياتي ووفاتي لفي يديك، ولقد وكلتِ بي شقاءً لازمًا وبلاءً طويلًا، ثم بكى، وأنشأ
يقول:
أقول لأصحابي هي الشمس ضوْءُها
قريبُ ولكن في تناولها بُعدُ
لقد عارضتنا الريح منها بنفحةٍ
على كبدي من طيب أرواحها بَرد
فما زلت مغشيًّا عليَّ وقد مضت
أناةٌ وما عندي جواب ولا رد
أقلب بالأيدي وأهلي بودهم
يُفدُّونني لو يستطيعون أن يَفْدوا
ولم يبق إلا الجلد والعظم عاريًا
ولا عظم لي أن دام ما بي ولا جلد
أدُنيايَ ما لي في انقطاعي ورغبتي
إليك ثوابٌ منك دَينٌ ولا نقد
عديني بنفسي أنت وعدًا فربما
جلا كربة المكروب عن قلبه الوعد
غزتني جنود الحب من كل جانب
إذا حان من جُند قفول أتى جند
والبيت الأخير أعجوبة من أعاجيب الخيال، فما زال المحبون صرعى مساكين، إن قفلت عنهم
جنود
الخدود، غزتهم جنود العيون، ويرحم الله من تألبت عليه جنود الحب جميعًا حتى ذهبت بلبه،
ولم
يبق إلا أن تنكسر النصال على النصال!
وقد يستعطف المتيم المحزون ولكنه لا يطلب وعدًا يطارد به جيوش الأحزان، ولا يرجو الوفاء
بوعد كأن يهتدي به في ظلمات الشجون، وإنما يُلمح وقد يكون التلميح، أبلغ من التصريح.
فيذكر
أن الحسن يحدق به من كل جانب، ولكنه لا يصبو ولا يميل لأنه بمن يحب مشغول. وانظر قول
الأبيوردي في هذا المعنى البديع:
وقتكِ الردى بيضٌ حسانٌ وجوهها
ومثريةٌ من نضرة وجمال
طلعن بدورًا في دجى من ذوائب
ومِسن غصونا في متون رمالِ
أرى نظرات الصب يعثرن دونها
بأعراف جُود أو رءوس عوال
عرضن عليَّ الوصل والقلب كله
لديك فأنى يبتغين وصالي
ولولاك ما بعت العراق وأهله
بوادي الحمى والمندليَّ بضال
فما لنساء الحي يضمرن غيرة
سبتها العوالي ما لهن وما لي
ولو خالفتني في متابعة الهوى
يمينيَ ما واصلتها بشمالي
وفيكِ صدودٌ من دلالٍ أظنه
على ما حكى الواشي صدود ملال
وقد يتمنى المحب أن يمرض ليعوده الحبيب، وإليك قول ابن الخياط:
أحنُ إلى سقمي لعلك عائدي
ومن كلفٍ أني أحنُ إلى السقم
وحتامَ أستشفي من الداء ما به
سقامي وأستروي من الدمع ما يظمي
فراقٌ أتى في إثرِ هجر وما أذى
بأوجعَ من كلم أصاب على كلمِ
مسكين هذا المحب، يتمنى المرض ليعاد، فهل يعلم أن من المحبين من أشقاه المرض، فلم
يسعده
العُوَّاد، وهل أتاه حديث ابن الأحنف وقد لج به المرض فأخذ يهذي بهذا الشعر الباكي
الحزين:
أهابكِ أن أشكو إليك وليس لي
يدٌ بالذي ألقى وأخفي من الوجد
وإني لصادي الجوف والماء حاضرٌ
أراه ولكن لا سبيل إلى الوِرْدِ
وما كنت أخشى أن تكون منيتي
بكف أخص الناس كلهم عندي
وهل وصلت إليه تلك الوصية البديعة التي بعث بها ابن الأحنف إلى حُجاج البيت الحرام
وقد
توقع أن يمروا بدار هواه؟
انظر إلى ذلك العليل، وقد خفي الداء، وتعذر الشفاء، وكلما عُصر الماء في فيه مجه،
كما
يفعل الطفل الغرير، وقد ذهبت العلة بجمال نظراته، وسحر بسماته، وإن نودي لم يجب بغير
الأنين، انظر إليه وقد تمنى جرعة مُزجتْ بريق حبيبته يحملها إليه الحجاج في زجاجة! ولو
أمكن
أن تنقل إليه النظرة، لرجاهم أن يحملوا إليه نظرة، ولو خلق الفنوغراف في ذلك الحين لرجاهم
أن ينقلوا إليه نغمة من نغماتها العِذاب! ولو مهر المصورون إذ ذاك لكلفهم أن يصوروا مشيتها
الفتانة في الضحى والأصيل! انظر إليه وهو يرجوهم أن يتعللوا عند أهله فيذكروا أن تلك
الجرعة
العذبة إنما هي من ماء زمزم! ويحك، وأين ماء زمزم الملح الأجاج، من ماء ذلك الثغر العذب
الفرات؟ انظر إليه وقد أوصاهم أن يرشوا ريق من يهوى على وجهه، فإن صادفوه ميتًا فليرشوه
على
قبره! انظر كيف يقول:
أزوارَ بيت الله مروا بيثرب
لحاجة متبول الفؤاد كئيب
وقولوا لهم يا أهل يثرب أسعدوا
على جلب للحادثات جليب
فإنا تركنا بالعراق أخا هوى
تنشب رهنا في حبال شَعُوبِ
به سَقمٌ أعيا المداوين علمه
سوى ظنهم من مخطئٍ ومصيب
إذا ما عصرنا الماء في فيه مجه
وإن نحن نادينا فغير مجيب
خذوا ليَ منها جرعة في زجاجة
ألا إنها لو تعلمون طبيبي
وسيروا فإن أدركتم بي حُشاشة
لها في نواحي الصدر وجس دبيب
فرشوا على وجهي أفق من بليتي
يثيبكم ذو العرش خير مثيب
فإن قال أهلي ما الذي جئتم به
وقد يحسن التعليل كل أريب
فقولوا لهم جئناه من ماء زمزم
لنشفيه من دائه بذَنوب
وإن أنتم جئتم وقد حيل بينكم
وبيني بيوم للمنون عصيب
وصرت من الدنيا إلى قعر حفرة
حليفَ صفيح مطبق وكثيب
فرشوا على قبري من الماء واندبوا
قتيل كعَاب لا قتيل حروب
وكان ابن الأحنف هذا يستعطف فلا يرجو شيئًا، ولا يخاف شيئًا، وكل مناه أن يعلم فاتنوه
أنه
يحبهم، وأن يسمعوا صوت ما يجد، وإنه لمطلب زهيد، ولكنه قد يصبح صعب المنال، وانظر هذه
الأبيات التي يندر أن تجد مثلها في تصوير المحب وقد خلَّاه من أذكوا نار جواه، وتركوه
يتلوى
ويتململ فوق جمر الهوى وجمر الصدود:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم
حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
واستنهضوني فلما قمت منتصبًا
بثقل ما حملوني في الهوى قعدوا
جاروا عليَّ ولم يوفوا بعهدهم
قد كنت أحسبهم يوفون إن وعدوا
لأخرجن من الدنيا وحبكم
بين الجوانح لم يشعر به أحد
حسبي بأن تعلموا أن قد أحبكم
قلبي وأن تسمعوا صوت الذي أجد
ومن حسن الإشارة قول إبراهيم بن المهدي:
يا غزالًا لي إليه
شافعٌ من مُقلتيه
والذي أجللتُ خديـ
ـهِ فقبَّلت يديهِ
بأبي وجهك ما أكـ
ـثر حُسادي عليه
أنا ضيفٌ وجزاء الضيـ
ـف إحسانٌ إليه
والإحسان الذي يرجوه هذا الشاعر يذكرنا بقول بعض الأعراب:
آل ليلى إن ضيفكم
واجدٌ بالحي مُذ نزلا
أمكنوهُ من ثنيتها
لم يُرد خمرًا ولا عسلا
ومن جميل الاستعطاف قول ابن زيدون:
يا هلالًا تتراءا
ه نفوسٌ لا عيونُ
عجبًا للقلب يقسو
منك والعِطفُ يلين
ما الذي ضرك لو سُر
بمرآكَ الحزين
وتلطَّفت بصبٍّ
حيَنهُ فيك يحين
فوجوه اللطف شتى
والمعاذير فُنونُ
وما أوجع الأسى في قول ابن هانئ:
يا بنت ذي البُرْد الطويل نجادُه
أكذا يجور الحكم في ناديك
عيناك أم مغناكِ موعدنا وفي
وادي الكرى ألقاك أم واديك
منعوك من سِنة الكرى وسروا فلو
عثروا بطيفٍ طارقٍ ظنوك
ودعَوْكِ نشوى ما سقوكِ مُدامةً
لما تمايل عِطفك اتهموك
حسبوا التكحل في جفونك حِلية
تالله ما بأكفهم كحلوك
وجلوكِ لي إذ نحن غُصنا بانةٍ
حتى إذا احتفل الهوى حجبوك
ويندر أن تجد بين الأدباء من لا يحفظ قول ابن الطثرية:
عُقيليةٌ أما مَلاثُ إزارها
فَدِعصٌ وأما خصرها فبتيل
تقيَّظ أكنافَ الحمى ويُظلها
بنعمانَ من وادي الأراك مَقيل
أليس قليلًا نظرةٌ إن نظرتها
إليكِ، وكلا ليس منكِ قليل
فيا خُلة النفس التي ليس دونها
لنا من أخلاء الصفاء خليل
ويا من كتمنا حبه لم يُطع به
عدو ولم يؤمن عليه دخيلُ
أما من مَقامٍ أشتكي غربة النوى
وخوف العدا فيه إليك سبيلُ
فؤادي أسيرٌ لا يُفك ومهجتي
تفيض وأحزاني عليك تطول
ولي مقلةٌ قرحى لطول اشتياقها
إليك وأجفاني عليك هُمول
فديتك أعدائي كثير وشقتي
بعيد وأشياعي لديك قليل
وكنت إذا ما جئت جئت بعلة
فأفنيت عِلاتي فكيف أقول
فما كل يوم لي بأرضك حاجةٌ
ولا كل يوم لي إليك رسول
صحائف عندي للعتاب طويتها
ستُنشرُ يومًا والعتاب طويل
فلا تحملي ذنبي وأنت ضعيفةٌ
فحمل دمي يوم الحساب ثقيل
ولنختم هذا الباب بقول صاحب البدائع:
أجبني إن تفضلتَ
على المسكين بالرد
أأنسى الدهر ما جادت
به عيناكَ من وَعد؟
وأرسم للمنى حدًّا
وما لجوايَ من حد؟
وأقنع بالردى وِرْدًا
وغيري صائغ الوردِ؟
وأرضى باللظى مثوى
ووجهك جنةُ الخلدِ؟
•••
وفيًّا حافظًا أشقى
ليسعَدَ ناقض العهد
وصبًا والهًا أفنى
ليبقى جاحد الوُد
فيا ويلاهُ من حبٍّ
حملتُ بلاءَهُ وحدي!
أُعِدُّ لحمله جُهدي
فيصعَقُ بطشهُ جُهدي